الاختلاف سنة كونية اقتضتها الحكمة الإلهية، ومن غير الطبيعي أن يولد اختلافنا في الرأى كراهية أو حقدًا لا داعي له، والتنوع إرادة الله في كونه، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118).
وعن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَصْفَرُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ وَالطِّيبُ) (أخرجه الترمذي).
وفي طبائع الناس اختلاف، فمنهم الهين اللين، السهل الرفيق، ومنها الصعب، ومنهم ما سوى ذلك، ومن الناس الطيب المؤمن، ومنهم الخبيث الكافر.
ومع الإقرار بحقيقة الاختلاف بين البشر، إلا أنه تعالى لم يفرق بينهم إلا على أساس واحد هو “التقوى”، فالنبي يقول: “لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى”، وهذه من الصفات القلبية، حتى لا يمنح أحد لنفسه الأفضلية، لحسب، أو نسب، أو مظهر، أو علم، أو غنى، فالله تعالى وحده هو الذي يملك ذلك.
أهمية الاختلاف
[الاختلاف لا يفسد للود قضية] هي العبارة التي كثيرا ما تتردد في مواقف الاختلاف بين شخصين، بين رأيين أو موقفين، ومن اليسير أن ينطق الواحد منا بها تعبيرا عن تفتح أفقه تقبلا واحتراماً لاختلاف الآخر عنه.الغريب في الأمر أنه حينما يعجز الفرد عن إدارة الاختلاف مع شخص آخر من نفس المجتمع الذي ينتمي إليه، فحينئذ يتوجب قرع جرس الإنذار إيذانا بمشكلة في قيم المجتمع، لأن التعددية هي رافد مهم من روافد التقدم القويم والصحيح، يقول الكاتب ستيفان كوفي: “إن أعظم مشكلة نواجهها ونحن نتواصل هو أننا لا ننصت لكي نفهم، بل ننصت لكي نجيب”.
ولذا فالاختلاف والحوار لا ينفصلان، كما أن إحياء لغة الحوار هي أول خطوة نحو بناء مجتمع يؤمن بثقافة الاختلاف… ومن الفوائد التي تثمر نتيجة الاختلاف البناء:
- يتيح لنا الاختلاف في وجهات النظر التوصل إلى أفكار جديدة.. والبحث عن حلول لها ومناهج متعددة، كما يساعدنا في حل المشكلات.
- يتيح لنا فهم كل رأي والتعرف على جميع الاحتمالات المزمنة، كما أنه يصقل قدرتنا على الابتكار وزيادة فرص التطوير.
- لا تجعل الإنسان أسير وجهة نظر واحدة.
- إكساب الأفراد القدرة على المواجهة وإيجاد الحلول.
- الاختلاف في الرأي رحمة لأنه من المستحيل حمل الناس على رأي واحد.
القرآن وحوار المخالفين
نزل القرآن على سبعة أحرف ليعضد ثقافة الاختلاف البناء، حيث وردت فيه صيغ الاختلاف بكثرة؛ حتى يطلعنا على حقيقة الاختلاف أنه مهما حدث فهو متعدد لا يفسد للود قضية، ولكل فرد مزاجه في الاختلاف ويجب احترام كل ذي رأى، فقال تعالى:
– {وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} (البقرة: ٢٥٣).
– {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (آل عمران 19).
– {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (آل عمران 105).
– {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} (يونس 19).
– {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود 88).
– {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} (الذاريات 8).
يقول الأستاذ جمال البنا- مفكر مصري-: “إذا كان القرآن الكريم قد وصف أمة المسلمين أنها واحدة فهذا يعني أنها واحدة في عقيدتها ولكنه لا ينفي عناصر التميز والاختلاف والتنوع بين شعوب وفصائل هذه الأمة داخل الإطار الفسيح للعقيدة الواحدة”.
أسوة حسنة
ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الأسوة الحسنة لأمته في هذا الصدد حين أكد على ضرورة التعايش مع آراء الآخرين بسعة صدر متسامح، وحرية المعارضة دون إرهاب أو تخويف، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل عن رأيه إلى رأي أصحابه إذا لاح أنه أصلح، وذلك فيما يخص أمور الدنيا ومعايشها.
فيقول صلى الله عليه وسلم: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» (صحيح الجامع). وكان ابن مسعود – رضي الله عنه- يقول: «الخلاف شر».
وما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: [لا يُصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة]، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، أي ديار بني قريظة، وقال بعضهم: بل نصلِّي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنِّف واحدًا منهم.
وكان واضحا الاختلاف في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث رأى عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمت، لكن حينما ذُكر له أن النبي ومن على الأرض ميت فاء لرشده وآمن بقضاء ربه.
وليس ذلك فحسب، لكن الخلاف الأعظم حينما مات النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف الصحابة في اختيار خليفة رسول الله صلى الله عليه في سقيفة بني ساعدة، لكن تركوا المجال للرأى والرأى الأخر حتى نزل الجميع على أن يتولى أبو بكر الصديق الخلافة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك مسائل عدة اختلف فيها الصحابة إلا أنها كانت تعالج في جو من الحب وتغليب مصلحة الإسلام والأمة كلها على مصلحة رأى الفرد.
أئمة الإسلام
[إذا اجتَهَد فأصاب فله أجرانِ، وإن اجتَهَد فأخطَأَ فله أجرٌ] بهذه القاعدة النبوية سار الصحابة والأئمة من بعده حتى سادت الأمة ربوع الأرض بإيجابية واحترام رأى الآخرين، فلم يفرضوا عليهم رأيًا ما دام لم يصطدم مع العقيدة وثوابت الدين.ورحم الله الإمام مالك؛ لقد كان أَبعد نظرا، وأسد رأيا، حينما فاوضه الرشيد والمنصور على أن ينسخ نسخا من “الموطأ” ثم يبعث بنسخة إلى كل مصر من أمصار المسلمين، لكن رفض وأدرك قيمة الاختلاف في وجهات النظر معللا ذلك بقوله: لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق لهم، وعملوا به ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وغيرهم، وأصبح ردهم عما هم عليه شديدًا، فدَعِ الناس وما اختاروا لأنفسهم.
ولقد اختلف الأئمة في مسألة الحج هل تكون على وجه السرعة أم التراخي، وأدلى كلٌ بدلوه وكان ذلك في صالح الأمة وليس انتصارُا لشخص إمام من الأئمة.
وكان الإمام الشافعي يقول: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”
وقد أجمع علماء الأمة على عدم قدسيته أي شيء إلا كتاب الله وسنة رسوله، وكما يقول الإمام مالك “كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا المقام” مشيرا إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
المعذرة واجبة
[نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه] قاعدة جددها الإمام واقتبسها الأستاذ حسن البنا- مؤسس جماعة الإخوان المسلمين – وسار بها في جميع مواقفه حتى وضع فكره وجماعته على الخريطة العالمية بحسن تعامله مع هذه القاعدة.ففي بداية حياته بالإسماعيلية ابتعد عن مواطن الخلاف بين بعض العلماء واختلافهم في فرعيات الدين، وحرص على تربية الجميع على روح الاختلاف البناء والعمل لصالح الدين والمجتمع، ولذا جاءت مقولته: [البعد عن مواطن الخلاف الفقهي.. فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لابد منه، إذ إن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، لهذا كان الخلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم، وما زال كذلك وسيظل إلى يوم القيامة.. وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم].
ثم يأخذ الجميع على الوقوف على طبيعة وحقيقة الخلاف فيقول: الاختلاف إما أن يكون ناشئا عن هوى فهو مذموم، أو عن الاجتهاد المأذون فيه، ويرجع الاختلاف فيه إما إلى الدليل نفسه، وإما إلى القواعد الأصولية المتعلقة به.
حتى أن رشيد رضا سعى إلى التوفيق في الرأي بين الشيعة والسنة مرتكزا على قاعدة (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).
كما أن لنا في الأستاذ عباس السيسي أسوة، وهو الذي نجح في فرض نفسه بالحب وتجاوز الخلاف المذموم مع الآخرين حتى أصبح محبوبا بين محبيه وخصومه.
وأيضا الأستاذ عمر التلمساني – المرشد الثالث للإخوان – الذي نجح في التعامل مع رأي الآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة حتى وجدنا أن جميع طوائف الأمة شاركت في تشيع جنازته، وتبارى الجميع في ذكر فضيلة تعايشه مع الرأي والرأي الآخر في كتاباتهم، حتى أن فريد النقاش وإبراهيم سعدة وغيرهم ممن كانوا يخالفونه في الأيديولوجية يثنون عليه في مواقف كثيرة معهم كان يتعامل فيه بحس راقٍ وذوق رفيع في التعايش مع الرأي ومناقشتهم بالحسنى.
أسباب الاختلاف المؤدي للتنازع والشقاق:
- ضعف ثقافة الحوار
- تدني مستوى التعليم وانتشار الأمية
- انتهاك القانون وغياب العدالة
- انتشار ثقافة الاستهلاك على حساب الإنتاج
- اختفاء مظاهر الإبداع والابتكار و الاكتفاء بالتقليد
كيفية التعايش مع الرأي الآخر؟
من أكثر المشكلات شيوعا بين الناس عدم تقبل النقد، أو اختلاف وجهات النظر، واعتبار أي تعارض في الآراء خلافا شخصيا، وهو ما يجب أن نتغلب عليه، ونتعامل في جو يسوده الصالح العام، ولنجاح ذلك لابد من:
- استحضار نية الوصول إلى الحق أثناء الحوار مع الآخرين، والاجتهاد وتحري الوسائل المعينة على ذلك.
- التواضع والاعتراف بالخطأ: فجميعنا يعلم أننا بشر، ومعرضون للخطأ، وبالتالي ليست أفكارنا كلها صحيحة، وليست أفعالنا مُنزهة عن الخطأ، فلا يأخذنا الغرور عن حجب الحق، وصدق الشافعي [رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب].
- نشر ثقافة الحوار المبنية على التسليم بحقّ الاختلاف والتنوع: فجميل أن نتحاور دون إقصاء أو تهميش، والأجمل أن نتبادل المعرفة والرأي دون ترهيب.
- التسامح ونبذ العنف: فقد يحدث الاختلاف لجهل في الثقافة أو الإلمام والمعرفة بطبيعة المشكلة، ولذا لابد من تغليب روح التسامح إذا تجلى الأمر ووضحت الأمور، ونبذ العنف والتخلي عن ثقافة التهميش والتغييب والإقصاء والاستئصال.
- تحويل الاختلاف لطاقة إيجابية: فوجود أكثر من وجهة نظر أو رأي حول الموضوع الواحد لا يمكن تفسيره على أنه حالة سلبية، بل العكس من ذلك فإنها حالة إيجابية مفيدة لابد منها في أي نقاش يجري بين مجموعة من الأفراد، لما في ذلك من فوائد كثيرة وكبيرة فأعقل الناس من جمع إلى عقله عقول الناس.
- تشجيع الشباب على تقبُّل الاختلاف بين الأجيال المتعاقبة، بصفته سُنَّة الحياة ونشر الروح وسطهم بإشاعة الممارسة الديمقراطية في كلِّ مستوياتها ومجالاتها وبالأخص منها في المجال السياسي، والقضاء على كلِّ أشكال التعصب، وإشاعة قيم التسامح والمرونة والانفتاح على الجديد.
- الالتزام بآداب الحوار كالإنصات وعدم قطع الحوار بصوت مرتفع للسيطرة على النقاش، بل يجب مراعاة التكلم بذوق وأدب واختيار الكلمات المعبرة الجميلة، والابتعاد عن الكلمات النابية المبتذلة قدر الإمكان، ولنا في رسول الله القدوة الحسنة في حواره مع عتبة بن ربيعة حينما قال له بعد أن سمع منه: أقد فرغت يا أبا الوليد ؟.
أخيرا
لقد خلق الله الناس أممًا لتتعاون فيما بينها وتسود الحب والرحمة بينهم وحث الشرع على الوحدة وعدم الفرقة الناتجة عن الاختلاف الذميم الذي يفرق الأمة ويشرذمها: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).