ورد لفظ النفس في القرآن الكريم مائتين وخمسا وتسعين مرة، وهو من الألفاظ المشتركة التي تحمل عدة معانٍ، ومن أنواع النفس التي ذكرت في القرآن الكريم:
النفس الأمارة: وهي التي تأمر الإنسان بالسيئات، والتي قال عنها القرآن الكريم: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [يوسف: 53]، والنفس اللَّوامة: وهي التي تندَم بعد ارتكاب المعاصي والذنوب فتلوم نفسها والتي قال عنها القرآن الكريم: { وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [القيامة: 2]، والنفس المطمئنة: وهي النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن والواصلة إلى مرحلة الاطمئنان والراحة والطاعة التامة لأوامر الله والمشمولة بعناياته الربانية، والتي قال عنها القرآن الكريم: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } [الفجر: 27]، والنفس الراضية: وهي النفس التي رضيت بما أوتيت، والتي قال عنها القرآن الكريم: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر: 28]، والنفس المرضية: وهي النفس التي رضي الله عَزَّ وجَلَّ عنها والتي قال عنها القرآن الكريم: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر: 28]، ونتحدث في هذا المقال عن النفس اللوامة؛ تعريفها، وفضلها، ومراحل الطريق الموصلة إليها.
تعريف النفس اللوامة
– قال الثعلبي: (هي نفس المؤمن الذي لا تراه إِلا يلوم نفسه يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه إِلا وهو يعاتب نفسه).
– قال ابن عباس ومجاهد والحسن: (هي والله نفس المؤمن ما يرى إِلا يلوم نفسه).
– وقال مجاهد: (هي والله التي تلوم على ما فات وتندم فتلوم نفسها على الشر لما فعلته وعلى الخير لم لا تستكثر منه).
– وقيل: إِنها ذات اللوم.
فضل النفس اللوامة
ويقول الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن في معرض الآية: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2].
(فهذه النفس اللوامة المتيقظة الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها وتتلفت حولها وتتبين حقيقة هواها وتحذر خداع ذاتها، هي النفس الكريمة على الله حتى ليذكرها مع القيامة).
والنفس اللوامة أيضاً: هي النفس اليقظة، وهذه اليقظة التي كشفت للإِنسان عن قلبه سِنة الغفلة وأضاءت له قصور الجنة فصاح قائلاً:
ألا يا نفس ويحـك ســـاعديني بسـعي منـــــــك في ظلم الليـالي
لعلك في القيـامـة أن تفــوزي بطيب العـيش في تلك العـلالي
فرأى في ضوء اليقظة ما خلق له وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إِلى دار القرار ورأى سرعة انقضاء الدنيا وقلة وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها وفعلها بهم؛ فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً: (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) فاستقبل بقية عمره، مستدركاً ما فات مجيباً ما أمات، مستقبلاً ما تقدم له من العثرات، منتهزاً فرصة الإِمكان التي إِن فاتت فاته جميع الخيرات، ثم يلحظ في نور تلك اليقظة ونور نعمة ربه عليه ويرى أنه آيس من حصرها وإِحصائها عاجز عن أداء حقها، ويرى في تلك اليقظة عيوب نفسه وآفات عمله وما تقدم له من الجنايات والإِساءات والتقاعد عن الكثير من الحقوق والواجبات، وتنكسر نفسه وتخشع جوارحه ويسير إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نفسه، ويرى أيضاً في ضوء تلك اليقظة عزة وقته وخطره وأنه رأس مال سعادته؛ فيبخل به فيما لا يقربه إلى ربه فإِن في إِضاعته الخسران والحسرة وفي حفظه الربح والسعادة.
وقيل: هي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيرها في طاعة الله مع بذل جهده، فهذه غير ملومة، وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله واحتملت ملام اللوم في مرضاته فلا تأخذها في الله لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله.
كيف تبنى النفس اللوامة؟
يقول الأستاذ: سيد قطب في ظلال قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس 7 – 10].
الإِنسان مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال؛ فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير والشر على السواء، وهو إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة مزود بقوة واعية مدركة موجهة للإِنسان، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب، وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو نفسه {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [ الرعد: 11 ].
فأمر تربية النفس وإِعدادها حتى تكون نفسا حية يحتاج من صاحبها إلى تدرج وصبر طويل. وحتى تتكون النفس اللوامة لابد من أمور نذكر منها:-
أ- المحاسبة:
فإِن النفس اللوامة تعيش في منـزلة المحاسبة كما روي الإِمام أحمد: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني“. (دان نفسه أي: حاسبها).
وذكر الإِمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإِنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية”.
قال الحسن: “المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله وإِنما خف الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة”.
إِن المؤمن يفاجئه الشيء فيعجبه فيقول: “والله إِني لأشتهيك وإِنك لمن حاجتي ولكن والله ما من حيلة إِليك، هيهات حيل بيني وبينك”، ويفرط منه شيء فيرجع إلى نفسه فيقول: “ما أردت إلى هذا مالي ولهذا، والله لا أعود إلى هذا أبداً”، إِن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بين هلكتهم. إِن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه مأخوذ عليه في ذلك كله.
قال مالك بن دينار: “رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل؛ فكان لها قائدًا”.
ومحاسبة النفس نوعان:
النوع الأول:
هو أن يقف عند أول همه وإِرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجاحته على تركه.
قال الحسن رحمه الله عليه: “رحم الله عبداً وقف عند همه فإِن كان لله أمضاه وإِن كان لغيره تأخر”.
النوع الثاني:
محاسبة النفس بعد العمل، وهي ثلاثة أنواع:
- محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. وحق الله في الطاعة ستة أمور: الإِخلاص في العمل – التضحية لله فيه – ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم – وشهود مشهد الإِحسان – وشهود منة الله – وشهود تقصيره فيه بعد ذلك فيحاسب نفسه، هل وفّي هذه المقامات كلها حقها؟!.
- أن يحاسب نفسه على عمل كان تركه خيراً له من فعله.
- أن يحاسب نفسه على أمر مباح أتم فعله، وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحاً أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [ الحشر: 18 ].
لذلك: من أحوال أصحاب النفوس اللوامة التي دأبت على المحاسبة الاستغفار يقول الله تعالى {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [ الذاريات: 18 ]. وهؤلاء هم الذين يستغفرون الله بعد جهدهم في العبادة.
يقول الله تعالى أيضاً: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} [ آل عمران: 16 – 17 ].
ب- التوبة:
فإِذا نظرنا إلى امرأة العزيز في انتقالها من حال نفسها إلى ما هو أرقى.
اعترفت بذنبها: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [ يوسف: 52 – 53 ].
فالتوبة هي رجوع العبد إلى ربه ومفارقته لطريق المغضوب عليهم والضالين، وذلك لا يحصل إِلا بهداية الله له إلى الصراط المستقيم ولا تحصل هدايته إِلا بإِعانته وتوحيده.
والله وضع التائبين في منـزلة عالية، فالله حينما يصف المجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله فأول صفاتهم التائبون: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [ التوبة: 112 ].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إِني لأستغفر الله وأتوب إِليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (صحيح البخاري رقم 5832 عن أبي هريرة).
ج- الرقي بالنفس بالطاعات والذكر:
فالله تعالى يقول: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)” [ الشمس: 7 – 10 ].
ولقد جاءت شرائع الله عز وجل بمجاهدة النفس حتى تستقيم، عن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله) (مسند الإِمام أحمد حديث 22842). رواه أحمد.
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [ النازعات: 40–41]. ومن ثم كانت نقطة البداية في الصحة النفسية عدم الرضا عن النفس.
يقول ابن عطاء في الحكم: (أصل كل معصية وشهوة وغفلة، الرضا عن النفس وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه). {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [ العنكبوت: 69 ].
ومن الأعمال التي ترتقي بالنفس لتصل إلى حالة النفس اللوامة المحافظة على الطاعات؛ صلاة، صيام، زكاة، حج. بداية من الفرائض ثم بعد ذلك النوافل من سنن الصلوات إلى قيام الليل ومن سنن الصيام ومن الصدقات وأداء العمرة كذلك ذكر الله تعالى.
{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [ الرعد: 28 ].
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [ التوبة: 103 ].
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [ العنكبوت: 45 ].
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [ البقرة: 183 ].
وحينما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين عن قوله تعالى في سورة المؤمنون “وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)” [ المؤمنون: 60 ]. إِنهم الذين يزنون ويسرقون قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا بنت الصديق بل هم الذين يصلون ويزكون ويخافون ألا يتقبل منهم).
فِإن كثرة الطاعات تولد عند الإِنسان الخوف من الله، يقول الله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [ الزمر: 9 ].
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [ فاطر: 28 ].
فحينما يتعود اللسان على الذكر، والعين على الخشية والبكاء، واليد على الصدقة، والبطن على الصيام، والقلب على الوجل، فمن الصعب أن ترضى النفس بغير ذلك. من هنا فإِن النفس حتى ترتقي لابد لها من كل ذلك.
د- التعود على الحلال:
عن أبي هريرة: (إِن الله تعالى طيب لا يقبل إِلا طيباَ) (مسند أحمد 7998).
عن نعمان بن بشير: (إِن الحلال بيّن وإِن الحرام بيّن). (سنن النسائي 5614 جزء من حديث رواه أبو داود وابن ماجه).
والنفس تتعود، فإِذا تعودت على شيء أصبحت غير قادرة على أن تنال غيره أو تحب غيره. إِنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم والصبر بالتصبر.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً فأيما قلب أشربها نكتت في قلبه نكتة سوداء وأيما قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين قلبٍ أسود مرباداً كالكوز مكخياً لا ينكر منكراً ولا يأمر بمعروف وقلبً أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) (صحيح مسلم رقم 207 كتاب الإِيمان عن حذيفة قال كذا عن عمر).
هـ – المجاهدة:
أركان المجاهدة أربعة: العزلة، والصمت، والجوع، والسهر.
1- العزلة:
يقول الله على لسان إِبراهيم: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)} [ مريم: 48 ].
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [ الأنعام: 68 ].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إِما أن تبتاع منه وإِما أن تشم منه رائحة طيبة، ونافخ الكير إِما أن يحرق ثيابك وإِما أن تشم منه رائحة خبيثة). (صحيح البخاري رقم 5108 كتاب الذبائح والصيد).
ومعنى العزلة هنا: أن يعتزل الإِنسان مجالس الفسق والنفاق والمعصية والمجالس التي فيها استهزاء بآيات الله وغير ذلك مما ينبغي العزلة عنه.
وهنا الحديث عن العزلة كدواء للقلب (ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكره، فإِذا خلا الإِنسان وجال بفكره في ملكوت السماوات والأرض انعكس ذلك على قلبه صلاحاً).
2- الصمت:
وهو الركن الثاني من أركان المجاهدة في اصطلاح السائرين إلى الله. عن سهل بن سعد قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه – أي لسانه – وما بين رجليه أضمن له الجنة). (صحيح البخاري 5993). وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟)، قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: (كف عليك هذا). (رواه الترمذي من حديث معاذ بن جبل).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). متفق عليه عن أبي هريرة (صحيح البخاري رقم 5559 كتاب الإِيمان).
اللسان أداة التعبير الأولى عن النفس والنفس ميالة لأشياء كثيرة واللسان أقرب الطرق للتعبير عن الأشياء. وتعويد الإِنسان نفسه على الصمت مقدمة لاعتياد الإِنسان على أن يحاكم كلمته قبل أن يقولها.
3- الجوع:
الله تعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [ الأعراف: 31 ].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه). (مسند ابن ماجه 3340 الأطعمة). وأجمل نموذج للجوع الصيام، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب من استطاع الباءة منكم فليتزوج فإِنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإِنه له وجاء). (صحيح البخاري 1772)، ومن أكل كثيراً نام كثيراً فخسر كثيرا، وحال النفوس الطيبة أنها قليلة النوم.
4- السهر:
قيام الليل والتهجد والاستغفار بالأسحار، وصلاة الفجر، لما نزلت الآيات مطلع سورة المزمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم:”يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)” [ المزمل: 1–6 ] جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها فدعته أن يطمئن وينام. قال لها: مضى عهد النوم يا خديجة! ويقول الأستاذ سيد قطب في ظلال سورة المزمل: (وإِن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها، والاتصال بالله وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إِليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، كأنما هو يتنـزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إِشعاعاته وإِيحاءاته وإِيقاعاته في الليل الساجي.. إِن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول صلى الله عليه وسلم، وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير.
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} (ناشئة الليل) هي ما ينشأ منه بعد العشاء، والآية تقول: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا}: أي أجهد للبدن، و{وَأَقْوَمُ قِيلًا}: أي أثبت في الخير (كما قال مجاهد) فإِن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش، بعد كد النهار، أشد وطأً وأجهد للبدن، ولكنها إِعلان لسيطرة الروح، واستجابة لدعوة الله، وإِيثار للأنس به، ومن ثم فإِنها أقوم قيلاً، لأن للذكر فيها حلاوته، وللصلاة فيها خشوعها، وللمناجاة فيها شفافيتها، وإِنها لتكسب في القلب أنساً وراحة وشفافية ونوراً، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره، والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إِليه وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحاً واستعداداً وتهيؤاً، وأي الأسباب أكثر تعلقا به وأشد تأثيراً فيه).
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.