يحرص الإسلام على التوسط والاعتدال في المعاملات والعبادات؛ لهذا فإن القائد التربوي مدعو إلى أن يتوسط في توجهاته قراراته ويبحث في أيسر الحلول المقدمة إليه من البدائل المتاحة، كما أنه مدعو إلى المرونة في التعامل مع الآخرين وإشراكهم معه عند اتخاذ القرارات، ومطالب بالمرونة التي قد تصل به إلى الاعتراف بالخطأ وتصحيحه، حتى ولو مارس ذلك مع مرؤوسيه.
مفهوم المرونة
يقصد بالمرونة في اللغة كما ورد في القاموس المحيط للفيروز آبادي [ت: 817 هـ]: ((مَرَنَ مَرَانَةً ومُرُونَةً ومُرُوناً: لانَ في صَلابَةٍ) [ص: 1592].
ويُقصد بها اصطلاحا عدة معانٍ، فهي تعني: قابلية الشيء للتغير، وتعني: اختيار أيسر الحلول من البدائل المتاحة، وقد تعني: التراجع عن الأمر المتخذ عند تبين قصوره أو إيجاد قرار أفضل منه.
ومن معانيها أيضًا: قدرتك على تغيير وسائلك للوصول إلى أهدافك واختيار الاستجابات المناسبة للظروف المختلفة. وكذلك: قدرتك على إيجاد أكثر من حل صحيح أو جواب واحد أو وسيلة صحيحة لحل المشكلة. وأيضًا: قدرتك على التفاعل أو التجاوب بطريقة مرنة مع مختلف الظروف.
والإداري المسلم مطلوب منه التوسط في القرارات وتقدير الظروف، واختيار أيسر السبل، والتراجع عن الخطأ عند تبيانه كذلك من المرونة تفسير القواعد واللوائح المنظمة للعمل للصالح العام دون إخلال بهذه القواعد للصالح الخاص بلا تعارض بينهما، والعمل على اختصار الخطوات الروتينية في عمله لتحقيق الصالح العام، وكذلك عليه أن يتيح فرصة تصحيح الخطأ من المخطئ من العاملين معه، والحرص على استماع كافة وجهات النظر عند مواجهة المشكلات المدرسية سواء من المعلمين أو الطلاب أو أولياء الأمور.
أدلة من القرآن الكريم على المرونة
1ـ قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28].
لقد فسر ابن كثير (ت: 774هـ) هذه الآية: ((أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء وأعرضت عنهم لفقد النفقة (فقل لهم قولاً ميسوراً) أي عدهم وعداً بسهولة ولين)) [الجزء الرابع، ص: 61].
ومن هذه الآية الكريمة يتبين لنا قمة المرونة في الإسلام بالقول الميسور حتى عند عدم القدرة على تلبية الطلب أو عدم الاستطاعة فلا وجود للرفض المطلق الجارح، وكذلك في العمل الإداري فإنه ينبغي المرونة في القول وفي التصرف مع جميع العاملين بالمنظمة.
2ـ وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]
وقوله تعالى: {… فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62].
وهذه قمة المرونة.. يقول الأستاذ سيد قطب في تفسير الظلال: (إن المعسر في الإسلام لا يطارد من صاحب الدين أو من القانون والمحاكم إنما ينظر حتى يوسر، ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين، فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه، إن تطوع بهذا الخير وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة)) [الجزء الأول، ص: 333].
ونجد المرونة كذلك في قبول أعذار العباد من الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183ـ 184].
أدلة من السنة النبوية الشريفة على المرونة
1ــ عن عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل)) رواه مسلم (جـ 15، ص 83).
2ــ من المرونة في تحصيل القروض ما ذكره البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه)) رواه البخاري (جـ 3، ص 13).
المرونة في صدر الإسلام
تتسم مرونة الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابة عهد صلح الحديبية في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما أحصر النبي عند البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثاً ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف وقرابة، ولا يخرج بأحد معه من أهلها ولا يمنع أحداً يمكث بها ممن كان معه.. قال لعلي: ((اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)) فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله؛ فأمر علياً أن يمحاها فقال علي: لا والله لا أمحاها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرني مكانها)) فأراه مكانها، فمحاها وكتب ابن عبد الله، فأقام بها ثلاثة أيام، فلما أن كان اليوم الثالث، قالوا لعلي رضي الله عنه: هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره فليخرج، فأخبره بذلك فقال: ((نعم))؛ فخرج)) رواه مسلم ( جـ 12، ص 136ــ 138). وهذه توضح مدى ما يتسم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرونة في التعامل مع الأمور.
ومن المرونة ما أورده الطبري ( ت 31.هـ ) في ـ تاريخ الأمم والملوك ـ من خطبة الصديق من سماحة للناس بتقويمه متى ما علموا منه اعوجاجاً: ((أيها الناس إنما أنا مثلكم وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق، إن الله اصطفى محمداً على العاملين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها إلا أن لي شيطاناً يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني)) ( جـ 3،ص 224).
أهمية المرونة للإدارة التربوية
تمثل المرونة عند القادة التربويين أهمية خاصة في مجال الإدارة التربوية.
فالقائد التربوي الذي يتسم بصفة المرونة عادة يكون محبوباً من مرؤوسيه. كما أنه يكون أقدر على تنفيذ أهداف المؤسسة التربوية من خلال الوسائل المبسطة التي يهتدي إليها.
وتتضح أهمية مرونة الإدارة في اختيار القادة التربويين للحلول الميسرة عند اتخاذ القرارات مما يساعد على ترحيب العاملين بهذه القرارات وتقبلها والعمل على تنفيذها ونجاحها، كما تكمن أهمية مرونة الإدارة المدرسية في تسهيل القادة التربويين لإجراءات تنفيذ القرارات المدرسية بأقل تكلفة ممكنة، وفي أقصر وقت متاح. كما تتسع أهمية مرونة القائد التربوي أيضاً لتشمل قدرته على تقبل آراء وانتقادات العاملين معه من فئتي المعلمين، والإداريين، وكذلك من فئة الطلاب، مما يجعله أقدر على تصحيح القرارات الخاصة متى ما تأكد من وجود خلل في القرار الجاري اتخاذه أو عدم جدوى ذلك القرار أو صعوبة تنفيذه.
كذلك تتضح أهمية مرونة الإدارة التربوية في إتاحة الفرصة للعاملين لإبداء الرأي في مختلف الأمور التي تخص المدرسة والعملية التعليمية والتربوية أو حتى ما يشغلهم من أمورهم الخاصة، مما يساعد على تطوير العمل إلى الأفضل في ظل المناخ المريح الذي ينتج عن توفر المرونة في التعامل بين القائد التربوي والمرؤوسين من العاملين معه بالمدرسة.
تطبيق مفهوم المرونة
من الأمور التي تساعد الداعية والمربي على تطبيق مفهوم المرونة ما يلي:
- تحديد الأهداف التربوية التي تتفق مع السياسة العامة بما يسمح بتنفيذها في الواقع الممكن، وتعديلها في ضوء الظروف المستقبلية المتغيرة.
- وضع سياسة تربوية تتميز بدرجة من الثبات خلال العملية التربوية، مع مراعاة مراجعتها وتطويرها بما يتناسب مع المتطلبات المتغيرة للمجتمع.
- وضع الخطط القصيرة أو الطويلة المدى والتي تتسم بالمرونة في ضوء الممكن من الموارد المادية والبشرية المتاحة حالياً للمدرسة، والتي يتوقع توفرها في المستقبل القريب والبعيد.
- اختيار أفضل الحلول بين البدائل المتاحة عند اتخاذ القرار في ضوء معيار أقل تكلفة وأقصر وقت وأعلى جودة ممكنة.
- تفسير القواعد واللوائح المنظمة للعمل للصالح العام دون إخلال بهذه القواعد.
- اختيار الخطوات التنظيمية – الروتينية – ما أمكن لتحقيق صالح العمل عند الضرورة.
- إتاحة الفرصة أمام العامل المخطئ لتصحيح الخطأ قبل الاهتمام بمحاسبته وبما لا يتجاوز القوانين المنظمة لذلك.
- السماح للمعلمين بإبداء وجهة نظرهم حول سير العمل بالمدرسة وانتقاده وتقبل الآراء حول طبيعة هذا السير.
- السماح للمربين بإبداء الرأي في الموضوعات التي تمس شئونهم الخاصة والتي تتعلق بطبيعة المهنة التربوية.
- القدرة على العدول عن القرار المتخذ عند تبين عدم سلامته.
- القدرة على تفويض الصلاحيات المخولة بالنظام إلى الوكلاء أو المساعدين من ذوي الخبرة حتى يتحقق مفهوم العمل الجماعي في الإدارة الحديثة.