مع انتشار النظريات والاتجاهات التربوية الغربية المتعددة ورواجها في الساحة العربية والإسلامية مدعمة بالإعلام والنفوذ الغربي، ظهرت الحاجة الملحة إلى وجود دراسات وأبحاث تعرف بالمنهج التربوي الإسلامي الأصيل وتسلط الضوء عليه، للعمل على تأصيل الأسس والقواعد لبناء منهج تربوي إسلامي يحفظ لهذه الأمة تميزها وطابعها الخاص، ونتناول في هذا المقال ما تتميز به مصادر القيم في التربية الإسلامية عن مصادرها في التربية الغربية.
تعريف القيم
القيم: جمع قيمة، وهي صفة في شيء تجعله موضع تقدير واحترام، أي: أن هذه الصفة تجعل ذلك الشيء مطلوباً ومرغوباً فيه، سواءً كانت الرغبة عند شخص واحد، أو عند مجموعة من الأشخاص، ويمكن تعريفها كالآتي: “القيم هي المعتقدات التي يحملها الفرد نحو الأشياء والمعاني وأوجه النشاط المختلفة، وهي تعمل على توجيه رغباته واتجاهاته نحوها، وتحدد له السلوك المقبول والمرفوض والصواب والخطأ، وتتصف بالثبات النسبي“.
أنواع القيم
لكل أمةٍ أو مجتمعٍ مصدر تُستقَى منه القيم، فقد تكون قيما دينية أو بشرية، وما كان دينيا قد يكون صحيحا وقد يكون مُحرَّفا، وما كان بشريا قد يكون متوافقا مع الدين كقيمة إتقان العمل عند الكثير من المؤسسات الغربية بصرف النظر عن الدافع إلى ذلك، وهو متوافق مع ديننا، والفطرة الإنسانية النقية من أعظم مصادر القيم حتى لو كان الإنسان في مجتمعٍ جاهلي، وهذا ما يُفسِّر لنا الكثير من القيم الخيِّرة التي كانت سائدة في الجزيرة العربية قُبيل الإسلام، كقيمة الكرم والمحافظة على العِرْض ونُصْرة المظلوم مع ما رافق هذه القيم من الانحراف في بعض جوانبها. وقد تكون القيم مناقضة للدين كقيمة الحرية العقدية والشخصية الموجودة في التصور الغربي، إذ تتناقض مع الدين في الكثير من تفاصيلها، بالنسبة للمسلمين فإن أصول القيم عندنا دينية ثابتة لا تتزحزح، لأن مصدرها القرآن الكريم وما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت به الأمة حتى صار بمثابة التوجُّه الجمعي، وتتميز هذه القيم بثباتها ومعياريتها.
مصادر القيم الإسلامية
الإسلام دين شامل ومتكامل يشمل جميع نواحي الحياة البشرية، ويجعل الإسلام من إصلاح الفرد أساسا لإصلاح المجتمع والحياة جميعا، لذلك اهتم الإسلام بتكوين منظومة قيمية تضمن صلاح الإنسان واتزانه، وللقيم الإسلامية عدة مصادر، هي:
1- القرآن الكريم: وهو المصدر الأول والمنبع الأصيل للقيم الإسلامية، أنزله الله تعالى لهداية البشر وتوجيههم إلى القيم والأخلاق السامية واعتبار ذلك هو طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 – 15].
2- السنة النبوية: وهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم لمعرفة الإسلام والشريعة والقيم والأخلاق، والسنة هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، والسنة شارحة للقرآن؛ تفصل مجمله وتخصص عامه، ولا بد للمسلم من الأخذ بالسنة، قال تعالى: {… وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].
3- الإجماع: وهو اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي، فهو أيضا مصدر من مصادر القيم الإسلامية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سأَلْتُ ربِّي عزَّ وجلَّ أرْبعًا، فأعْطاني ثَلاثًا، ومنَعَني واحدةً؛ سأَلْتُ اللهَ عزَّ وجلَّ ألّا يَجمَعَ أُمَّتي على ضَلالَةٍ، فأعْطانِيها}.
وتتميز القيم الإسلامية بما يلي:
أ- أنها مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهما الأساسان اللازمان للبحث عن القيم الإسلامية.
ب- أنها مستمدة من الأحكام الشرعية، فالحياة الإسلامية كلها تقوم على هذه الأحكام، وتأتي القيم في صورة أمر أو نهي بكافة درجاته، وهي بهذا تحدد توجهات الإنسان في حياته، ونظرته إلى الأشياء والمواقف.
ج- أن أساسها الشمول والتكامل فهي تراعي عالم الإنسان وما فيه، والمجتمع الذي يعيش فيه، وأهداف حياة الإنسان طبقا للتصور الإسلامي، أي تحدد أهداف الحياة وغايتها وما وراءها، ومن ثم تكون قيمة أي إنجاز بشري في تقدير حسابه وجزائه، في الدار الآخرة مع عدم إهمال الدنيا، وكذلك فهي تستوعب حياة الإنسان كلها من جميع جوانبها، ثم هي في هذا لا تقف عند حد الحياة الدنيا.
د- أنها تقوم على مبدأ التوحيد، باعتباره النواة التي تتجمع حولها اتجاهات المسلم وسلوكياته، حتى يصل لأهدافه، وبهذا تجعل لحياة الإنسان معنى ووظيفة.
هـ- أنها تتميز بالاستمرارية والعمومية لكل الناس في كل زمان ومكان، ولا تتأتى تلك الاستمرارية إلا إذا كانت هذه القيم موضوعية، أي من عند الله تعالى، فالإنسان لا يمكنه من تلقاء نفسه ودون معونة إلهية أن ينشىء نظاما حياتيا صالحا له، ولا يمكنه أن يقيم منظومة قيمية تساعده على أداء دوره في الأرض، بسبب ما يطرأ عليه من ميل للهوى، وما جبل عليه من ضعف، ولذا فإن الوحي هو الذي يستطيع ذلك، وهذا ما حدث فعلا، فقد جاء الوحي بقيم خالدة تحفظ على الإنسان جهده وحياته، وترتفع به إلى المستوى اللائق به كخليفة الله في الأرض.
مصادر القيم في التربية الغربية
وهكذا كانت مصادر القيم في التربية الإسلامية واضحة ثابتة شاملة تتميز بالاستمرارية والموضوعية إذ إنها تشريع الحكيم الخبير جل في علاه، في الوقت الذي نجد فيه أن مصادر القيم في التربية الغربية متباينة متعارضة فمصدر القيم عند المثاليين هو نظرية العالم العلوي المحتوي على غاية الكمالات والحقائق، وعلى النفس البشرية أن تتصرف بناء على هذا الأساس لترقى في طلبها للكمال، بينما يأتي العقل عند الواقعيين بالمرتبة الأولى في كونه مصدراً للعلوم والمعارف، التي يحصل عليها ويحاكمها طبقاً للتجارب والخبرات العملية الواقعية.
وبالمقابل فإن الطبيعة هي المصدر الرئيسي للإلهام والمعرفة عند الطبيعيين، ويبرز دور العلم والمنفعة كملهم رئيسي لجميع القيم والمبادئ عند البراجماتيين، فيما تعتبر الحرية المطلقة المعبّرة عن وجود الإنسان نفسه هي المصدر الرئيسي المحرك للوجوديين، وتليها معظم الاتجاهات والنظريات التربوية الحديثة التي وضعت نصب أعينها في المقام الأول راحة الفرد وحريته الشخصية كأساس لكل القوانين والمبادئ التي يبنى عليها المجتمع، وينبثق منها بعد ذلك ضرورة العمل التعاوني بين الأفراد لإنجاح أي مجتمع مدني.
القواسم المشتركة بين النظريات التربوية الغربية
هناك قواسم مشتركة بين النظريات التربوية الغربية تتمثل فيما يلي:
أولاً: الاعتماد المطلق على العـقل:
مـنــذ البداية يمكننا أن نلفت النظر إلى حقيقة أساسها: أن النظريات الغربية على تعددهــــا وتباينها في بعض الخصائص والصفات، تكاد يجمعها قاسم مشترك هو: كونها صادرة عن مصدر وحيد في المعرفة هو: العقل البشري في حركته ومعاناته وقلقه المأساوي في البحث عن الحقيقة، وكونها صادرة عن تصور واحد للكون والإنسان والحياة.
والجدير بالاعتبار أنه ما من نظرية في التربية إلا وهي انعكاس لمذهب فلسفي ما، وهذه قاعدة عامة لا يمكن أن يند عنها أي مذهب تربوي، والاختلافات التي تظهر بين نظرية وأخرى ليست إلا تعبير عن الاختلاف والتنوع في الملابسات والتطورات التاريخية التي مرت بها المجتمعات الغربية، بكل ما تحمله تلك التطورات من أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية وغيرها.
ثانياً: النظريات التربوية الغربية ضيقة الأفق أحادية النظرة:
فالنظرية التربوية المثالية هي صدى للفلسفة الأفلاطونية؛ فتلك النظرية تنطلق أساساً من (الصدارة المطلقة للروح على المادة) وهي تفضي إلى تصرف تأملي يهمل المشكلات الزمنية، وطبيعة الإنسان الأرضية، وتعنى أساساً بكمال الروح ونجاتها، وانطلاقاً من هذه المعطيات يتجلى لنا الطابع النظري الذي يكتسيه التعليم في إطار النظرية المثالية.
أما المذهب الطبيعي، فإنه على العكس من المذهب المثالي؛ إذ يركز على الجسد وما به من عواطف وغرائز وميول، فيعطيها الأهمية القصوى على حساب العقل.
ومما يؤخذ أيضاً على هذه النظرية تضييق نطاق التربية بحيث ينحصر في الطفل، الأمر الذي أدركت التربية المعاصرة خطأه وقصوره فوسّعت نطاق التربية ليشمل المراهق والراشد والشيخ.
أما المذهب البرجماتي، وهو ذلك المذهب الذي يحوّل (النظر بعيداً عن الأشياء الأولية والمبادئ والقوانين والحتميات المسلّم بها، (ويوجه) النظر نحو الأشياء الأخيرة: الثمرات، النتائج، الآثار.
فـإن مركـز الثقـل فـي اهتمامـه لا ينصبّ على الحقائق الثابتة، وإنما على ما يحصله الإنسان من منافع يستثمرها في حياته العلمية حتى إنه ينظر إلى الحقيقة على أنها هي المنفعة وفي هذا خلط واضح بين الحقيقة نفسها، والهدف الأساس من محاولة الظفر بها، فقد ينبغي أن يكون الغرض من اكتساب الحقائق هو استثمارها في المجال العملي والاستنارة بها في تجارب الحياة، ولكن ليس هذا هو معنى الحقيقة بالذات، فإعطاء المعنى العلمي (البحت) للحقيقة، وتجريدها من خاصية الكشف عما هو موجود وسابق استسلام مطلق للشك الفلسفي الذي تحارب التصورية والسفسطة لأجله، وليس مجرد الاحتفاظ بلفظة الحقيقة في مفهوم آخر كافياً للرد عليه، أو التخلص منه، وما دام تيار الحياة متنامياً في سيره، فإن حقائق جديدة تلغي وتتجاوز الحقائق القديمة، فلا شيء يبقى ثابتاً.
إن من عيوب هذا المذهب جعله الحياة الحاضرة محوراً وحيداً للتربية دون الالتفات للحياة المستقبلية، الأمر الذي جعله يفتقد قاعدة صلبة من المبادئ والأهداف الثابتة التي تضبط حركة الحياة، وتحمي الإنسان من التيه والقلق والتأرجح بين أحداث الحياة وتطوراتها المتلاحقة؛ وتلك نتيجة حتمية لإغفاله الجانب الروحي في الإنسان ورفضه للإيمان بما وراء المادة، وهذا ما حكم على نظريته التربوية بالدوران في حلقة مفرغة، فهي تدور مع حركة الحياة المادية حيث دارت من غير الاستناد إلى مبدأ عميق ومقياس دقيق تفصل بواسطته بين الغث والسمين، والصالح والطالح ضمن تراث الإنسانية المترامي الأطراف، وتنفذ بواسطته وراء أسوار الحياة المادية الضيقة.
ولا شك بأن رباط الدين هو من أقوى الروابط الفطرية التي فطرها الله تعالى في الناس، ليعمل الدين على تفسير كل الظواهر الكونية، من أجل تقديم التصور الكامل للأسئلة الكبرى التي يحملها العقل السليم، يقبل بعدها على حسن عبادة ربه، والالتزام بتعاليمه التي شرعت بالفعل لإسعاد الفرد والجماعة. فسلخ الدين عن العلم يفقد التعليم أهم مقوماته الأساسية وهي الحلقة التي تربط كل ما حولنا من المكونات بالخالق العظيم، فإذا فقدت هذه الحلقة انقطعت وشائج العلم، وتبعثرت أهدافه وقيمه.
المصادر:
- آمال حمزة المرزوقي: النظرية التربوية الإسلامية.
- المكتبة الشاملة الحديثة: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.
- حسن الخطاف: منظومة القيم وتجلياتها في النظام الإسلامي السياسي.
- خالد الصمدي: القيم الإسلامية في المنظومة التربوية.
- خليل أبو العينين: القيم الإسلامية والتربية.
- سعد عبد الله: أصول التربية الإسلامية.
- محمد أمين الحق: القيم الإسلامية في التعليم وآثارها على المجتمع
- محمد فتحي عثمان: القيم الحضارية في رسالة الإسلام.