إنّ رغبة الدُّعاة والمربّين في التأثير على مَن حولهم لا تتحقق بالنية فحسب، بل لا بُد من توفر مهارات معينة منها القدرة على التنمية الذاتية للأفراد، ليتحقق المراد ويتحول المقصود بالدعوة إلى ما نريد، فالرغبة والنّية ليست إلا وقود يدفع لتحريك العربة، بينما توجه المهارات هذه العربة نحو الهدف والمراد.
وتختلف التربية التي تعتمد على المهارات عن تلك التي تُمارس بالسليقة والعادة وما نتوارثه عن الآباء والأجداد، لذلك يجب الاحتكام إلى الميراث الحقيقي في تنمية قدرات المتربي، فعلى الدعاة أن ينهلوا من معين النبوة والسلف الصالح لاكتساب هذه المهارة المهمة في تربية النشء وإخراج أجيال لديها القدرة على التطور الإيجابي باستمرار.
اقرأ أيضا: من مهارات المربي: إكساب الأفراد مهارة التخطيط
أهمية القدرة على التنمية الذاتية للأفراد
يحتاج الداعية إلى مهارة التنمية الذاتية كونها الحافز الذي يدفع طاقات الإنسان إلى أداء عمل مُعين للوصول إلى غاية محددة، متحملا جميع الصعاب لتحقيق الهدف، فهي اندفاع من الداعية بمجرد إحساسه أنّ هذا النمط من الأعمال يحقق نمو شخصيته في شتى الجوانب، ويقوم بعمله هذا دونما تكليف أو متابعة، بل هو السعي لتحقيق الأجر والمثوبة من الله.
ويوضح ذلك، موقف سيدنا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- من الإسراع في دعوة سيدنا بلال بن رباح – رضي الله عنه- إلى الإسلام ليلا ولم ينتظر الصباح بعد أن وصلته الدعوة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أبي نعيم الذي رواه البخاري: قال حدثنا مسعر عن زياد قال: سمعت المغيرة – رضي الله عنه- يقول: “أن كان النبي – صلى الله عليه وسلم- ليقوم حتى تتورم قدماه – أو ساقاه- فيقال له، فيقول أفلا أكون عبدا شكورا؟”، فالنبي – صلى الله عليه وسلم- قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومع ذلك نراه بهذا الرقي في ممارسة النوافل.
إن الذاتية بالنسبة للشباب اليوم تعني عملية ذكية في كسب الأجر وتنمية الجذوة الإيجابية في النفس من خلال عمل عام فيه نفع للناس كما قال عبد الله بن عباس، رضي الله عنه.
ولوضوح الأمر نذكر صورة من ذلك، حيث حدثنا طالب أنه كان في رحلة جهادية مع زملائه، وفي ليلة من الليالي استيقظ بعد منتصف الليل فتوجه للوضوء ليصلي ما يكرمه الله به، فإذا به يجد سلة المغسلة قد ملأت بملابس زملائه ولعدم وجود وقت للراحة كان هذا الكم من الملابس، فتحركت الذاتية بفضل من الله وغسل الطالب ملابس زملائه، وقبل صلاة الفجر كان قد انتهي فصلى الوتر مكتفيا به عن قيام الليل ثم استيقظ زملاؤه لصلاة الفجر، ويقول محدثنا إنه قد وجد في نفسه سموا إيمانيا لم يكن يجده في تعبداته السابقة.
التنمية الذاتية اجتماعيا وحركيا
وعلى المستوى الاجتماعي، فإن التنمية الذاتية ضرورة لا غنى عنها للداعية والمربي، فهي ذاتية الخير التي لا يمنعها تشابك الأعمال وكثرة تفرعاتها كما كان ابن عباس في الخير لم يمنعه طلب العلم والتعلم وهى حقيقة تتكرر عند أصحاب العطاء.
لقد أخرج الطبراني في الأوسط عن علي قال: والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر، وأخرج أبو داود والترمذي: عن عمر بن الخطاب قال: أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي: قلت اليوم أسبق أبا بكر فجئت بنصف مالي فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر ما عنده فقال يا أبا بكر: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسبقه إلى شيء أبدا.
وهكذا تكون أعمال البر الذاتية التي يقوم بها الموفق إلى الخير وهى أشبه بكرامات الأولياء منها بجهود العباقرة، تنم عن عزيمة تتضاءل دونها العزائم، تحملها همة لا تبلغها العصبة أولو القوة تستشعر من صاحبها أن يقوم بالعمل وكأنه هو وحده الذي أنيط به التكليف.
أمّا عن التنمية الذاتية من الناحية الحركية، فيجسدها لنا الإمام البنا رحمه الله تعالى، حينما قال إنه في إحدى ليالي رمضان زرت منزل فضيلة قاضي الإسماعيلية الشرعي واجتمع في هذه الزيارة مأمور المركز والقاضي الأهلي وناظر المدرسة الابتدائية ومفتش المعارف ولفيف من الأدباء والفضلاء والمحامين والأعيان وكانت جلسة سمر لطيفة.
وطلب فضيلة القاضي الشاي فقدم إلينا في أكواب من الفضة وجاء دوري فطلبت كوبا من زجاج فقط، فنظر إلىّ فضيلته مبتسما وقال أظنك لا تريد أن تشرب لأن الكوب من الفضة؟ فقلت: نعم، وبخاصة ونحن في بيت القاضي. فقال إن المسألة خلافية وبها كلام طويل ونحن لم نفعل شيئا حتى نشدد في مثل هذا المعنى، فقلت يا مولانا إنها خلافية إلا في الطعام والشراب فالحديث متفق عليه والنهى شديد والنبي – صلى الله عليه وسلم- يقول: “لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما” ويقول: “الذي يشرب في آنية الذهب والفضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم” ولا قياس مع النص ولا مناص من الامتثال وحبذا لو أمرت بأن نشرب جميعا في أكواب من الزجاج.
فتدخل بعض الحاضرين في الأمر وأرادوا أن يقولوا بأن الأمر ما دام خلافيا فلا لزوم للإنكار، وأراد القاضي الأهلي أن يدلوا بدلوه في الدلاء فقال للقاضي الشرعي: يا فضيلة القاضي ما دام هناك نص فالنص محترم، ولسنا ملزمين بالبحث عن الحكمة وإيقاف العمل بالنص حتى تظهر، فعلينا الامتثال أولا ثم إن عرفنا الحكمة فبها، وإلا فذلك قصور منا والعمل على كل حال واجب، فانتهزتها فرصة وشكرت له وقلت له مشيرا إلى إصبعه: وما دمت قد حكمت فاخلع هذا الخاتم فإنه من ذهب خالص والنص يحرمه؛ فابتسم وقال: يا أستاذ أنا أحكم بقوانين نابليون وفضيلة القاضي يحكم بالكتاب والسنة وكل منا بشريعته، فدعني وتمسك بقاضي الشريعة! فقلت: إن الأمر جاء للمسلمين عامة وأنت واحد منهم فهو يتجه إليك بهذا الاعتبار؛ فخلع خاتمه، وكانت جلسة ممتعة حقا وكان لها صداها في جمهور يرى مثل هذا الموقف العادي أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر ونصيحة في ذات الله.
اقرأ أيضا: من مهارات المربي: تحقيق التزام الأفراد وضبط حركتهم بالشرع
الدوافع إلى التنمية الذاتية
وهناك دوافع عديدة إلى التنمية الذاتية ومنها فردية التكليف، فلا بُد من أن يتذكر المربي بأن مناط التكليف فردي وكل فرد سيحاسب يوم القيامة فردا، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وإن كان المرء يحاسب عن عمله في المدرسة، وبعض التكاليف لا تتم إلا بمدرسة، أو من خلال تجمع دراسي، فإن الحساب بالثواب والعقاب لا يكون إلا فرديا، ومن الإيمان بهذا المنطلق يجب أن ينحصر تفكير الداعية فيما يجلب له الأجر، ويقربه إلى الطاعة، دون أن يكون تبعا.
وعلى الداعية أو المربي أن يمتلك زمام المبادرة إلى الطاعات دون الالتفات إلى عمل فلان أو قول فلان، ولا يجب أن تقعده نشوة الطاعة، ولا تثبطه أثقال المعصية، ولا ينتظر الإذن بالعمل من شخص ما، إلا ما كان جزءًا من خطة بل يفكر الداعية بنفسه إنه سوف يُحاسب يوم القيامة عن أعماله وعما قدم ولا يسأل عن الآخرين.
على الداعية – أيضًا- ألا يرنو ببصره إلى غيره فقد يكون لهم من الأعذار ما يمنعهم عن شيء ما، أو ليس لهم من الهمة والطاقة ما يمكنهم من أداء عمل ما ويستطيع هو أداءه فلا يثبطه الشيطان أو تقعد به ثقلة الحياة الدنيا، والداعية بنفس الوقت عليه أن ينصب رسول الله قدوة عملية أمام عينيه، ولا يجعل الأشخاص الآخرين أيا كانوا فقد يفتح الله عليه من الهمة أكثر من الآخرين، أو يوفقه الله تعالى إلى عمل يتفرد به أو إلى فضل يؤثره فيه، فلله في خلقه شؤون وهو المتفضل على عباده، وقد يختص برحمته من يشاء وكيفما يشاء.
ومن دوافع تنمية الذات، الإيجابية إلى الكثير من العمل الإسلامي، حيث أداء الواجب جهد الإمكان والاستطاعة، وبالتالي شعور المؤمن بالأداء وحسن النية، فيؤدي ما عليه، وليس عليه النتائج، وهذا المعنى هو المطلوب من التكليف، ولقد عذب الله أقواما تركوا الدعوة إلى الخلق، بحجة أن الموعظة لا تؤثر في قوم الله مهلكهم أو معذبهم، بينما امتدح الله آخرين اعتذروا إلى ربهم، وأدوا الواجب المعين عليهم، فالمعذرة إلى الله واجب عيني على المؤمن أن يؤديه بإيجابية، دون انتظار لما يعمله الآخرون.
وكذلك الاعتذار للمربي في أداء الواجب، ولو أخذنا قصة الهدهد كمثال على العمل الإيجابي لرأينا فيها من المعذرة والاعتذار الشيء اللطيف، حيث كان علمه نافعا لمديره معتذرا به إليه بل كان في العلم حيث النبأ اليقين، نوع سلطان قوي، ولا يتنافى هذا مع النية فإن طاعة المربي واجبة والإيجابية مظهر غير مباشر للطاعة.
يقول ابن القيم: إن سليمان حين توعد الهدهد بأن يعذبه عذابا شديدا، أو يذبحه، إنما نجي منه بالعلم، (فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۢ بِنَبَإٖ يَقِينٍ)، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من مخاطبة سليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم.
ولا بد من احترام النفس والثقة بها، حتى لا يستهين المؤمن بنفسه، ويغرر به الشيطان أنه لا يصلح لأمر فيقعده عن العمل، أو يزهده في الأداء، إذ قد يأتي الشيطان عن طريق إشعار الداعية بأنه لا أهمية له أو يحدثه بأن العمل به رياء وأن الحديث فيه مظاهر غرور، فيجب عليه العزلة ويزين له الانكماش تعففا وعدم الحديث تواضعا فيفوت عليه المصالح ويسد عليه طرق الخير وتذهب عنه الأوقات وتهدر فيه الطاقات، وإذا ما عجز الشيطان عن ذلك فإنه يربك الأولويات على الداعية ويقوده لترك الأفضل وإتيان المفضول، تحت التبريرات والحجج نفسها.
العوامل المؤثرة في اكتساب وتنمية الذاتية
وهناك عوامل مؤثرة في التنمية الذاتية واكتسابها، ومنها الاستعداد الفطري لدى الشخص للنمو والعطاء، فالمتتبع لسير القادة في العالم يجد أنّ بناءهم الذاتي ومعدنهم يتميز بالندرة، ثم أتت الوسائل التكوينية لتزيدهم جمالا، وهذا قدر الله في الناس، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا”، (للبخاري).
والعامل المؤثر الثاني، هو البيئة المحيطة بالإنسان، وهو ما يظهر جليا من خلال شعور الفرد باحتياج المجتمع إليه، فهو يخاف إن لم يتقدم يُمْسِكَ الراية أن تحدث الهزيمة ويتحمل هو إثم التقصير والخوف إما أن يكون على العاجل أو الآجل، فالعاجل فانٍ وهو ما لا يتعدى الخوف من فقدان المال أو الجاه وهذا وذاك زائل والزائل لا يخاف عليه، أما الخوف من الوقوف بين يدي الله يوم القيامة من غير رصيد فهذا هو الدافع للعمل كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم: “من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة”، (هذا حديث حسن غريب، في سنن الترمذي).
وأما العامل الثالث فهو طبيعة التنشئة الأولى، وهى البناء الأول الذي يعتمد على غرس عنصر المبادأة ونبذ الاتكالية وربط الفرد دائما بالمثل الأعلى، ثم العامل الرابع وهو الاستحضار الدائم لنية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعامل الخامس تنشيط روح التفكير والتجديد المنضبط بالكتاب والسنة.
طرق تنمية الذات
وهناك أسباب وعوامل التي تساعد على التنمية الذاتية وتؤثر في إيجاد الإيجابية الدعوية وتقويتها، أو المنع من فتورها، لذا لا بد من أخذها بنظر الاعتبار والتنبيه المستمر عليها من خلال الوعظ الدعوي والمناهج التربوية أو جداول المحاسبة الذاتية ولعل أهمها وأولها:
تقوية الإيمان، فهو بداية الأمر وأس العمل ولا شك، ولكن المقصود هنا الالتزام بعوامل تقوية الإيمان، وأنشطة زيادته بالطاعات التي من شأنها أن تزداد إيجابية المؤمن بها، وتتقوى ذاتيته بمقتضاها، ويمكن ذلك بالذكر وتلاوة القرآن، وتذكر الآخرة، وحضور الجنائز، وزيارة المقابر، والإكثار من النوافل، وقيام الليل، وصيام التطوع، والزيادة من كل بر، والأخذ بكل معروف.
وهناك نظام الحوافز، وجذب الانتباه والتشجيع، فهو يلعب دورًا كبيرًا في حياة الناس، يقول الله – تبارك وتعالى-: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 105].
المصادر:
- السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص 59.
- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية.
- ابن القيم: مفتاح دار السعادة، 1/173.