(إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة، طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر “يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ”) كلمات خطها الشهيد الأستاذ سيد قطب، ببنانه في كتابه الخالد “في ظلال القرآن” ليبعث رسالة إلى الدعاة والمصلحين، عن طبيعة الوحدة والتضامن بين أفراد الأمة المؤمنة (1).
عبّر عن هذا أيضا العالم الدكتور يوسف القرضاوي، عندما نظم أبياتًا، تصف أمانيه في أمته التي تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، يجمعهم ويوحد كلمتهم دين واحد هو دين الإسلام، الذي إذا اشتكى فيه عضو تداعى له باقي الأعضاء بالسهر والتعب، وقد أنشد قائلا:
يا أخي في الهند أو في المغربِ أنا منك، أنت مني، أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي إنه الإسلام أمي وأبي
وحدة الأمة
القرآن الكريم دعم وحدة الأمة الإسلامية وعضدها وطالب أتباعه بعدم التشرذم والفرقة أو الصراعات فيما بينهم لتظل شوكة الأمة قوية أمام من يتربص بها، وليكون عاملا قويا في نهضتها وتقدمها ورقيها.
ولقد حوى القرآن الكريم بين دفتيه الكثير من الآيات التي تشدد على المسلمين في أمر الوحدة بينهم، ومن هذه الآيات:
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103].
وقال عز وجل مشددا على عدم التنازع بين أبناء الأمة حتى لا تضعف شوكتهم: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
بل زاد من التشديد في عدم الفرقة بقوله جل في علاه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
وذكر الإمام حافظ البغوي رحمه الله في كتابه معالم التنزيل الجزء السابع: (بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة).
وتستمر الآيات التي تحض على الوحدة فيقول تعالى: {وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].
وقال الله في محكم تنزيه: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو هريرة رضى الله عنه: [إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، ويَكْرَهُ لَكُمْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وإضاعَةِ المالِ] (رواه مسلم).
قوة وحدة الأمة
سادت الأمة العالم وقت أن كانت واحدة ينصهر غربها بشرقها، وشمالها بجنوبها، فلم تحل بينهم الحدود الفاصلة التي خلقها المستعمر، ليفرق جمعهم ويكسر شوكتهم.
عندما مات النبي الكريم – صلوات الله وتسليمه عليه – كادت الأمة أن يذهب ريحها ويشتت شملها وهي في مهدها، لكن التربية النبوية حالت بينها وبين هذه الفرقة، فلم يمض وقت حتى اجتمعوا على كلمة سواء، وبايعوا سيدنا أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين، لترفع راية الأمة وتنطلق الجيوش تفتح البلاد ويدخل العباد في دين الله.
وحين صرخت امرأة في عمورية (وامعتصماه) أرسل برسالة إلى ملك الروم بإطلاق سراح المرأة وإلا أرسل إليه جيشا، كان أوله في عمورية وآخره في بغداد، ثم كان الفعل أعمق من الكلام، حيث أرسل جيشا عرمرم، فتح عمورية، ورفع راية التوحيد، واسترد سبايا المسلمين.
كذلك عمد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، إلى جمع المسلمين وتوحيد رايتهم، وجمع مصر والشام في جيش واحد، فكان النصر حليفهم على الصليبيين، يوم معركة حطين، التي ظلت شاهدة على قوة المسلمين بوحدتهم، إذ استردوا بيت المقدس، وحرروا المسجد الأقصى الأسيرة.
في حرب السادس من أكتوبر عام 1973، حينما اتحدت كلمة العرب والمسلمين في وجه الغطرسة الأمريكية واليهودية، استطاعوا إذلال الكيان الصهيوني، وفرض شروطهم عليهم بعدما تضافرت جهود المسلمين في منع مصادر القوة التي يحتاجها العدو، وتناسوا الخلافات والمناوشات التي فرضها عليهم المحتل، التي كانت قائمة على قاعدة “فرق تسد”.
ولا تنسى حادثة الرسوم المسيئة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الدنمارك عام 2006م، وقتها هب المسلمون لنصرة نبيهم وقاطعوا البضائع الدنماركية فجاء الاعتذار الفوري عما وقع بسبب ما رآه الجميع من أثر وحدة المسلمين، وهو ما حدث أيضا مع فرنسا وقضية الرسوم المسيئة مؤخرا عام 2020.
والتاريخ مليء بالكثير من الأحداث التي دلت على أن قوة المسلمين في وحدتهم.
عوامل القوة في الأمة
يعتبر الدين من العوامل القوية في دعم وحدة الأمة وتماسكها، وهو المعنى الذي ذكره المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون، بأن العقيدة الدينية هي من أهم الدعائم لتماسك الحضارة وعدم انهيارها.
ويقول لوبون: (إن أهَمَّ المبادئ التي تَسير عليها الأمم، وتُعَد منار التاريخ، وعماد الحَضَارة تتَمثَّل في المبادئ الدِّينيَّة، التي كانت على الدَّوام أهم عنصر في حياة الأمم)(2).
ومن أبرز عوامل قوة الأمة، كما ذكرها الدكتور عبد الحميد مدكور، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة:
- التوحيد والعقيدة الإسلامية، التي تقوى الأمة المتمسكة بعقيدتها ودينها.
- الشعور بالمسؤولية أمام الله عز وجل وقيام كل مسلم بدوره نحو وطنه ودينه وأمته مما يولد الخوف من الله والحفاظ على مقدرات الأمة.
- الولاء والانتماء للدين الإسلامي، فلا يرفع المسلم راية غير راية دينه، ولا يعلي مصلحة إلا مصلحة أمته، وهو المعنى الذي عبر عنه سعد بن معاذ في معركة بدر حينما تحتمت المواجهة مع قريش حين قال للرسول صلى الله عليه وسلم: [اظعن حيث شِئْتَ، وصِلْ حَبْل من شِئْت، واقطعْ حبل مَن شِئْتَ، وخذ من أموالنا ما شِئْتَ، وأعطنا ما شِئْت، وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمرٍ فأمرنا تبَع لأمرك].
- يعد العلم من العوامل التي تقوي الأمة وتجعلها تستغنى عن الذل لغيرها من الأمم أو الاستكانة والرضوخ لأعدائها(3).
أسباب تشرذم الأمة
لا يخفى على أحد تشتت الأمة وضعفها وتفكك أواصرهم والتناحر بينهم، حيث يرصد القاصي والداني الأسباب التي أدت لهذا الضعف والهوان ومنها:
- بُعد الأمة من منهجها وسنة نبيها وعدم التمسك بدينها.
- إرضاء الأمم الأخرى (كاليهود والنصاري) والسير على مسلكهم وهو ما وصفه النبي – صلى الله عليه وسلم بقوله: [لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ] (رواه البخاري).
- التعصب المذهبي والذي ذهب بريح الأمة وقوتها.
- الجهل وعدم الأخذ بوسائل العلم والبعد عن العلم الشرعي، وتصدر الجاهل للحكم بين الناس.
- عدم الحكم بما أنزل الله والاعتماد على ما وضعه الغرب من قوانين وأحكام لا تتفق مع شرائع الإسلام.
- انتشار الظلم والبغي بين أبناء الأمة الإسلامية حتى أصبحت الحروب تقام، والأنفس تزهق من أجل التمسك بعوارض الدنيا(6).
والأسباب كثيرة التي توضح ما آلت إليه الأمة، وما موقف بعض الدول العربية من الهرولة للتطبيع والانصياع لقرارات الدولة الصهيونية على حساب قضية القدس والأقصى والأمة الفلسطينية خير دليل لما وصلت له الأمة من حال يرثى له.
مظاهر فرقة الأمة
اعترت الأمة بعض حالات الضعف والفرقة ووضحت للجميع الآثار التي ترتبت على هذه الفرقة من هوان على الأمم الأخرى والاستضعاف لاختلافهم في بعض مناحي الدين الإسلامي، حتى رأينا الشيعي يلعن السني والعكس.
أدى ذلك التناحر بين أبناء الأمة إلى تسلط الأمم والكفار على المسلمين واستباحة بلادهم، فكان جليا منذ العهد النبوي انتشار الفتوحات الإسلامية وتوسعها وما إن وقعت الأمة في بعض الخلافات بعد مقتل عثمان بن عفان – رضى الله عنه – حتى توقفت الفتوحات وترصدت الأمم بالمسلمين وتجرأت عليهم.
يقول الإمام ابن تيمية: (وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها، كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها. وهذا التفريق الذي حصل من الأمة – علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها- هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله)(7).
ومن أكبر مظاهر الفرقة بين أبناء الأمة هي هزيمتها وفشلها، وخروج الفرق، وفشو الفتن والبدع.
سبل تعزيز وحدة الأمة
لذلك فإن سبل تعزيز وحدة الأمة لا يقل بحال عن الشهادتين والصيام وباقي الفروض، ويعتبر مقصدًا أساسيًا من مقاصد الدين فالاتحاد والاجتماع والاتفاق والتكامل، وعدم التفرق والتنازع هو فريضة شرعية وضرورة اجتماعية، والله سبحانه أمر المسلمين بذلك ودعا للأخذ بمبادئ الوحدة ومنها:
- الاعتقاد الصحيح والتوحد حول المسائل الاعتقادية التي لم يختلف فيها أحد من المسلمين، وما اختلف فيه لا يجوز أن يكون سببا للفرقة، فالمسلمون يدينون بدين واحد ونبي واحد وكتاب واحد.
- طاعة الله ورسوله والسير على ما جاء في الكتاب والسنة: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا} (الأنفال 46).
- عدم التعصب لمذهب أو رأي أو فريق؛ حتى لا تتشرذم كلمة الجميع وتتفرق.
- إنكار الذات وحب الأخوة دون تفرقة في لون أو جنس أو عرق فالكل في الأمة الإسلامية سواء له حقوقه وعليه واجباته، والجميع على ثغرة مسئولة منه نحو دينه وأمته(4).
أثر وحدة الأمة
إذا توحدت الأمة واتحدت كلمتها ظهرت قوتها وارتقت بشعوبها وعم الرخاء أرجاءها، وتختفي الأمراض القلبية بين أفرادها من حسد وبغض وحقد، بل وتحفظ أموال وأعراض المسلمين وتصان حرماتهم وتقل الجرائم بينهم.
وليس ذلك فحسب، بل يسود بين المسلمين روح الحب والإخاء والتكافل والتضامن الاجتماعي من خلال تأدية حقوق الناس التي فرضها الله.
التصدي لأعدائهم وعدم تمكينهم من أرض المسلمين، وحمايتهم جميعا تحت مظلة واحدة أينما وجدوا، فقد كان الأوروبي يتفاخر أنه يتحدث العربية حين يعود إلى وطنه من بلاد الأندلس، وذلك للقوة التي فرضها المسلمين بسبب وحدتهم وتماسكهم وأخذهم بسبل العلم والتقدم(5).
غرس قيمة الوحدة في أبنائنا
إن التفريط في وحدة الأمة وتماسكها نازلة خطيرة تستدعي من أهل الإسلام أن يكونوا على مستوى الحدث، وأن يبثوا في روع أبنائهم أن المسلمين جميعا أمة واحدة من مشرقها لمغربها، وأنه لا فرق بين عربي وأعجمي ولا بين مصري ومغربي وشامي.
فالوسائل أمام الآباء والمربين كثيرة في إيجاد أجيال متحابة تعرف حدود أمتها من المحيط شرقا إلى المحيط غربا، وأنه من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، وأن الأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تألم له باقي الأعضاء.
ويجب تربية الأبناء على أخلاق وسلوكيات الإسلام الحنيف الذي جعل لكل فرد في الأمة حقوق وواجبات نحو أمته.
إضافة إلى العناية بالتاريخ والسير وحدود الأمة الإسلامية وأهم ما يميز كل دولة من دول الإسلام ومصادر قوتها وكيف يتعاون الجميع على الرقى والازدهار.
أخيرا
هذه الأمة جمعت بلال الحبشي مع سلمان الفارسي بجانب صهيب الرومي وأبو ذر الغفاري العربي، فكانت وحدتهم مصدر قوتهم، وتمسكهم بإسلامهم وشرائع دينهم سببا في سيادتهم لسائر الأمم كلها، وفتحا مبينا لباقي الشعوب، وهو ما يجب على أبناء الأمة الآن العمل والآخذ به.
المصادر
- سيد قطب: في ظلال القرآن، المجلد الثالث، دار الشروق، القاهرة، صـ1675.
- جوستاف لوبون: “سر تطور الأمم”، تعريب: أحمد فتحي زغلول، ط2، المطبعة الرحمانية، مصر، 1921م، صـ 155.
- عبد الحميد مدكور: عوامل القوة في حياة الأمة، 1 نوفمبر 2008م،
- الشيخ جمال الدين شبيب: الطريق إلى تحقيق وحدة المسلمين، السنة الخامسة عشر ـ العدد 173 ـ (رجب – شعبان 1437 هـ ) ـ (مايو 2016 م)،
- عدنان أحمد زهران: نهضة الأمة بين عوامل الانحدار وسبل الارتقاء، دار زهران للنشر والتوزيع، 2008م.
- ابتسام بنت عبدالمحسن الجريسي: من أسباب فرقة الأمة، 14 نوفمبر 2008م،
- ابن تيمية: الفتاوى الكبرى، الجزء الثالث، دار الكتب العلمية، 1987، صـ258.