عندما جاء النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – وأرسى قواعد الدولة الإسلامية على أساس العدل والإيمان بالله سبحانه، ظلت الأمة محتفظة بتقدمها وازدهارها، طالما تمسكت بتلك القواعد النبوية، التي مثلت الأسس السامية في الدين الإسلامي.
ولما تخلت الأمة عن هذه المبادىء العظيمة، نخر في جدرانها داء الوهن الذي أبعدها عن مصدر عزها وقوتها، وتبدلت أحوالها وتخلفت عن ركب ريادة العالم، فيما حملت الراية أمم أخرى، وكما يقول الشاعر:
وآلمني وآلم كـل حـر.. سؤالُ الدهر: أين المسلمونا؟
لكن صفحات التاريخ كتبت أن الأمة الإسلامية كانت من أكثر الأمم التي واجهت صعوبات ومعوقات، لكنها في نفس الوقت كانت تخرج منها بقوة بسبب تمسكها بدينها وبعزتها، وعودتها إلى غرس النبي صلى الله عليه وسلم.
الوهن
معلوم أن قوة الأمة يأتي بمدى تمسكها بدينها، وعلى العكس يكون ضعفها وهوانها بضعف تمسكها بعقيدتها، ثم ينخر في عظامها الوهن، فما هو الوهن؟
الوهن لغةً كما عرفه ابن منظور في لسان العرب (13/ 453): الضَّعف في العَمَل والأمر، وكذلك في العَظْم ونحوه، فالرجلٌ واهِنٌ في الأمر والعَمَل، ومَوْهُون في العَظْم والبَدَن، وقد وَهَنَ الإنسانُ، ووَهَنَهُ غيره.
إلا أنه اختلف في المعنى اصطلاحًا؛ حيث ذكر الفيروز آبادي بأنه (الضَّعف في العَمَل، وقيل: الضَّعف مِن حيثُ الخَلْق والخُلُق).
في حين ذكره النيسابوري بأنه: (استيلاء الخوف على النَّاس) أو (ضعف يلحق القلب، والضَّعف مطلقًا اختلال القوَّة الجسمية)(1).
حذر منه الشرع الحكيم
لقد عاشت الأمة الإسلامية سنوات عز ورفعة وقوة حتى أن الأعداء كانوا يهابونها مسيرة شهر – كما أخبر النبي– صلى الله عليه وسلم– ولذا حذر الشرع الحنيف من أن يتسرب هذا الداء إلى قلوب أبناء الأمة، حيث لا يأتي من ورائه إلا الذل والضعف.
ولشدة هذا الداء وخطورته على الأمة شدد القرآن في أن يسري في عضد هذه الأمة فقال تعالى نافيا صفة الوهن عن الأمة: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ} [آل عمران: 146].
وفي آية أخرى يحذر فيها الله الأمة من هذا الداء، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 139].
وقال تعالى:{ فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
وهو الأمر الذي جعل النبي الكريم– صلوات الله وتسليماته عليه– يحذر ويوضح من الوهن وأسبابه، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت] (رواه أبو داود وأحمد).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم] (رواه أبو داود).
مظاهر الوهن
إذا تملك الوهن من الأمة؛ تجلى ذلك في علاقتها بربها وببعضها البعض وهوانها على باقي الأمم، ومن مظاهر الوهن أن يلغي المرء عقله وأن يساير الناس وإن أخطأوا، وهو ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تَكُونُوا إِمّعةً تَقُولُونَ إِن أَحْسَنَ النّاسُ أَحْسَنّا، وإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإِنْ اسَاءُوا فَلاَ تَظْلمُوا”. [الترمذي، وقال: حسن غريب].
ومن المظاهر تسلط الأعداء على الأمة، كما أنه سبب في ضياع الأمة وتشرذمها وذهاب ريحها، بل وخراب البلاد والعباد وإهلاك الحرث والنسل وهتك الأعراض وسلب الأموال وقتل الأرواح، واستجلاب غضب المولى عز وجل.
ومن الأمثلة على تمكن الوهن من الأمة، حينما غزا التتار بلاد المسلمين، كان الوهن قد دب في قلب كثير من المسلمين، حتى قتل الآلاف واستباحت الديار واغتصبت آلاف النساء ثم أسرن.
وفي العصر الحديث كان سببا في احتلال البلاد وضياع الخلافة الإسلامية وتشرذم المسلمين، وإعلاء النعرة القومية(2).
أسباب وهن الأمة
أسباب الوهن متعددة ومعروفة ويلمسها الجميع، وحذر منها الله عز وجل ورسوله في القرآن الكريم، كما حذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الأمة كلها تصطلي بنيرانها، ومن هذه الأسباب:
- البعد عن تعاليم الإسلام والعمل بها؛ مما أورث ذلا وانكسارا.
- حب الدنيا وكراهية الآخرة، وهي أصل كل داء، الأمر الذي جعل الناس تعمل لدنياها وتستميت من أجلها، قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16- 17].
- العصبية المقيتة التي يبثها العدو بين صفوف المسلمين مما ينشيء الصراعات والمنازعات والحروب فيما بينهم.
- سوء التربية المبني على الهوان والرضا بالذل من أجل أي حياة، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ} [البقرة: 69].
- الغزو الإعلامي وغياب الشريعة والنعرات القومية وكره الجهاد والدفاع عن الوطن.
- مصاحبة المتخاذلين وكره الأقوياء الصالحين والاستماع للمرجفين الذين يبثون روح الخذلان وسط الأمة(3).
الوهن الفكري
حينما التقى المسلمين بالفرس في معركة القادسية أظهر رستم النعيم والترف الذي تعيش فيه الحضارة الفارسية في مقابل فقر وضعف الحضارة الإسلامية البدوية – كما كان ينظر لها – في محاولة منه لبث روح الوهن الفكري والروحي وأنهم لا طاقة لهم بالفرس، إلا أن الجواب الفوري وصله، بالتأكيد على تمسك الحضارة الإسلامية بغاية نبيلة وأهداف سامية لم يصل له الفرس وأن زوالهم لا محالة لانتشار الوهن والخوف فيهم، وهو المعنى الذي وصفه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: [ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ] (رواه البخاري).
والوهن الفكري ما يصفه الدكتور المجيد النجار- دكتوراة في أصول الدين من جامعة الأزهر-: “وقد كان الخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية في تحملها لعقيدتها عاملا حاسما في انحسارها الحضاري، سواء ما آل إليه الأمر من انحراف في التصور العقدي، أو من سطحية في التحمل الإيماني تراخى بها الدافع الإرادي للعمل الحضاري”(4).
علاج الوهن
الوهن داء تستطيع الأمة المحمدية التغلب عليه، حيث طرق العلاج معروفة في الكتاب والسنة، ومنها:
- عودة الأمة إلى المعين الصافي كتاب الله، والعمل بما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة وسلامة العقيدة.
- امتلاك الإرادة القوية للعودة لتعاليم وشرائع دينها والاستعانة بالله والشعور بمعيته.
- نبذ الخلاف وسبل العصبية الجاهلية والقومية المقيتة ورفع شعار الأخوة والروح الإسلامية.
- الاهتمام بأخذ سبل العلم والتقدم والرقي والاستغناء عن التبعية للأمم الأخرى ما لم يكن هناك ضرورة وحاجة للأمة.
- اليقين بنصر الله ونزول الفرج مهما اشتدت الأزمات.
- التحرر من الشهوات والعبودية لغير الله.
- مصاحبة الأخيار وأهل الهمم العالية والاقتداء بأهل الصبر والعزائم.
- عدم الخوف والخشية إلا من الله سبحانه وتعالى(5).
على طريق النصر
النصر يحتاج إلى العمل والصبر، وهذه الأمة قد امتلكت نماذج كثيرة رأينا من خلالها معاني العزة، وعملت على نشر هذه الثقافة والتخلص من التبعية.
فالإمام حسن البنا الذي جاء في ظل المحتل الغربي هدف أول ما هدف إلى نفض غبار الذل عن الأمة وربى أجيالا حملت هذا الدين وانتشرت به في ربوع الأرض، وأصبحت شوكة في حلق المستعمر الغربي وأذنابه من حكام التبعية.
وفي فلسطين رأينا كيف أن حركة المقاومة الإسلامية حماس تساندها باقي الفصائل الإسلامية، الذين حملوا هم الدين، بالإضافة لهم الوطن، فأصبحوا من أعز أهل الأرض فلم يهنوا في دينهم ولم يرعبهم أو يخيفهم عدو ولم يرتبطوا بالدنيا.
وفي كل مكان رأينا أن كل مسلم أخذ بزمام دينه وتمتع بعزته وكرامته لم يُخِفْهُ عدو ولم يرض الدنية في دينه أبدا. فالأمة بها الكثير من معاني العز والكرامة.
طرق تربية الأجيال المسلمة على العزة
إن الأجيال توراثت الذل والخضوع والخوف جيلا بعد جيل، إلا ما رحم ربي من بعض الأفراد الذين انقادوا لدينهم وعملوا به؛ وهذا الصورة الغالبة جعلت الأمة تعيش حياة الضعف والذل والهوان، ولذا لا بد من خلع رقبة الذل والوهن عن الأجيال القادمة وغرس معاني العزة فيهم، مثلما يحدث في الشعب الفلسطيني الأبي في الأوقات الحالية، ولن يحدث ذلك إلا بالأخذ بالأسباب، ومن ذلك:
- غرس معاني الإيمان في نفوس أجيالنا منذ صغرهم، والحرص على تربيتهم عمليا على معاني وآيات القرآن والسيرة النبوية ومواقف الصحابة ومواقف الرجولة.
- الاهتمام بتعليمهم التعليم القويم الشرعي والدنيوي حتى يأخذوا بسبل العلم والتقدم، والحمد الله أنجبت الأمة علماء تميزوا في مجالات عديدة.
- ربط الأجيال ارتباطًا وثيقًا بتاريخ ومستقبل هذه الأمة، فكما نعلمهم سيرة الرسول وتاريخ الدولة الإسلامية نعلمهم أن المستقبل لهذا الدين، وهذا وعد حق.
- تربيتهم على تحمل المسئولية منذ الصغر ومشاركتهم الرأي.
- لابد من تربيتهم على احترام الآخرين واحترام الوقت والنظافة والسلوك القويم.
- مراقبة المواد التي يبثها الإعلام أو المواد التي يتلقونها من الآخرين ومناسبتها لطبيعتهم وموافقتها للدين الحنيف(6).
أخيرا
على الرغم مما تعيشه الأمة من ضعف ووهن إلا أنها تمتلك معاني العزة والكرامة والقوة بين جنباتها، خاصة أن معها كتاب الله الذي لم يتبدل ولم يتغير، وبه تتحقق أسباب النصر، إذا عملنا بما جاء فيه قولا وفعلا.
المصادر
- معنى الوَهن لغةً واصطلاحًا: الدرر السنية،
- محمد البوزي: من مظاهر السقوط أو الوهن الحضاري في الأمة الإسلامية الحالية، العدد 376، 17 مارس 2012، https://bit.ly/3wskAN0
- أسباب الوَهَن: الدرر السنية،
- عبد المجيد النجار: دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية،
- فضل الله ممتاز: كيف نتخلص من الوهن؟، 24 رجب 1426هـ،
- ليلى حمدان: معالم أساسية مختصرة في صناعة الأجيال المنتصرة، 1 سبتمبر 2018، https://bit.ly/3yqKVNv
1 comments
وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر