نعيمة خطاب.. اسم قد لا يعرفه كثيرون رغم عظم دورها وتأثيرها، فهي كـ “صاحب النقب” رضيت بأن تطوى صفحاتها دون ضجيج، ابتغاءً مرضات الله، مع كونها نموذجًا أعاد للأذهان سيرة الرعيل الأول من الصحابيات اللاتي عاصرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في فهم الدين الوسطي والعمل له، وضرب النموذج المشرق من حياة نساء مجاهدات في العصر الحديث وذلك من خلال مواقفها التي – قد – تعتبر عبرًا ودروسًا في قوة العقيدة، وتطبيقها والثبات على المبدأ في مواجهة المحن والملمات.
السيدة نعيمة خطاب، زوجة الأستاذ حسن الهضيبي (المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين) نشأت في أسرة ميسورة الحال، اهتمت بالعلم والعلماء، ونهلت من العلم، وزهدت في المال، بغرض التجارة مع الله، راجية أن تربح تجارتها على منوال الصحابة الكرام؛ مصعب بن عمير وصهيب الرومي، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم “ربح البيع أبا يحيى”.
الأصل الطيب
ترعرعت السيدة نعيمة خطاب في جنبات بيت كريم، تملأه السكينة والرحمة، وتتجلى فيه مكارم الأخلاق والحرص على العلم، وتشهد أركانه وكل جزء فيه بعظم قاطنيه وفضلهم، فهي الابنة الصغرى للشيخ محمد خطاب، أحد علماء الأزهر الشريف.
ومع أنها لم تكمل تعليمها واكتفت بالحصول على التعليم الأوليّ، لكن الغيرة المحمودة وحب العلم دفعها لاستكمال بعض جوانب العلم في بيت زوجها، حيث عبر ولدها المستشار محمد المأمون الهضيبي عن سعي والدته بقوله: لم تكمل أمي تعليمها -رحمها الله – فقد حصلت على التعليم الأوليّ، ولكنها أكملت تعليم نفسها، بل تعلمت اللغة الفرنسية.. ولقد ارتقت بنفسها كثيرًا؛ حيث كانت تتحدث الفرنسية في نفس الوقت الذي تقرأ فيه للقرطبي وابن حزم وكتب التفسير.
وتزوجت السيدة نعيمة من المستشار حسن الهضيبي، ورزقها الله بخمسة من الأولاد هم: محمد المأمون، وإسماعيل، وخالدة، وسعاد، وعلية.. وكان يطلق عليها أم أسامة، وقد ضربت المثل الصالح كزوجة وكأم وكمجاهدة في حقل الدعوة وكصابرة على المحن والابتلاءات.
ويذكرها زوجها المستشار الهضيبي، عندما سرد ذكرياته عن يوم زواجه، وتحدث عن عظيم مكانتها في نفسه بقوله: تخرجتُ في مدرسة الحقوق عام 1915، والتحقتُ بمكتب الأستاذ حافظ رمضان، وكنت في ذلك الوقت أسكن بمنزل رجل عالم جليل، كان له ابن اتخذتُ منه صديقي الوحيد في القاهرة، وكم تمنيت أن تكون لهذا الرجل الفاضل ابنة كي تصبح شريكة لحياتي، ولم يخيب الله أملي فرأيتها مصادفةً ذات يوم، وفي اليوم التالي لحصولي على ليسانس الحقوق ذهبت إلى والدها لطلب يدها.
وقال لي حينها: أليس من الأفضل أن يتقدَّم والدك بهذا الطلب؟
قلت له ببساطة: لقد تقدَّم والدي يومًا عندما أراد أن يتزوَّج من والدتي، أما أنا فأتقدَّم لأني أنا الزوج لا والدي.
وجمع الله بين الزوجين لتبدأ رحلة طويلة من الكفاح والمثابرة، بتأسيس بيت سيحمل كثيرًا من الأيادي البيضاء على الأمة الإسلامية، وكأنهما استلهما قول الله عز وجل: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
صفات ناصعات
كانت السيدة نعيمة خطاب تمتاز بنبل المشاعر، ورقة العاطفة، ورهافة الحس، ولا تقبل الضيم والذل، بل كانت مجاهدة وثابتة كالجبال، وقدمت النموذج الطيب في الجد وقوة الإرادة والهمة العالية، وكانت لا تستحيي من الحق، وهي من ذوات العقل والدين.
وقد أعطت المثل في حسن العشرة مع زوجها، حيث كانت تشد من عزم أبنائها عند الأزمات والابتلاءات التي لحقت بأبيهم وبهم عدة مرات؛ إدراكًا منها أن الواجب يحتم عليها أن تجاهد بما في وسعها وطاقتها، من أجل دعوة الإسلام، ورفع رايته، ونصرة الحق، حتى يكون الدين كله لله.
وفي حوار بين محمود الجوهري وحسن الهضيبي، يسأل فيه الأولُ الثاني عن مدى حفاوة أهله به -يقصد زوجته- أيام الشباب، فرد عليه: عين الحسود فيها عود. واستطرد يستشهد على مسارعتها فيما يرضيه ويرفع من رأسه، وأنها تعلمت الفرنسية إجادة وهي أم لأربعة أولاد، لمجرد أنها رأت صديقتها زوجة وكيل النيابة الذي كان يعمل معي في إحدى المحاكم القريبة من المنصورة تتقن الفرنسية، وتتحدث مع عاملات المتاجر الكبيرة في عاصمة الدقهلية، فأكبرت أن تكون لزوجة وكيل النيابة قدرة على التحدث بلغة لا تعرفها، وهي زوجة القاضي الذي يعلو في المرتبة وكيل النيابة، وسرعان ما استأجرت مدرسة تختلي بها في لحظات فراغها النادرة لتتلقى عنها الفرنسية”.
طبعت بيتها بالطابع الإسلامي في آدابه، وعاداته، وصاحبت زوجها في تنقلاته فكانت نعم السند، كما أنها عاشت أيامًا قاسية، حرمت فيها من زوجها وأبنائها الذين اختفوا خلف قضبان السجون في عهد عبد الناصر، ومع ذلك أعطت المثل الحسن في حسن التبعل والتحبب والعشرة مع زوجها، وكانت نعم الأم مع أبنائها وقت الأزمات.
كانت تعرف مقام ومكانة زوجها فكان تعمل على هذه الصورة المشرقة بين الناس وفي نفوس أبنائها الذين ساروا جميعا حماة للدين الإسلامي.
مسالك الخير
حينما تعرف زوجها المستشار حسن الهضيبي في بداية الأربعينيات على الأستاذ حسن البنا ودعوة الإخوان – رغم فارق السن الكبير بين المستشار والإمام البنا حيث يكبره بخمسة عشرة عاما – لمس فيه الصدق وهي الكلمات التي عبر عنها بقوله: عرفته أول ما عرفته من غرس يده، كان كالجدول الرقراق الهادئ ينساب فيه الماء لا علو ولا انخفاض، يخاطب الشعور فيلهبه، والقلب فيملؤه إيمانًا، والعقل فيسكب فيه من المعلومات ألوانًا.
وهكذا عرف الهضيبي طريقه إلى دعوة الإخوان، وما كان له أن يترك زوجته وأبناءه دون أن يعرفهم بهذه الدعوة المباركة ويترك لهم الاختيار.
سلكت الزوجة طريق زوجها فكانت مخزن أسراره الذي لم يخرج لأحد، مع رعاية وضعية زوجها كمستشار في الهيئة القضائية حتى كانت الساعة الحاسمة والتي وقع اختيار الإخوان على زوجها ليكون المرشد الثاني خلفا للأستاذ البنا بعد استشهاده.
ومع هذه الوضعية الخاصة التي عاشتها في حضن الدعوة دون ضجيج إلا أنها ساهمت بجزء من مالها في التبرع لشراء دار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة، وآزرت المجاهدين في نجدة فلسطين ووضعت البيت تحت تصرف الدعوة.
طريق المحنة
تألمت كثيرا لاستشهاد الأستاذ حسن البنا حيث كانت ترى فيه نموذجا عاملا للإسلام، لكنها كانت متيقنة من أن هذا الصرح لن ينهار، وما كانت تدرى أنها ستكون وبيتها حجر الزواية في ثبات هذا الصرح أمام الضربات المتتالية التي تعرض لها.
كانت بدايتها مع المحنة حينما وقع الاختيار على زوجها ليحمل إرث الإمام حسن البنا ويقود قاطرة الجماعة في ظروف كان العالم يموج على بحيرة من الاضطرابات والتغيرات.
كان بيتها ساحة للاجتماعات على المستوى القيادي للجماعة وعلى مستوى الاجتماعات التي كانت تجمع بين مجلس قيادة الثورة وقيادة الإخوان المسلمين، وكانت تدرك بحسها أن البلاء قادم قادم ما دام الإخوان متمسكون بالتحكيم إلى شريعة الله والعمل بالإسلام، وبالفعل صدق حدسها؛ فما كادت تشرق شمس عام 1954م حتى أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بحل الجماعة واعتقال زوجها المرشد العام وقيادات الإخوان.
وما كادت الأيام تمر حتى تعرض البيت إلى محنة أتت على الكبير والصغير في البيت، حيث اعتقل زوجها مرة أخرى ليبقى – وهو الذي تجاوز الستين عاما – خلف القضبان ما يقرب من عشرين عاما، ثم اعتقل ابنها إسماعيل، وفي عام 1956 أسر ابنها القاضي المأمون الهضيبي من مقر عمله بغزة، وما كاد يفرج عنه مع من أفرج عنه من المأسورين المصريين لدى اليهود حتى اعتقله عبد الناصر.
وظنت السيدة الصبورة أن الوضع انتهى على ذلك لكنها تفاجأت بأن البلاء طال بناتها وذاتها، حيث اعتقلت ابنتها عليّة – وكانت حاملا – وابنتها خالدة، ثم اعتقلت هي الأخرى وزج بها في سجن القناطر، وتشتت الأسرة من أجل دفاعها عن دينها؛ فزوجها في سجن غير السجن الذي سجن فيها أولادها، وابنتها علية في السجن الحربي، وخالدة في سجن النسا بالقناطر، وظلت به حتى أفرج عنها بعد ما يقرب من ستة أشهر، كل ذلك لاتهامها أنها تقود قاطرة الأخوات المسلمات، وكانت بمثابة الأم لكل الأخوات المعتقلات، كما كانت نعم القائد في التعامل مع الأزمات، وأدت حنكتها مع إدارة السجن إلى التخفيف من شدة التعامل.
طينة الملائكة
سطرت السيدة نعيمة خطاب بين دفوف الكتب والمجلات كثيرًا من المواقف التربوية الحية سواء في بيتها أو سجنها ومحنتها.
وفي هذا يقول الأستاذ عبد الحكيم عابدين، السكرتير العام لجماعة الإخوان المسلمين “ذهبت للإسكندرية لرؤية المرشد العام، وصحبت معي أختي لعرضها على الأطباء، وكانت ريفية، وأثناء عودتنا قالت: يا أخي من أي طينة امرأة الهضيبي هذه؟ أهي من طينة الملائكة ليس فيها من طبائع البشر شيء؛ فقد كانت تبالغ في التحبب إلى زوجها فلا تتلقاه في الضحى بثياب الصبح، ولا في العصر بثياب الظهر، وكانت تنشط لتوديعه حين يخرج، وتتأهب لاستقباله حين يرجع بأعذب ما يصنع عروسان متوافقان”.
يضيف الأستاذ عبد الحكيم عابدين أنه “عندما سافر الأستاذ الهضيبي عام 1954 للسعودية وبلاد الشام جاء سائق السيارة التي خصصها مكتب الإرشاد للمرشد دون غيره يسألني: ما يصنع بالسيارة، فأمرته بوضعها تحت تصرف السيدة حرم المرشد العام، غير أن السائق سرعان ما عاد وقال: السيدة لم تقبل السيارة؛ لأنها لا حاجة لها، واتصلت عليها لأشرح لها بأنها مسئولة قسم الأخوات ويجب أن تظل السيارة معها، فردت علي: “سأرسل لك جدول مواعيد الزيارات للشعب، وغير ذلك فلا حق لى في السيارة”.
ويُذكر أنه عندما توسط الملك سعود بن عبد العزيز لدى عبد الناصر لتخفيف حكم الإعدام عن المرشد العام عام 1954 أرسلت السيدة نعيمة خطابًا للملك موقعًا باسمها وأسماء بناتها قالت فيه: “يا جلالة الملك، إننا إذ نشكر كريم عاطفتك نؤكد على أننا على عهد الدعوة وميثاق الجهاد، وسواء استشهد الهضيبي أم طالت به حياة فلن تقف عجلة الصراع، إنه في الواقع ليس صراعًا بين الهضيبي وعبد الناصر، ولا بين الإخوان والثورة، ولكنه الصراع الأزلي الأبدي بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين جند الله وحزب الشيطان، وسيظل لواء الدعوة مرفوعًا وعملها موصولاً، ولو ذهب في سبيله آلاف الشهداء، من رجال ونساء، حتى تعلو كلمة الله، ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون”.
وفي أحد الأيام أثناء فترة اعتقالها دخل مأمور السجن ونودي: انتباه. وكانت الأخوات يؤدين الصلاة، فلم يعبأن بالمنادة، وعندما دخل قال: ألم يقل لكن: انتباه؟! فردت عليه السيدة نعيمة: يا فندم نحن وقوف بين يدي الله. فرد عليها: ما دمت جئت أنا فالجميع يكون انتباه. فقالت له: لن نترك وقوفنا بين يدي الله من أجل بشر؛ فبُهت وغادر المكان.
ساعة الرحيل
ظلت السيدة نعيمة خطاب صابرة محتسبة لله حتى سبقها زوجُها إلى الرفيق الأعلى في نوفمبر 1973، لكنها لم تبق كثيرا بعد رحيله؛ حيث لحقت به في 9 مارس 1976 الموافق ربيع الأول 1396ﻫ.
ولقد ضربت في حياته دروسا خالدة، على رأسها أن جهاد المرأة المسلمة في سبيل الله على مر الزمان يؤكد أن حركة الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة الخطى، قليلة التأثير الاجتماعي حتى تشترك فيها المرأة، بما يتفق مع شرع الله.
وهي المعاني التي سطرها القرآن الكريم والسنة المطهرة، فالنساء شقائق الرجال في العمل للحق، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97).
ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أبو هريرة: [استوصُوا بالنِّساءِ خيرًا ؛ فإنَّ المرأةَ خُلِقَتْ من ضِلَعٍ ، وإنَّ أعْوجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعْلَاهُ ؛ فإنْ ذهبْتَ تُقِيمُهُ كسرْتَهُ ، وإنْ تركتَهُ لمْ يزلْ أعوَجَ ؛ فاسْتوصُوا بالنِّساءِ خيرًا]( رواه البخاري ومسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: [استوْصوا بالنساءِ خيرًا فإِنَّهنَّ عوانٍ عندَكم] (رواه الترمذي).