تستمد التربية الإسلامية ميزاتها من خصائص الإسلام وميزاته؛ لأن العلاقة بين الإسلام وهذه التربية علاقة وثيقة، فالإسلام دين يقوم على العقيدة الراسخة والعبادة الخالصة لله تعالى، وهو دين يدعو إلى الأخلاق الكريمة ويحث على التفكير والنظر ويدعو إلى العلم والعمل.
وهذه التربية تتميز بالعديد من الخصائص التي تجعلها في مكانة رفيعة وتميزها عن غيرها من أنواع التربية غير الإسلامية، كما أن منهجها يحرص أشد الحرص على تنشئة وتعليم الفرد في إطار الدين والأخلاق، بربط القول بالعمل والنظرية بالتطبيق.
الشمول والتكامل من خصائص التربية الإسلامية
تهتم التربية الإسلامية بإعداد الإنسان إعدادا يتناول كل جانب من جوانب حياته الروحية والعقلية والجسدية، وحياته الدنيا وما فيها من علاقات ومصالح تربطه بغيره، وحياته الأخرى وما قدم لها في حياته الدنيا من عمل يجزى عليه فينال رضوان ربه أو غضبه وذلك هو الشمول والتكامل الذي يميز الإنسان منهجا ونظاما على سائر النظم والمناهج، فهو يتناول كل جانب من تلك الجوانب تناولا مفصلا دقيقا.
يقول الله- عز وجل-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، (الأنعام: 38)، وعلى ذلك فإن هذه التربية لا تُهمل جانبًا من الإنسان لحساب آخر، ولا تُطغي جانبا من الإنسان على جانب آخر، کما أنها ليست محصورة بمرحلة عمرية أو فترة زمنية محددة أو مکان معينة بل تشمل الزمان، والمكان.
وتراعي في تربية الإنسان جميع مراحل نموه منذ تكوينه حتى وفاته، لذلك فهي صالحة لكل البشر في جميع أمور حياتهم على شمول وتوازن دقيق بغير إفراط ولا تفريط في عقائدهم، وعباداتهم وأخلاقهم.
التوازن والاعتدال في التربية الإسلامية
إن التربية الإسلامية وهي تُعد الإنسان الصالح، تعني فيه بأن يكون متوازنًا في طاقاته وأهدافه ووسائله وأقواله وأعماله توازنًا في كل شيء؛ وتوازن الطاقات يعني: ألا تطغى طاقة من طاقاته على أخواتها، أو تتجاهل طاقة لتظهر أخرى. وتلك من أبرز ميزات الإسلام في منهجه ونظامه.
توازن بين طاقة الروح وطاقة العقل وطاقة البدن، توازن بين معنويات الإنسان ومادياته، بين ضروريات الإنسان وكمالياته، توازن بين واقعه وما ينشده من كمال، توازن بين نزعاته الفردية ونزعاته الجماعية، توازن بين إيمانه بعالم الغيب وعالم الشهادة.
وهي توازن في طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه ومنكحه، لا إسراف ولا تقطير وإنما هو توازن يؤدي إلى التوسط والاعتدال، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143] وسطا في كل شيء.
بل إن التوازن نظام فرضه الله على جميع مخلوقاته، من إنسان وحيوان ونبات وجماد وكواكب وأفلاك، كلٌ يسير حسب منهج فطري وَضعه خالق الكون للكون.
ويقول الإمام الشّاطبي- رحمه الله تعالى-: “الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الدّاخل تحت كسب العبد من غير مشقّة عليه ولا انْحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلَّفين غاية الاعتدال، كتكاليف الصَّلاة، والصِّيام، والحجّ، والجهاد، والزّكاة، وغير ذلك مما شُرع ابْتداءً على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أَو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل، كقوله تعالى: “يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ”، (الْبَقَرَةِ: 215).
الإيجابية والتفاعل
ومما يُميّز التربية الإسلامية عن غيرها، أنها تدفع بالفرد إلى أن يكون دائمًا ذا حركة وفعالية في حياته كلها، مع نفسه ومع مَن يعايشهم، بل مع الكون نفسه ومكوناته، يعمر الأرض ويفيد من البحر والجو، والحيوان والنبات، والجماد؛ من منطلق أن هذا كله قد سخره الله له، فلا يستطيع أن يكون سلبيا متواكلا مع نفسه، أو مع المجتمع الذي يعيش فيه، أو الكون الذي سخّره الله له، بل هي الإيجابية والتفاعل، في ظل هذا الدين العظيم وهذه الأخلاقيات الرفيعة القدر.
وحيثما ذُكر الإيمان في القرآن أو ذكر المؤمنون ذُكر العمل الذي هو الترجمة الواقعية للإيمان، فليس الأمر مجرد مشاعر إنما هو مشاعر تفرغ في حركة لإنشاء واقع وفق التصور الإسلامي للحياة بهذا يستشعر الفرد أن وجوده على الأرض يقتضيه حركة وعملًا إيجابيًّا في ذات نفسه وفي الآخرين من حوله.
والإنسان في هذه الأرض هو مستخلف فيها وفي هذا الكون وأنه لن يبلغ شكر نعمة الله عليه بالوجود ولا يطمع في النجاة من حساب الله وعذابه، إلا بأن يؤدي دوره الإيجابي في خلافة الأرض.
مسايرة الفطرة
ولقد تميزت التربية الإسلامية بخاصية مسايرة الفطرة البشرية في واقعها البشرى الأرضي المادي، كما تساير قدرة هذا الإنسان على أن يكون مثاليا، يحقق لنفسه ولدينه ولمجتمعه ما يعود عليه بالنفع والخير، كل ذلك داخل في إطار ما أحل الله وما شرع، فيعترف الإسلام للإنسان بتلك الفطرة التي خلقها الله، وفيها ضعف للإنسان إزاء التكاليف والواجبات، كما فيها ضعفه إزاء الشهوات والمغريات.
ولكي يواجه الإسلام الضعف البشرى إزاء التكاليف جاء قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
ولمواجهته الضعف إزاء المغريات جاء قوله سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران:14].
التجميع
وتتميز التربية الإسلامية بالتجميع، فالفرد المسلم الملتزم الحامل للدعوة مثله كمثل قطرة ماء الغيث أو المطر، إنه يشبهها في صفات من صفاتها وخصائص من خصائصها، فطهارته كطهارتها، ثم إنه طهور؛ لأن دوره في تطهير المجتمع مما خالف الإسلام كدورها في تطهير الأشياء من النجاسات، وماء المطر طهور؛ لأنه طاهر في ذاته مُطَهِّر لغيره.
قطرة ماء المطر الطهور إذا وقعت في مستنقع من الماء الآسن الراكد القذر فإنها تفقد طهارتها، ولا يكتسب الماء النجس الذي وقعت فيه القدرة على تطهير غيره لمجرد انضمام قطرة طهور إلى مجموعه.
والفرد الطاهر هو كذلك، معرض لأن يفقد طهارته وقدرته على تزكية غيره إذا أحيط به في وسط أغلبية غير نظيفة، ولا سبيل للحفاظ على طهارة الفردية إلا بالحرص على التواجد وسط من يشاركنا صفة الطهارة نفسها.
لذلك لا بُد من تجميع القطرات الطاهرة معًا، لأن وقوع قليل من قطرات ماء المطر الطاهرة في ماء نجس يسلبها صفة الطهارة، إلا أن يتجمع من هذه القطرات كم كبير وقدر كثير ترجح معه كمية الماء الطاهر على كمية الماء الملوث القليلة.
الحركية
من الناحية العملية ومن قراءة الواقع، فإن الوصول لأنْ يكون أصحاب التربية الإسلامية أغلبية مطلب عزيز المنال، وقد يتبادر إلى الذهن ألا أمل، وقد يتطرق اليأس إلى القلوب، لولا خاصية أخرى من خصائص تربيتنا تصمد بنا في مواجهة هذه الحقيقة وهذا الواقع، ألا وهي أن تربيتنا حركية، وعودة إلى مثال ماء المطر، فإن ماء المطر عندما يتحول إلى تيار يجري، فإنه يحتفظ بطهارته وبصلاحيته في تطهير غيره؛ لأن الماء الجاري لا ينجسه شيء، لذلك ترى ماء النهر يجري حاملاً ما حمل من مخلفات، ومازال الوضوء به صحيحًا؛ لأن الماء الجاري لا ينجسه شيء.
وتربيتنا تكون حركية، عندما تأخذ بالفرد منا فتحركه بإيجابية في المجتمع من حوله، فالتربية الحركية لا تُرَبَّى بين أربعة جدران، لكنها تعتني بإصلاح عمل الفرد وهو يتحرك بين الناس وتدفعه لإصلاحهم.
لذا فإن تميز التربية الإسلامية بالحركية تجعل المتربّى عليها متحركًا بإيجابية في المجتمع من حوله، فالحركة تجعله طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره كالماء الجاري.
عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: المؤمنُ الَّذي يخالطُ النّاسَ ويصبرُ على أذاهم أعظمُ أجرًا منَ المؤمنِ الَّذي لاَ يخالطُ النّاسَ ولاَ يصبرُ على أذاهم” (رواه ابن ماجه).
التنظيم
وتتسم التربية الإسلامية بالتنظيم، وقد يأخذ البعض علينا مسألة أننا نربي من خلال نظام وتنظيم، والحقيقة أن تربيتنا منظمة، وهي في ذلك ليست بدعة، ففي بيعة العقبة الثانية يقال: إن أهل العقبة كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأتين، أو ثلاثة وسبعين وامرأتين، فماذا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لهم: “أخرجوا منكم اثني عشر نقيبا” (رواه أحمد)، نعم نقيبًا، فإذا ما عددت المتبقي من أهل العقبة وجدتهم 72 – 12 = 60، الباقي ستون.
فإذا قسمتهم على الاثني عشر نقيبًا علمت أن كل نقيب كان كفيلاً على خمسة، فقد قال صلى الله عليه وسلم للنقباء: “أنتم كفلاء على قومكم”، فما هذا؟ إنه النظام في العملية التربوية، إنه النقيب، وإنها الأسرة منذ بيعة العقبة أو قبلها.
التدرج
ومما يميز التربية الإسلامية أنها تتبع أسلوب التدرج، لأن أحكام الإسلام وتشريعاته نزلت بصورة متدرجة على مدار ثلاث وعشرين سنة ولم تنزل دفعة واحدة فقد كان التدرج في تحريم الخمر والميسر والربا، وفرضت الصلاة والصيام والجهاد على مراحل ولم تفرض مرة واحدة.
إنّ الحكمة في تدرج التشريع الإسلامي هي تهيئة النفوس للقبول دون أن يرهقهم ، “فإذا نقلت النّفس من حال إلى حال، ومن حكم إلى حكم؛ كان ذلك أدعى للاستجابة، وأسهل لترك المحرّمات وفعل الطَّاعات”.
ويؤيد ذلك قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشأن هذا التدرج حتى بلغ الغاية فتقول هي “إنما نزل أول ما نزل منه- أي القرآن- سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتَى إِذا ثاب الناس إِلَى الإسلاَمِ نَزل الحلاَل والحرام، ولو نَزل أول شيءٍ لَا تَشربوا الخمر لَقالوا: لَا نَدع الخمر أبدا، ولَو نزلَ: لَا تَزنوا لَقالوا: لَا نَدع الزنا أبدا”.
وعلّق ابن حجر على ذلك بقوله: “فَلَما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلَت الأحكَام ولهذا قَالَت ولَو نزل أَول شيءٍ لَا تَشربوا الْخمر لَقَالوا لَا ندعها وذلك لما طبعت علَيه النّفوس من النّفرة عن تَرك المألوف”. فالتشريع الربّاني يُراعي التدرج، لأنه يتوافق مع الفطرة التي فطر الناس عليها، فمن الصعوبة ترك ما ألفته النّفوس من الشّهوات.
ولقد نزل القرآن الکريم بصورة متدرجة کي يتيسر للمسلمين فهم تفاصيله وتعريفاته وتدقيقاته لتکون المنهج الأقوم والسبيل الأصلح بالارتقاء بالنفس البشرية في جميع جوانبها بصورة شاملة متوازنة ليصبح الإنسان مؤهلاً لتطبيقه في کل شؤون حياته.
هذه أبرز خصائص التربية الإسلامية التي تميزها عن كل تربية سواها، وتؤكد لدى المنصفين من الناس أنها التربية الوحيدة القادرة على إعداد الناس إعدادًا يُحقق لهم صالح المعاش والمعاد.
المصادر والمراجع:
- خصائص التربية الإسلامية ومميزاتها .
- حنان عبد الحميد العناني: تربية الطفل في الإسلام، ص17.
- مقدمة في التربية الإسلامية.
- إسماعيل حماد الجوهري: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية.
- خالد الحازمي: أصول التربية الإسلامية.
- الشيخ صالح بن حميد، وعبد الرحمن بن ملوح: موسوعة نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم، ص1355.
- محمد إبراهيم حسان: سلسلة التربية لماذا؟ 3/3.
- ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/655.