السؤال
تعرضت ابنتي لمحاولة تحرّش ونجت منها بفضل الله. بقيت بعدها لأيام لا تغادر حجرتها إلا لضرورة.
تحدّثت معها وهدّأت من روعها؛ بدت أفضل، ولكنها لم تعد إلى طبيعتها، إذ أراها تتلفّت كثيراً عند الخروج، ولا تتعامل بطبيعتها مع الذكور. أعلم أن عامل الوقت قد يكون كفيلاً بالنسيان، ولكني أخشى عليها من تأثير هذا الحدث مع تقدّمها في العمر، خاصة في تعاملاتها واختياراتها وعلاقاتها.
فكيف نحمي أبناءنا من صدمات الطفولة أو ترسّباتها؟
الرد
أهلاً بك في موقع المنتدى الإسلامي العالمي للتربية ومختلف صفحاته على منصات التواصل الاجتماعي. الحمد لله الذي عافى ابنتك من سيناريو أسوأ؛ قدّر الله وما شاء فعل.
قبل الحديث عن الوقاية من صدمات الطفولة، نؤكد على ضرورة إيصال رسالة للأبناء بأن الدنيا ليست مكاناً آمناً دائماً كما يتصوّرون أو يرغبون في التحرك فيها بلا قيود. ولعلّ ما حدث لها يختصر واقعاً مؤلماً نعيشه مع الأسف.
الرسالة الثانية المهمة هي أن لا أمان مطلق للأشخاص مهما بلغت علاقتنا بهم؛ سواء كان قريباً أو جاراً، معلماً أو شيخاً. فوجود الأهل مع الأبناء في هذه المواقف واجبٌ وضرورة لا يُمكن التنازل عنها تحت أي ظرف، حتى لا نترك أبناءنا فريسة لضعاف النفوس. فالأخذ بالأسباب واجب، وما قدّره الله فهو الكائن.
أعانك الله على الأخذ بيد ابنتك لتجاوز هذه المحنة.
في البداية، ليس كل حدث قوي نتعرض له يؤدي إلى صدمة، فالصدمة تُعرف بأنها حدث غير متوقع أحدث هزة في النفس أثرت على كيمياء الدماغ، مما قد يسبب ضموراً في الجزء المسؤول عن الخبرات السابقة، إذا لم يتم التعامل مع المشاعر المصاحبة للحدث المؤلم وتفكيكها والحديث عنها.
فكيف نعرف أن الشخص قد تعرّض لهزة نفسية قوية؟
إذا وجدنا هذه العلامات:
• حزن زائد عن الطبيعي.
• غضب مستمر أكثر مما يتطلبه الموقف.
• لامبالاة شديدة.
• كتمان للمشاعر وعدم القدرة على التعبير بسهولة.
• خوف من الفقد، خاصة إذا كان الشخص قد فقد أحد الوالدين في سن مبكر.
• اضطرابات في النوم.
• اضطرابات في الشهية (إفراط في الأكل أو فقدان للشهية).
• نوبات هلع.
• الاكتئاب والقلق الشديدين.
المفاجأة الأكبر أن صدمات الطفولة قد تحدث نتيجة لعدم تلبية حاجات الأبناء، وليس فقط بسبب التعرض لموقف صادم.
فالطفل الذي تُقابَل طلباته دائماً بالرفض أو الصد أو عدم التقدير، تتولد لديه مشاعر بعدم الاستحقاق. وغالباً لا يتهم والديه بالتقصير بسبب شعوره القوي بالانتماء إليهما، فيرفض فكرة أن يكون والداه مقصّرين بحقه، فيترجم عدم تلبية احتياجاته على أنه شخص سيّئ ولا يستحق الاهتمام أو الحب.
هذا الطفل يظهر سمات تشبه سمات الأشخاص الذين تعرضوا لصدمات حقيقية، مثل:
• اضطراب في المشاعر.
• اضطراب في التركيز.
• صورة سلبية عن النفس.
• العصبية.
• غضب غير مبرر.
• اضطراب في العلاقات.
• محاولة إرضاء الآخرين على حساب نفسه.
• الصعوبة في وضع حدود مع الآخرين.
• تحمل المعاملة السيئة لأنه يشعر بعدم استحقاقه لما هو أفضل.
• السعي لإثبات ذاته عن طريق تحقيق إنجازات عديدة.
مما سبق، نجد أن الطفل الذي لم تُلبَّ حاجاته الأساسية أو تم إنكارها أو التقليل من شأنها، قد يظهر أعراضاً مشابهة لمن تعرض لحدث صادم. بل إن من تعرض لحدث صعب، يسعى الأهل عادة إلى مساعدته على تخطي ما حدث. أما الخطر الحقيقي فينشأ من تربية يسودها الحرمان والقسوة، دون وعي الأهل بتأثير هذا الحرمان على نفسية الطفل.
فما العمل والسبيل لإصلاح ذلك؟ نقول: “ما أفسدته علاقة قد تصلحه علاقة أخرى”. فإذا لم تكن علاقة الوالدين في الصغر مثالية، ولم يكن لديهم وعي كافٍ بما يجب وما يؤثر على نفسية الأبناء، فإن إصلاح العلاقة لاحقاً، والاعتذار عما كان، وخلق بيئة داعمة وآمنة ومتوازنة تراعى فيها احتياجات الأبناء (سواء بتأجيلها أو جدولتها أو تنفيذها) مع الحوار والمشاركة، دون تحميلهم للهموم، هو مفتاح حل الأزمة من خلال العلاج العائلي، دون الحاجة للجوء إلى مختص في معظم الأحيان.
أما بخصوص ما تعرضت له ابنتك، فيمكن العمل على تخفيف أثر الصدمة ببعض الحلول المنزلية. رحلة الذهاب إلى مختص قد تكون طويلة ومكلفة، فيجب أن يكون الأهل على وعي بذلك إذا احتاجوا لزيارة مختص.
يرشد المختصون في علم النفس إلى حلول بسيطة وفعالة ذات أثر ملموس، ومن أبرز هذه الحلول:
الكتابة
الحمد لله الذي خلق القلم وأقسم به، فهو وسيلة لا غنى عنها مهما بلغت الحداثة. يمكن أن تساعد الكتابة على تفريغ المشاعر والتعامل مع الصدمات بشكل واعٍ:
• دعي ابنتك تبدأ بصياغة الحدث كتابياً، وتكتب ما حدث دون إضافة أي مشاعر؛ هذا ينقل الحدث من العقل اللاواعي إلى العقل الواعي.
• ثم تكتب المشاعر التي انتابتها أثناء الحدث، مثل الخوف أو القلق أو الغضب.
• بعد ذلك، تُوجِّه رسائل للأشخاص الذين كانوا موجودين في الحدث، كرسائل شكر أو رسائل غضب.
• ساعديها على تقبل مشاعرها؛ من الطبيعي أن تخاف، أن تغضب، أن تشعر بالكراهية تجاه من أساء إليها، وأن تحذر من الاقتراب منه مرة أخرى.
• مع الكتابة، ستشعر بمشاعر جديدة كالارتياح، فمجرد تفريغ الحدث وما صاحبه من مشاعر يؤدي إلى بعض الراحة. أحياناً قد يقلق الشخص من هذا الشعور الجديد، وهو أمر طبيعي؛ هذه المشاعر تساعد في بناء مسارات عصبية جديدة تحل محل المسارات القديمة، مما يجعل تذكر الحدث مستقبلاً أخف وطأة.
أحياناً، قد يظهر “مثير للصدمة” حتى بعد أن يبدو لنا أن التعافي قد حدث؛ مثل التواجد في مكان الحدث، رؤية أشخاص معينين، أو حتى شم رائحة معينة تثير الذكريات. عندما يحدث ذلك، لا يُعتبر نكوصاً، فالتفريغ الكتابي مع الحمد على السلامة يولد استجابات جديدة أكثر طمأنينة، فلا يصبح المثير مقلقاً كما كان من قبل.
• لتكتب ما تعلمته من الحدث.
• لتسجل القرارات الجديدة التي اتخذتها حيال هذا الحدث، مثل: “تعلمت أن أضع حدوداً”، “تعلمت أن أقول لا”، “تعلمت أن أسامح”، أو “تعلمت أن أصبر”.
بعد الكتابة، من الأفضل ألا تحتفظ بهذه الأوراق، فقد أدت دورها.
كما نوصيكِ بألا تحرمي ابنتك من الانطلاق في الطبيعة، التأمل، والتدبر في خلق الله. ممارسة الرياضة أيضاً تُعد شكلاً من أشكال تفريغ المشاعر، وكذلك التدريب على تمارين التنفس، وكل ما يعزز إخراج شحنات الغضب وإحلال مشاعر السكينة والطمأنينة.
أما بالنسبة لمسألة إنكار احتياجات الأبناء وتأثيرها، قد يجد بعض الأهل صعوبة في قبول ذلك، فنقول لهم: هونوا على أنفسكم. غالبية الأهل تكون نواياهم طيبة تجاه أبنائهم. الغرض من هذه المعلومات هو خلق حالة من الوعي لحماية الأبناء من الآثار السلبية التي قد تحدث دون قصد. أما الأثر الناجم عن تربية صارمة أو قاسية أو منكرة للحاجات، فيمكن علاجه من خلال تصرفات الحاضر، الاعتراف بالأخطاء غير المقصودة عند الحاجة، وفتح باب الحوار.
نحن لا ندعو لفتح ملفات لا يمكنكم حلها بأنفسكم، لكن في حال استدعى الأمر ذلك، فلا داعي للشعور بالذنب؛ فالله سبحانه وتعالى يحاسب على النوايا، ويجزل لكم الأجر بإذنه، كما يُكافأ المتتعتع في التلاوة، فإن من يجتهد في التربية ويصيب ويخطئ ولا يسأم من المحاولة له أجران بإذن الله، طالما كان هدفه رضا الله.
إننا لن نستطيع مهما حرصنا منع أبنائنا من مواجهة صدمات الطفولة. فهذه الصدمات رغم قسوتها تحمل تجارب نافعة، والمهم ألا يشوب رعايتنا لهم إهمال أو استسهال.
حفظ الله بناتنا من كل سوء، وشلت يد المعتدين على بنات المسلمين؛ حسبنا الله ونعم الوكيل. لا تترددوا في الإبلاغ عن كل يد متلصصة، فمن أمن العقوبة أساء الأدب.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.