”إنَّكَ تَقْدَمُ علَى قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتَابِ،
فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلى أنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى،
فَإِذَا عَرَفُوا ذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في يَومِهِمْ ولَيْلَتِهِمْ،
كان ذلك جزءًا من توجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم لمعاذِ بن جبل
حين أرسله إلى اليمنِ ليدعُوَهُمْ إلى الإسلامْ
فالتدرجُ منهجٌ رباني، والبدءُ بالأهمِ الأوجبِ منهجٌ تربويْ
فإتيان الواجبِ قبل الأوجبِ، وأداءُ النافلةِ مع تضييعِ الواجبِ سفهٌ وضلالْ
وقد جعل اللهُ التدرجَ قبلَ ذلك سنةٌ إلهيةٌ حينما خلقَ الخلقْ
والتدرجُ نهجٌ ربانيٌّ في التشريعْ
والتدرجُ سياسةٌ نافعةٌ مع معاملةِ النفسِ وتربيتها
والتدرجُ سنةٌ نبويةٌ في تدبيرِ شؤونِ الخلقْ
والتدرجُ طريقةٌ وازنةٌ في الثوابِ والعقابْ
…………………………
- التدرج سنة إلهية في الخلق
فالله تعالى قادرٌ أن يخلقَ بكلمةِ كنْ
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
ولأن ربَّ العالمين يربي عبادَه بفعلِهْ
ويقررُ السننَ بحكمتِه
فإنه خلقَ الأرضَ في يومين
”قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ“
وأرسى الجبالَ وقَدَّرَ الأقواتَ في يومينْ
“وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ“
وصيَّرَ السبعَ سماوات وأبدعهن في يومينْ
” فَقَضَىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍۢ فِى يَوْمَيْنِ ”
فأتم الله خلق السماوات والأرض في ستةِ أيامْ
” وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍۢ“
…………………. ……
وإن كان الإنسانُ يُبعث بنفخةٍ واحدةْ
“ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ“
إلا أنه خُلق على أيام
“إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ،
ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ،
ويُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ…”
………………………………….
- التدرج نهج رباني في التشريع
والشارعُ سبحانه وتعالى وضع حدودا على مراحلْ
وافترض فروضا على درجاتْ
” فالصلاةُ_ كما يقول ابن القيم _
فُرضت ركعتين ركعتين مع حداثةِ العهد بالإسلامْ
فلما أَلِفَتْها الطباعُ وذلت لها الجوارحُ وطَوَّعَتْ لها الأنفسُ وباشرت نعيمَها وذاقت حلاوتها ولامست لذةَ المناجاة بها القلوبُ زِيدَتْ ضِعفَها، والصومُ شُرع أولَ ما شُرع على التخيير بين الصومِ والإطعامْ
“وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ“
ثم اوجبه اللهُ على كل بالغٍ قادرْ
” فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ “
…………………………….
والخمرُ حُرمت على ثلاثْ
التنفيرُ من مضارها
” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا“
ثم الأمرُ باجتنابِ السكر في الصلاةْ
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى“
ثم التحريمُ المطلقُ وتشريعُ الحدِّ لشاربها
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ “
…………………………
فالأمرُ على التدريجِ والنهيُ على التدريجْ
ادعى للانقيادِ للحقِّ
وأيسرُ لمعاشِ الناسِ
وأهيأ لقبولِ النفسِ التكاليفْ
وتلك من مقاصدِ التدرجْ
…………………………..
- سياسة نافعة مع النفس وتربيتها
للسالكين إلى اللهِ تعالى مدارجْ
وللقاصدينَ وجهَ اللهِ الكريمَ مقاماتْ
وللباحثين عن معرفةِ اللهِأحوالْ
والسالكُ إلى الله تعالى لا يبرحُ الحالَ قبل تمامه
ولا يقفزُ على المقامِ قبل بلوغِه
فالنفسُإن تعجلتِ ارتدتْ وإن تهاونتِ انتكستْ
فالتمامُ شرطُ الانتقالْ
وبلوغُ المقامِ شرطُ الترقي إلى غيرِهْ
وتلك من ضوابطِ التدرجْ
………………………….
وبعد العزم الأكيد على تركِ كلِّ قبيحْ
وعلى التخلقِ بكلِّ جميلْ
فالأجدى في سياسةِ النفسِ الرياضةُ الدائمةُ المتدرجةْ
فالنفس إن أكرهتها على التركِ جملةْ
حَرَنَتْ وعاودتْ عاداتِها جملةْ
فللفضائلِ السيرُ على درجاتْ
“وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا “
وللقبائحِ الفطامُ على مَهَلْ
فالنفسُ كالطفلِ إن تُهملهُ شَبَّ على حُبِّ الرَّضاعْ.. وإِن تفطِمْهُ يَنْفَطِمِ
فقديما قالوا: ”النفسُ تُساسُ كما الإبل“
……………………….
- التدرج سنة نبوية في تدبير شؤون الخلق
يُحكى أن معاوية بن أبي سفيان قال:
“لا أضع سيفي حيث يكفيني صوتي،
ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني“
فالتزامُ التدرجِ في تدبيرِ شؤونِ الخلقْ
ودعوةِ الناسِ إلى الحق
هو عينُ الحكمةِ والصوابْ
فالناسُ كما قال عمرُ بنُ عبدِ العزيز
”إن أكرهتهم على الحقِّ جُملةً تركوه جُملةْ“
فخُذْ بأيدي الناسِ على مَهَلْ
ولا تُكلِّف إلا بمقدور
“لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا“
……………
والتدرجُ في النصحِ نهجٌ شريفْ
فبينَ الطيب من القول والأَحَدِّ من السيفِ درجاتْ
” مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ،
فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ،
فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ“.
…………………
- التدرج طريقة وازنة في الثواب والعقاب
تدرجْ في الإثابةِ والعقابْ
فالله تعالى خلقَ الجنةَ درجاتْ
وخلقَ النارَ دركاتْ
وليس من أتى القبيحَ مرةً كمن استمرأهْ
ولا من أتى الجميلَ مرةً كمن تطبعَ بهْ
…………………..
…………………….
وختاما
فقد سَنَّ اللهُ تعالى سنةَ التدرجِ في الخلقِ والأمرْ
ليستنَّ بها عبادُه ويتخلقَ بها أولياؤُهْ
“يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ“.