تظل الأسرة هي المدرسة الأولى في غرس التربية الوجدانية لدى الأبناء وتعليمهم كيف يشعرون بأنفسهم، وكيف يستجيب الآخرون لمشاعرهم وعواطفهم وانفعالاتهم، وكيف يُحددون اختياراتهم كردّ فعل لهذه الاستجابات. هذا التعلم لا يتوقف فقط على ما يقوله ويفعله الآباء مباشرة مع الأبناء، بل أيضًا ما يقدمونه لهم من نماذج في كيفية تعاملهم معهم، وكيف يتبادلون المشاعر هم أنفسهم فيما بينهم.
وفي بحث أعدته الدكتورة زينب حسن حسن، لنيل درجة الدكتوراة بكلية البنات جامعة عين شمس، أكدت فيه دور الأسرة في تأصيل وتحقيق هذا النوع من التربية على أسس علمية صحيحة وعلى قواعد الثوابت القيمية الوجدانية السليمة، في ضوء الخطاب الوجداني الأسرى للفرد.
تعريف التربية الوجدانية
تُعرف التربية الوجدانية بأنها “التربية التي تسعى إلى تجنيب الضمير عثرات الشك والحيرة والضلال والوسواس، وتحرص على الحفاظ على صحة الوجدان والحيلولة دون أن يصاب بالخلل والتهافت والمرض والإجرام ليمسى المرء سيد نفسه، ويبدع ضروب سلوكه الأخلاقي لا باتباع العادة والتقاليد الزائفة ولا الأنموذج ولا العرف وإنما بوعي ما يفعل وبمعرفة الفرض الذي يرجوه بفعله وبالقدرة على شرح عمله أو حكمه أمام أي إنسان زكي حيادي”.
ويهدف هذا النوع من التربية إلى تحرير المرء من أسر غرائزه وأهوائه الدنيا، ورغباته الجامحة، وتحسين الكيان الإنساني فيه وفي الآخرين وحثه على الخلاص من مساوئ الأثرة والحقد، والعمل على زيادة التفاهم والتعاون ليلتقي البشر بسلوكهم الأخلاقي الحر المبتكر بالتقاء القيم الفكرية والبديعية والأخلاقية في ذروة التقديم الأصيل، والتكافل اللانهائي.
وهذه التربية هي الموجهة من الله تعالى ورسوله – صلى الله عليـه وسلم- لتغيير وجدان الإنسان المسلم تغييرًا يتفق والأهداف المرتبطة بالرسالة الخاتمة والدور الذي يقوم به المسلمون أفرادًا وجماعة في حمل منهج الله إلى خلقه، وهي التربية التي تتناول أساسا العواطف والانفعالات خاصة والتكوين الوجداني عامة.
أسس نجاح التربية الوجدانية
إنّ نجاح التربية الوجدانية مع الأفراد، يتحقق بتأسيس العقيدة السليمة منذ الصغر، ومما يُساعد على ذلك اتباع الوالدين الوصايا التربوية التالية:
- الإجابة عن تساؤلات الابن الدينية بما يتناسب مع سنه ومستوى إدراكه وفهمه وإعطاء تفسيرات مناسبة صحيحة، وإيقاظ وعيه بقدرة الله تعالى.
- محاولة ذكر اسم الله تعالى من خلال مواقف محببة سارة، فمثلًا: إذا لبس الجديد حمد الله.
- الاعتدال في الأوامر الموجهة للابن، وعدم تحميله ما لا طاقة له به.
- تجنب الحديث عن غضب الله وعذابه، ويجب البدء بالترغيب بدلًا من الترهيب، وبذلك ينمو الشعور الديني عند الابن على معاني الحب والرجاء والتقرب إلى الله، وتعويده على دعاء الله وشكره على نعمه.
- غرس حب الرسول – صلى الله عليه وسلم- في وجدان الأبناء، وذكر شمائله.
- بيان الفرق بين الحلال والحرام للابن، والفرق بين الأعمال الصالحة والأعمال السيئة.
- ينتهز المربي حادثة ما أو مرور موقف بأبنائه، فيعطيهم التصرّف السليم في مواجهته، مقتديًا في ذلك برسول الله – صلى الله عليه وسلم- حين كان يُربّي أصحابه تربية وجدانية عظيمة.
- تعليم الأبناء عقيدة الإيمان بالقدر خيره وشره، فالعمر والرزق مُقدر فلا يسأل إلا الله، وتعليمهم أنّ المال مال الله ونحن مستخلفون فيه، والإجابة عن استفساراتهم في هذا الأمر بطريقة مبسطة ومقنعة.
- تعويد الأبناء على حُسن الخلق، حيث لا قيمة لإيمان بلا خُلُق حميد، ودون الخُلُق الكريم تصبح العبادات مُجرّد حركات لا قيمة لها.
- تغذية النزعة الجمالية في نفوس الأبناء عن طريق مصاحبتهم إلى الرّيف والبحر والجبل والمنتزهات، ليتسرب في قلوبهم جمال الطبيعة وقُدْرة الخالق.
- التحذير من الكذب والسّب واللعن والكلام البذيء، والميسر والخمر، وقراءة المجلات الخليعة والقصص الجنسية والبوليسية وغيرها، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات المشينة التي تحث على الانحلال الأخلاقي والاستهانة بالذنوب.
- وممارسة الشعائر الدينية، من الأمور المهمة في تحقيق هذه التربية وغرسها في النشء، لأنّ بناء العبادة يعد مكملًا لبناء العقيدة، إذ العبادة تغذي العقيدة بروحها، كما أنها تعكس صورة العقيدة وتجسمها في سلوك الفرد المسلم، فالدين ليس مجرد شهادة ينطق بها الإنسان، وليس مجرد مناسك وشعائر، إنما عاطفة تتبع من أعماق النفس البشرية تدفع الإنسان إلى حسن معاملة الآخر، والرسول – صلى الله عليه وسلم- يقول: “الدين المعاملة”.
سبل غرس القيم الوجدانية في الأولاد
تمثل القيم جانبًا مهمًا من جوانب التربية الوجدانية التي يشعر أعضاء الأسرة نحوها بالارتباط الوجداني القوي، كما أنها تُوفر لهم مستوى الحكم على الأفعال والأهداف الخاصة، باعتبارها موجهة وضابطة للسلوك الإنساني، وتؤدي دورًا مهمًّا في تحقيق التوافق النفسي والاجتماعي، وتساعد في إعطاء المجتمع وحدته وحمايته.
وتتفرد القيم الوجدانية بخصائص تجتمع فيها بأكثر مما تجتمع في سواها من القيم منها: الأصالة، والثبات، والمثالية، والعملية، والاستمرار، والالتزام، والمسئولية، والتوازن؛ وكلها مجتمعة تُعد عناصر إيجابية في التأصيل للقيم الوجدانية في الفرد والمجتمع.
ومن أهم القيم الوجدانية التي لها تأثير في نجاح الفرد وتقدم المجتمع، والتي ينبغي أن تحظى باهتمام الأسرة وتسهم بدور كبير في تكوينها وترسيخها في وجدان أبنائها منذ الصغر ما يلي:
قيمة الإيثار، والحب، والإحسان، وسلامة الصدر من الأحقاد، والتواضع، والحياء، والتسامح، والشجاعة، والوفاء بالعهد، والإخلاص، والتعاون، والاعتدال، والأمانة، والصدق، والعفة، والإخلاص.
ومن سُبل غرس القيم الوجدانية في الأبناء، ما يلي:
- ربط قيم الأسرة وأبنائها بالقرآن الكريم والسنة النبوية.
- تهيئة المواقف الأسرية التي تمكن الأبناء من ممارسة القيم المراد تعميقها في وجدانهم.
- تقديم القدوة الصالحة من الأبوين.
- تدعيم العلاقات الودية بين أفراد الأسرة، وإتاحة الفرصة للحوار والمناقشة وحرية التعبير.
- تعليم الأبناء التعاليم الدينية والفضائل الخلقية.
غرس حب المشاركة في وجدان المسلم
لكي يغرس الأبوان التربية الوجدانية وحب المشاركة في وجدان الأولاد، لا بُد من معايشة نماذج من المشاركة داخل الأسرة، ومن أمثلة هذه النماذج ما يلي:
- المشاركة في قرارات الأسرة: عندما يشارك الأبناء في القرارات التي تُتخذ في بعض الأمور الأسرية التي تتعلق بهم مثل: كيفية قضاء العطلة الصيفية، أو عطلة نهاية الأسبوع، أو ترتيب الغرف الخاصة بهم، أو تنظيم رحلة جماعية عائلية.. مثل هذه الأمور ترسخ في الأبناء حب المشاركة في جميع الأعمال، وتزيد الثقة في أنفسهم وقدراتهم، ومن ثم يشاركون مستقبلًا في حل مشكلات مجتمعهم بطريقة بناءة.
- مشاركة الأب الأم في الأعمال المنزلية: فرؤية الأبناء أباهم يشارك أمهم في عملها داخل المنزل من شأنه أن ينمي فيهم اتجاهًا إيجابيًا نحو حب المشاركة والعمل التعاوني.
- مشاركة الأبناء الأم في الأعمال المنزلية: فعلى الأم أن تطلب من أبنائها مساعدتها في بعض الأعمال المنزلية المناسبة لسنهم؛ لأن معايشة الأبناء وممارستهم المشاركة تأصل في وجدانهم حب المشاركة.
- مشاركة الأبناء في حل مشكلات الأسرة: على الوالدين عقد حوارات وجلسات نقاشية – بحضور الأبناء- والتحدث معهم عن بعض مشاكل الأسرة بصورة تناسب سنهم، ويتلقى الوالدين استجاباتهم وحلولهم لهذه المشاكل بمزيد من الاهتمام واحترام مقترحاتهم، فهذا السلوك العملي يرسخ في وجدان الأبناء حب المشاركة.
- مشاركة الآباء في بعض الأعمال التطوعية: التي تخدم العائلة والحي والمجتمع، مثل: حل النزاعات في العائلة، وتشجير الحي والمحافظة على نظافته، ومشروع محو الأمية، وإغاثة المحتاجين، وغيرها من الأعمال التي يراها الأبناء بأنفسهم.
فوائد الالتزام بالقيم الوجدانية الإسلامية
وتجني الأسرة من التربية الوجدانية والالتزام بالقيم الخاصة بهذا النوع من التربية، فوائد عديدة، منها ما يلي:
- ضبط عمليات التغيير الاجتماعي، فتعد القيم الوجدانية الأساس في أية محاولة للتغيير والارتقاء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي؛ لأنها ترتبط بالأفراد في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وسلوكهم، والذين يقع عليهم عبء الضرر من عدم الالتزام بها، ونحن بحاجة إلى تنقية واقعنا الثقافي والفكري، والعودة إلى منظومة القيم الإسلامية، حتى يمكن التحرر من التخلف، وتحقيق التغيير الاجتماعي المنشود.
- الحفاظ على ثقافة المجتمع: تُعد القيم الوجهَ البارز لثقافة المجتمع، وأي فكر مهما كان علميًّا وتقدميًّا لا يستطيع الارتقاء بالأمة ما لم يكن مرتبطًا بمنظومة قيم، تتمتع بإيجابيتها ونفعيتها، بشكل يجعلها حافزة وضابطة للسلوك الاجتماعي المنظم والفعال، لذا فإن القيم الوجدانية الإسلامية تحفظ على المجتمع تماسكه وترابطه ووحدته، حيث تُحدد له أهداف حياته ومُثله العليا ومبادئه الثابتة المستقرة التي توفر له الأمن والثبات والاستقرار اللازم لممارسة حياة اجتماعية سليمة.
- إحداث التقدم داخل المجتمع: عندما تسود القيم الوجدانية بين أبناء المجتمع فإنها تؤدى إلى تقدمه ورقيه وقدرته على التحول السريع الذي يمكنه من تحقيق أهدافه العليا، ذلك أن تلك القيم تجعل أفراده الذين يتمسكون بها مدفوعين نحو العمل المبدع والخلاق، متضامنين فيما بينهم، ومتآخين في السراء والضراء ومخلصين في المهام والواجبات التي يقومون بها، مما يمكن ذلك المجتمع من إنجاز ما يخطط له بأسرع وقت ممكن وبأقل قدر من التكاليف المادية.
- مواجهة سلبيات القيم الوافدة: للقيم الوجدانية أهمية كبيرة في مواجهات سلبيات القيم الوافدة، تلك التي تنشأ نتيجة الظروف والتحديات الصعبة التي يواجهها المجتمع، أو تكون وافدة من الخارج عن طريق حملات الغزو الثقافي الغربي مثلاً، وأيًا كان مصدرها فإنها تؤدي إلى تفكك العلاقات الإنسانية، وضعف وحدة الجماعات الاجتماعية، وبالتالي عجزها عن تحقيق أهدافها القريبة والبعيدة، فضلاً عما تحدثه من تصدع في جوانب الشخصية الإنسانية وتشويه عناصرها الأساسية، إضافة إلى توفير أجواء الصراعات والفتن والقلاقل والانقسامات بين الأفراد والجماعات، مما يؤدي إلى تفكك المجتمع وتصدع كيانه الاجتماعي والحضاري.
- المساهمة في اختيار السلوك المناسب: أكدت دراسات أجريت لمعرفة أثر القيم على اختيار السلوك المناسب، على أن الفرد يختار البديل الذي يتفق مع قيمه الشخصية الراسخة في وجدانه من بين البدائل المطروحة، وأيضًا كرد فعل لعاطفة الشخص تجاه بعض المواقف، فالتمسك بالقيم الوجدانية: كالإيثار، والحب، والصدق، واحترام الآخرين، والتسامح والعدل… وغيرها يؤدى إلى إشباع الحاجات الوجدانية للفرد والتي لا تقل أهمية عن الحاجات الفسيولوجية، فالقيم الوجدانية التي يتبناها الأفراد، حوافز مهمة دافعة لسلوكهم الإيجابي في المجتمع.
المصادر:
- عادل العوا: الوجدان، ص 185 و186.
- عبد البديع عبد العزيز الخولي: الفكر التربوي العربي الإسلامي، ص 501.
- التربية الوجدانية للطفل: رؤية إسلامية.