بقلم: د. مخلص برزق
في حقبة زمنيّة سابقة، حاول البعض سلخ القضيّة الفلسطينيّة عن بعدها الإسلامي وارتباطها المتجذِّر بمفردات الدِّين، وحاولوا حصرها في إقليميّة ضيّقة بالكاد تتَّسع لأبناء تلك البلاد، ورفضوا “أدلجة” الصِّراع أو إضفاء أيّ صبغة دينيّة عليه، وهو ما أضرَّ بها أيَّما ضرر وأدخلها في دائرة مفرغة أبعدتها عن عمقها الحقيقي، مع إقرارنا التَّام برفض توصيف الصِّراع بيننا وبين الصَّهاينة المحتلِّين على أنَّه صراع ديني -وذلك حقّ- ؛ فالدّوافع الدّينية التي يتعلَّل المغتصبون بها كلّها واهية وكاذبة، فحتى بن جوريون -أوّل رئيس حكومة للكيان الصّهيوني- كان يعتبر الدِّين بمثابة: “وسيلة مواصلات فقط، ولذلك يجب أن نبقى فيها بعض الوقت لا كلّ الوقت”، مثله في ذلك مثل البابا أوربان الثاني الذي أشعل بخُطَبِه شرارة الحروب الصّليبيّة، والتي ادَّعَى فيها أنَّه يتكلّم باسم الرَّب، فكان ممَّا روَّجه لذلك قوله: “ومن ثَمَّ فإنَّني لست أنا، ولكن الربّ هو الذي يحثُّكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضُّوا النّاس من شتَّى الطَّبقات”.
كلُّ الأطماع الدنيويّة التي هيمنت على الأوربيّين الذين طحنهم بؤس الحياة تمَّ تغليفها بخبثٍ شديد بغلافٍ ديني جذَّاب، وصل إلى درجة الوعد بالمغفرة التَّامة من الذّنوب كما جاء في خطبة البابا: “إنّي أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين، فضلاً عن أنَّ المسيح يأمر بهذا، أنَّه سوف يتمّ غفران ذنوب كلّ أولئك الذّاهبين إلى هناك، إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيويّة، سواء في مسيرتهم على الأرض، أو أثناء عبورهم البحر، أو في خضمّ قتالهم ضدّ الوثنيّين -يقصد المسلمين-، وهذا الغفران أمنحه لكلّ من يذهب بمقتضى السّلطة التي أعطاني الربّ إيّاها”.
كانت أطماعاً دنيويّة محضة أباحت لهم سفك الدّماء بكلّ وحشيّة وهمجيّة لم تخطّ لهم أيّة خطوط حمراء في طريقهم، مكّنتهم من احتلال ديارنا وتدنيس مقدّساتنا. وكان أن عاثوا فيها فساداً وإفساداً دهراً من الزّمان، ظنّوا أنّهم مخلّدون فيها وقادرون عليها، غير أنّ الأرض المقدّسة مادت بهم ولفظتهم وأزاحتهم عنها، حين نذرت ثلّة مؤمنة من المتجذِّرين فيها أنفسهم أن يُطهِّروها من دنسهم ورجسهم، فكان لهم ذلك بعد أن سطَّروا أعظم صفحات الجهاد والصّبر والتّضحية، توِّجت بصعود القاضي محيِ الدِّين ابن الزَّكيّ درجات منبر نور الدِّين الشّهيد مُفتتِحاً أوّل خطبة جمعة بعد تحرير الأقصى بآية: “فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (45) الأنعام.
ما يميِّز قضيّة فلسطين عن غيرها من قضايا الاحتلال وغصب الأرض هو وجود المسجد الأقصى، واختصاصها بالبركة، وأمور أخرى كثيرة لا تتوافر في غيرها. وهو ما يحتِّم التَّعامل معها من زاويةٍ مسجديّة خاصّة، وبأناسٍ لهم خصوصيّة مسجديّة، مع القناعة التّامة بأنَّ غيرهم لن يفلحوا مطلقاً في إحداث أيّ تغييرٍ يمكن أن يُحقَّ الحقَّ، ويزهق الباطل، ويطهِّر الأرض من الغزاة المحتلِّين.
السرّ الكامن وراء ذلك هو أنَّ الله تعالى قرن التَّمكين في الأرض بأناس لهم صفات مخصوصة حوتها الآية: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور” (41) الحج، والأكيد أنَّ إقامة الصَّلاة لا تتأتَّى إلاَّ بإقامة المساجد، وهو ما نقرأه في سيرة الهادي البشير صلَّى الله عليه وسلَّم الذي أمضى الفترة المكِّية هو وأصحابه محرومين من المسجد الحرام. أمضوا فيها ثلاث سنواتٍ كاملةٍ محاصرين في شعب أبي طالب.
كانت أوَّل علامات الانفراج والتَّمكين مرتبطة بمسجد، وأيّ مسجد.. فبعد الانسداد التَّام لكلِّ آفاق الدَّعوة داخل مكَّة، وإفشال أهل الطّائف محاولة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إخراج الدَّعوة من هيمنة كفَّار قريش، كانت رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى ما فوق السّماوات العلا. صلاة بالأنبياء والمرسلين، وفرض الصّلاة من ربّ العزّة لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم بدون أيّ واسطة.
أعقب ذلك الإذن من الله له بالهجرة إلى المدينة المنّورة، فكانت أبرز علامات التّمكين بناءه مسجد قباء، تبعه بناء المسجد النَّبويّ ليكون إيذاناً بالتّمكين للدّولة الإسلاميّة النّاشئة، ومنها تحرَّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه نحو مكّة، وكان نصر الله والفتح ودخول النَّاس أفواجاً، وتمَّ تطهير المسجد الحرام من الشِّرك والأوثان.
ازدادت رقعة التّمكين لأمَّة الإسلام بذلك الفتح المبين لتشمل جزيرة العرب، وفي كلّ الفتوحات الإسلاميّة المظفّرة التي تبعته كان التّمكين مرتبطًا بتشييد المساجد وارتفاع الأذان من مآذنها في تلك البلاد، وفي ذروة الفتوحات المباركة تحقّق الوعد بفتح بيت المقدّس كما أخبر به النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما في الحديث عن عوف بن مالك الأشجعيّ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ وهو في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ، فَقالَ: اعْدُدْ سِتًّا بيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ.. الحديث (صحيح البخاري). وكما بشَّر أصحابه بفتح الشَّام يوم الخندق حين ضرب الصّخرة بالمعول وخرجت منها برْقةً أضاءت منها قصور الشَّام.
كان ذلك الفتح الذي شهده أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه علامة التّمكين للمسلمين في بلاد الشّام، وكان اتِّخاذ السّلطان محمّد الفاتح آيا صوفيا مسجداً تقام فيه الصّلاة ويرتفع منه الأذان، علامة التّمكين في فتح القسطنطينيّة بعد ذلك. وكان تحويله إلى متحف قبل ستّة وثمانين سنة علامةً عكسيّة تُنبئ عن تزعزع حكم المسلمين وضياع سيادتهم الفعليّة على تلك البقعة. وهو ما حدث مع مثيلاته من المساجد التي تهاون المسلمون في الدّفاع عنها، فسُلبت منهم كما في الأندلس والمجر وبلغاريا واليونان والهند وتركستان وبقاع كثيرة من العالم ارتبط العزّ فيها والتّمكين للمسلمين بعزّة المساجد ورفعة شأنها، والعكس صحيح. أمّا المسجد الأقصى المبارك، فقد كان احتلاله من قبل العصابات الصّهيونيّة مؤشِّر دقيقٌ على أشدّ حالات الضّعف والهوان التي تمرّ بها الأمَّة، والذي يجعلنا نجزم بأنَّ تعافي الأمَّة وعودتها إلى سالف عهدها لن يكون إلاَّ بإعادتها لمسجدها الأقصى تحت السِّيادة الإسلاميّة ونفوذ المسلمين لتحظى بالتّمكين في الأرض.
شاء الله تعالى أن يربط مساجده برجالٍ لا كأيِّ رجال، جاء وصفهم في كتاب الله مميَّزاً ومعبِّراً: “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ” (37) سورة النور.
أوتاد المسجد الأقصى
إنَّهم الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ للمساجد أوتاداً، الملائكةُ جلساؤهم، إن غابوا يفتقدونهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجةٍ أعانوهم”. (الألباني، صحيح التّرغيب، الحديث رقم 329، حسن صحيح).
ولابدَّ هنا من وقفة طويلة مع هذا الحديث الذي له إيحاءات عميقة تأخذ بالألباب، فالمساجد هي في حقيقتها أوتاد التّمكين للدّولة الإسلاميّة ومراكز القوّة فيها، ولا عجب، فهي بيوت الله التي تُؤوي رجال الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره وإقامة الصّلاة في أوقاتها وعدم تضييعها ولو في أحلك الظّروف، إنّهم الذين ملأ حبّ بيوته قلوبَهم فأضاءها، واستنارت بذلك الحبّ حتّى غدت قناديل معلّقة، ومصابيح وسُرُجاً تُشعّ نوراً وضياءً بعمارتها للمساجد.
إنَّها أوتاد الأوتاد التي تجالسها الملائكة وتؤنسها وتستغفر لها وترعاها، وتفتقدها عند غيابها، وتعودها وقت مرضها..
يخبرنا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنَّ المساجد لها أوتاد، وأنَّه ليس كلّ المسلمين أوتاد لها، بل البعض فقط ممّن يرتادونها ويحرصون كلّ الحرص على الحضور في صلوات الجماعة، بل والتّبكير إليها والمزاحمة على الصّفوف الأولى منها، المواظبون على طاعة الله سبحانه وتعالى، المتأدِّبون بآداب المساجد، المُحبّون لبيوت الله، المعلَّقة قلوبهم بها.
ولنا أن نبحر مع هذا الحديث ودرره وكنوزه، فقد وردت الأوتاد في القرآن في سورة النَّبأ في آية: “والجبال أوتادا”، وهي الآية التي أدخلت كثيرين من علماء الغرب المعاصرين في الإسلام لما وجدوا فيها من الإعجاز العلمي، فبعد تطوّر العلم الحديث، وتطوّر علم الجيولوجيا (علم الأرض)، وصل الإنسان إلى معرفة كبيرة بمظاهر الطبيعة المختلفة وبكلِّ تضاريسها، ومن ذلك افتراض العلماء الكثير من النَّظريّات العلميّة الجيولوجيّة التي تتحدّث عن شكل الجبال ومدى امتدادها في الأرض، فأكَّد الكثير منهم بأنَّ الجبال الضّخمة الهائلة تشبه في شكلها شكل الوتد، فهي تمتدّ عميقًا في الأرض ولا يظهر منها إلاَّ جزءاً يسيراً منها، لا يكاد يزيد عن الثُّلث، تماماً كالأوتاد. ولنا أن نقول هنا بأنَّ أوتاد المساجد هم أولئك الذين يبالغون في الإخلاص لله تعالى كي لا تذهب أجورهم بمظنَّة الرِّياء.
وإذا كان الحديث يخبرنا عن أوتادٍ للمساجد، فذلك يسوقنا إلى البحث عن أوتاد المبارك الذي هو من أعظم المساجد وأجلِّها مع توأميه المسجد الحرام والمسجد النّبويّ الشّريف.
إنّك لن تكون وتداً للأقصى إلاّ إن غرست نفسك فيه، ولم تبالِ إن ظهر عملك للآخرين وإن كان عظيماً كبيراً، أو بقي مَخفيّاً في أرضه المباركة.
لن تكون وتداً فيه إلاّ إن بذلت عمرك وعملك وأنت تتعمّق في أرضه المباركة عِلماً ومعرفةً وحبّاً وشوقاً وجهداً وجهاداً.
لن تكون وتداً فيه إن لم تكن قد مارست “الوتديّة” في مساجد حيِّك وبلادك وتعلّق بها قلبك، وامتلأت جنباتها بصلواتك وتسبيحاتك وأذكارك.
لن تكون وتداً فيه إلاّ إن نذرت نفسك وتداً لكلِّ مساجد الأرض، يُفرحك عودة الأذان والمصلِّين لمسجدٍ نال منه الحاقدون على هذا الدين وحاولوا تغيير هويّته، ويسوؤك أيّ مساسٍ بحرمة أيّ مسجدٍ في الأرض.
لن تكون وتداً للأقصى إن لم تكن عصيّاً شديد البأس على الطّغاة والمستبدِّين والمرجفين والمنافقين، فضلاً عن اليهود المحتلّين. تُعجزهم بثباتك وصبرك عن أن يزحزحوك عن التّمسّك بمسجدك الأقصى وأكنافه وحقّ الأمّة فيه.
لن تكون وتداً للمسجد الأقصى إلاّ إن احتملْتَ توالي الضَّربات والطَّرَقات عليك ما دامت تزيدك انغراساً فيه وتثبيتاً لأركانه.
وإذا كانت أوتاد الخيمة تتوزّع بانتظامٍ حولها لتؤدّي دورها في تثبيتها على أفضل وجه، فلن تكون من أوتاد الأقصى إلاّ إن توافقتَ مع بقيّة أوتادِه، وتوزَّعَت الأدوار بينكم بنظامٍ فائقٍ يضمن حمايته وتثبيته في وجه كلّ الكائدين له، ومن يريد زعزعته والنَّيل منه.
لن تكون وتداً للأقصى إلاّ إن كان قلبك مغروساً في ترابه، وروحك تحوم دوماً حول قبابه وإن ابتعد جسمك أو أُبعد عنه.
فيا طوبى ثمّ طوبى ثمّ طوبى لمن اختاره الله تعالى وتداً من أوتاد المسجد الأقصى المبارك في زمن عزَّت فيه الأوتاد التي تحفظ عليه قدسيَّته وكرامته وطهارته.
طوبى لشيخ الأقصى رائد صلاح.. طوبى للمرابطات والمرابطين في الأقصى الحبيب وأكنافه المباركة.. طوبى لشباب الأقصى ونسائه وشيوخه وأطفاله وكلّ من نذر نفسه في كلّ أصقاع الدّنيا أن يضبط نبضات قلبه على نبض الأقصى، وباع روحه سلفاً ليبقى الأقصى عزيزاً شامخاً.
طوبى لمن جعل تحرير الأقصى مشروع حياته ومحور أعماله وحركاته وسكناته.
طوبى لمن إذا تكلَّم حسبْتَ الأقصى ينطِقُ بلسانه، وإن بكى حسبتَهُ الأقصى يتوجَّع من طول غربته وحرمانه، وإن تبسَّم أو ضحك حسبت أنَّ الأقصى قد تحرَّر من قيوده وأغلاله.