حل علينا شهر رمضان المبارك، وقلوب المسلمين تشرئب جميعاً إلى هذا الضيف العزيز، فرمضان لدى كل المسلمين في كل مكان شحنة إيمانية ووجبة تنتظرها الروح بفارغ الصبر، إلا أن أجواء كورونا ما زالت سيدة الموقف، والمؤشرات تؤكد أن رمضان هذا العام سيكون مثل سابقه من حيث الإجراءات المشددة؛ مما أثّر على المسلمين من الناحية النفسية بسبب الانقطاع عن المساجد بالدرجة الأولى إما بغلقها أو تقليل أوقات وأعداد المتعبدين فيها، لضرورة التباعد الاجتماعي الذي هو عكس ما يحرص عليه الناس كل عام في رمضان من تزاور وتهانٍ وعلاقات اجتماعية، وقد تسبب ذلك في إرباك للتخطيط حول قضاء هذا الشهر المبارك، لأن معظم القرارات الشخصية والمؤسساتية ما تزال معلقة بتطورات الوضع الصحي.
لقد حزنت قلوب كثيرة العام الماضي لحرمانها من الشعائر الرمضانية التي كانت تجمع جموع المسلمين في صلوات الجماعة، أو صلاة التراويح، أو موائد الرحمن، أو زيارات الأهل والأقارب، أو غير ذلك من الأعمال التي كانت تنتظرها الأسر لتقوم بها في رمضان.. فهل تعيش نفس الأجواء هذا العام؟
التربية الرمضانية
تسمو النفوس والأرواح في رمضان لما حباه الله من خصال طيبة تتقارب بالطاعات مع بعضها البعض، وتتنافر وتختلف إذا هبطت وبعدت عن مكارم الأخلاق، ومن ثم فرمضان يربي فينا:
- الاستجابة الكاملة والانصياع التام لأوامر الله – عز وجل – دون تردد، وهو ما يجيب عن التساؤلات التلقائية، لماذا نصوم في رمضان وليس في شهر آخر؟ ولماذا نصوم من الفجر إلى المغرب وليس إلى العصر أو العشاء؟ ولماذا .. ولماذا؟ نجد أنه الانصياع لأوامر رب العالمين، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65).
- يربي فينا التحكم في الشهوات، فالأشياء التي أباحها الله للمسلم في ليل رمضان منعها عنه في نهاره كالطعام والشراب وإتيان الزوج، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال فيشفعان].
- يربي فينا القدرة على كظم الغيظ، فالصيام يربي على التحكم في الأعصاب، وعلى عدم انفلات اللسان، وعلى العفو عن الناس، فالفرد المتسرع المنفلت الأعصاب لا يصلح لبناء الأمم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم إني امرؤ صائم] (رواه الشيخان).
- يربي فينا الإنفاق في سبيل الله، فعن ابن عباس، قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة]( رواه الشيخان).
- يربينا علي الشعور بالوحدة والأخوة والألفة، كما يربي فينا التقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
حياتنا الرمضانية
يعد شهر رمضان بمثابة الطريق المنفتح أمام من أراد أن يعود إلى الله – سبحانه – ومن أراد أن يشمر في طاعته، وأن يشتغل بعبادته، وأن يكف عما كان فيه من غي، وإعراض عن ربه.
فالبدايات الصحيحة من شأنها أن تورث النتائج الصحيحة، وعلى المسلم أن يبدأ شهره بطاعة الله – عز وجل – ولا يكن من الغافلين.
- ولنا القدوة في نبينا – صلى الله عليه وسلم – والسلف الصالح، فمن السلف من كان يختم في رمضان في كل يوم ختمة، ومنهم من كان يختم في كل ثلاث، ومن السلف من كان إذا فرغ – وهم كثير – الإمام من صلاة التراويح شمروا يصلون بأنفسهم إلى وقت السحر. قال – صلى الله عليه وسلم -:[ من قام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه] (أخرجه البخاري).
- ويجب أن يدرك كل مسلم أن أول مقصد من مقاصد صيام رمضان، وهو تحقيق التقوى لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
- ناهيك عن إحلال قيم التكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع، حتى يدرك الأغنياء ما يعانيه إخوانهم ممن أصابتهم الفاقة والفقر. فقال صلى الله عليه وسلم: [مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهر] (متفق عليه).
- وقد قيل لنبي الله يوسف – عليه السلام- ، وكان كثير الجوع، لم تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: إني أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
- فالمسلم يعيش رمضان بالجد في العمل والعبادة؛ خاصة إذا علم أن الشياطين تصفد في هذا الشهر، ويصبح التقرب إلى الله سهلا ميسرا لمن سهله الله عليه في هذا الشهر وحرص على طاعته.
- وعلى المسلم أن يعيش حقيقة أن الصيام جُنّة ووقاية من الشر، ومن الأخلاق السيئة، وأن أجر الصيام غير محدد لنا في هذه الحياة، بل تركه الله مفاجأة سارة وفرحة كبيرة للمؤمن يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به» (رواه البخاري).
- على المسلم أن يتعهد بالرعاية في رمضان واحة القرآن الكريم الغناء بخيراتها وفضائلها وتزكيتها للنفوس وتطهيرها للقلوب.
بيتك مسجدك
فرضت الظروف الصحية العزلة على العالم كله، وتقوقع الناس في بيوتهم خشية انتشار الوباء، وهو ما يجعل المسلم – في أوروبا مثلا- تحت ضغط في إيجاد وسائل تتناسب مع الظروف التي فرضها الواقع، ولا يستسلم لكونه لم يتعود إلا على قضاء رمضان بين المساجد وأماكن الطاعات والزيارات، ولنا في قول أبي هريرة العبرة حينما سئل عن التقوى فقال لسائله: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه (تجنبته) أو جاوزته (قفزت فوقه) أو قصرت عنه (وقفت ولم أعبر)، قال أبو هريرة: ذاك التقوى.
ومن الأفكار التي تساعدنا على الاستفادة من رمضان في فترة الوباء أو إغلاق المساجد:
- أنت والصلاة: الحرص على الفريضة على وقتها في جماعة في المساجد، وإلا فتحديد مكان في المنزل واعتباره مسجداً عائلياً، والتخطيط لأداء العبادات فيه برفقة العائلة، ولنا في قصة عتبان بن مالك العبرة حيث يقول: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سالِمٍ، فأتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: إنِّي أنْكَرْتُ بَصَرِي، وإنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وبيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أنَّكَ جِئْتَ، فَصَلَّيْتَ في بَيْتي مَكانًا حتَّى أتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فقالَ: أفْعَلُ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَغَدا عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبُو بَكْرٍ معهُ بَعْدَ ما اشْتَدَّ النَّهارُ، فاسْتَأْذَنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأذِنْتُ له، فَلَمْ يَجْلِسْ حتَّى قالَ: أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ مِن بَيْتِكَ؟، فأشارَ إلَيْهِ مِنَ المَكانِ الذي أحَبَّ أنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقامَ، فَصَفَفْنا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وسَلَّمْنا حِينَ سَلَّمَ. (صحيح البخاري).
- التراويح في قلوبنا: حيث يحرص على أدائها كثير من المسلمين لعظم أجرها، وهو ما يجعلنا نخصص أماكن لأدائها، سواء للعائلة أو للبناء الذي نسكن فيه مثل أسطح المنازل.
- أنت والقرآن: فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، وفي رمضان بسبعين ضعفًا.
- أنت والصدقة ولو بالقليل: فهي بسبعين ضعفا في رمضان وهي تُطفئ غضب الله على العبد.
- حسن التخطيط: التحدي الذي يضع نفسه أمامنا هو كيفية التخطيط لتعويض الجوانب الروحية في العبادات والشعائر الجماعية في منازلنا في هذا الشهر، ولن يكون إلا بالتخطيط والمثابرة والتشجيع والمداومة.
- مساعدة الأهل في أعمال البيت: فلعل العزلة الصحية فرصة أن نعاون الزوجة في أعمال البيت ونشرك الأولاد، لأنها لها الحق أيضا في التعبد لله سبحانه مثل الجميع، فلا تقضي معظم وقتها بين الأطباق وإعداد الطعام.
- الاجتماع على الدعاء: فهذه فرصة أن الجميع في البيت فحبذا لو اجتمع الجميع قبل الأذان على الدعاء واللجوء إلى الله.
- اكتشف نفسك: فالعزلة – خاصة في رمضان – لها مميزات لاكتشاف مواهبك ولزيادة التقرب من الله عز وجل، فالتفكير في عملية تساعدنا على تحقيق هدفنا بترك بصمة رمضانية يحتاج لكثير من التركيز الحاد الجاد؛ لذا فإن ما يهم هو أن تركز؛ لتقدم أفضل ما لديك؛ لتساعد غيرك، ولتجعل الحياة مكاناً أفضل بكثير، وعليه فكر بما تملك، وكيف توظفه لعمل الخير وبشكل يُبهج الآخرين ويدخل الفرح والسرور إليهم، ولا تنتظر مقابلا.
كيف نوظف رمضان؟
رمضان نفحة ربانية عظيمة توشك أن ترحل مسرعة، ولذا يجب أن نحرص على الارتقاء التربوي بأنفسنا وبمن نعول بجعل أيام رمضان الثمينة ذات قيمة في نفوسنا، وأن نستغل مواسم الطاعات والعبادات فيه بأن:
- نستيقظ قبل الفجر حتى نتناول وجبة السحور ثم القيام بقراءة جزء من القرآن قبل وبعد صلاة الفجر.
- حاول أن تتحلى بمكارم الأخلاق فكن بشوشا وصبورا وكريما في تعاملك مع الآخرين.
- رمضان هو موسم الخير والصدقة فحاول أن تبتسم في وجه الفقير وأن تعطيه الصدقة التي تدخل السرور عليه وعلى أسرته وتذكر أن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه “كان أجود الناس وكان أجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ”.
- حاول أن تحرص على إقامة صلاة التراويح وأن تتواصل مع جميع أصدقائك وأقربائك – فيما لا ضرر فيه – لإقامة هذه الصلاة سويا إذا استطعتم أو بالمسجد وسوف تشعر بروحانيات ربانية رائعة.
- احرص على أن تكثر من مناجاة الله تعالى والدعاء وقراءة القرآن وإياك أن تلهيك متطلبات الدنيا عن التقرب من الخالق جل وعلا خلال شهر رمضان.
- أنت وصلة الأرحام: وابدأ بمن بينك و بينه خلافات و كن أفضل منه فلن يقبل الله صيامًا من مسلمَيْنِ بينهما مشاحنات أو عداوة.
- أنت والدعوة للخير: ادعُ الناس لكل هذا الخير الذي عرفته وشجع القريبين منك على الحرص على الطاعات.
أخيرا
يا من ترجوا رحمة ربه ونيل مغفرته وعتق رقبتك من النيران: هذه أوقات ثمينة سرعان ما ترحل؛ فاحرص ألا تكون فيها من الخاسرين، قال صلى الله عليه وسلم: [… ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ، ثم انسلخ قبل أن يُغفَرَ له] (رواه مسلم).