حرص الإسلام على بناء شخصية المسلم على قيم وأخلاقيات رفيعة حتى تستقيم حياته، ويُعد خلق الأمانة في مقدمة الأخلاق الإسلامية الرفيعة التي تنشر الثقة بين الناس وتضاعف من تماسكهم، وتساعدهم على صناعة حياة طيبة، حيث لا تقتصر معانيها على التعاملات المادية فحسب، لكنها أوسع وأشمل من هذا المعنى الضيق، إذ تتسع لتشمل السلوك الإنساني.
والإسلام في بنائه الأخلاقي للإنسان جاء بكل ما هو راقٍ ومتحضر، وسما بأخلاق أتباعه فوق كل الصغائر، ورسم للإنسان حياة راقية تغلفها كل المعاني الإنسانية، حيث اهتم القرآن بهذه التربية الأخلاقية التي تضمن حياة الاستقرار والرخاء في المجتمعات، والعمل على تجسيدها عمليًا في مواقف وتصرفات الناس.
مفهوم الأمانة
الأمانة بمثابة سوار لا يحمي الفرد فحسب، بل أداة قوية لحماية الفرد والمجتمع والكون ومن قبلهم الدين، فالأمَانة ضدّ الخيانة، وأصل الأَمْن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، وهي مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين، والجمع أمانات. وهي الوفاء بالعهد، والثبات عليه، والصدق والإخلاص في كل الأعمال.
وهي كل حق يلزم على الإنسان أداؤه وحفظه، فيقول الشيخ طنطاوي جوهري: إن الأمَانَة “كل ما أؤتمنتم عليه من قول أو عمل، أو مال أو علم، وبالجملة كل ما يكون عند الإنسان من النعم التي تفيد نفسه وغيره”(1).
ويقول أبو البقاء الكفوي: “كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار” (2).
الأمانة في الإسلام
لم يقصر الإسلام الحنيف الأمانة على الودائع والأموال فقط، بل اتسع المفهوم ليشمل كل ما اؤتمن عليه الإنسان أمانة؛ فالدين أمانة، والعقل أمانة، وجسد الإنسان أمانة، والودائع أمانة، والأعراض أمانة، والعلم أمانة، والحكم أمانة.
قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}[الأحزاب:72].
وقال- عز وجل-: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون:8]، وهي الصفة التي خلدها القرآن في خلق سيدنا موسى- عليه السلام- في تعامله مع الناس حينما قالت ابنة شعيب لأبيها: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26].
بل إن القرآن لم يترك بعض القضايا الشائكة عرضة لتفسير وتأويل المغرضين، فسدّ عليهم هذا الباب حينما اعتبر أنّ الحكم والولاية أمانة، ويجب الحكم بين الناس بالعدل، فقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}[النساء:58]. يقول ابن تيمية في السياسة الشرعية: “وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة”(3).
وهذا نبي الإسلام يؤكد عليها بقوله: “آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” (رواه البخاري ومسلم).
وفي أمانة الحكم والولاية ذكر البخاري في صحيحه: “بينما النَّبيُّ- صلى الله عليه وسلم- في مجلس يحدِّث القوم، جاء أعرابيٌّ فقال: متى السَّاعة؟ فمضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحدِّث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أُراه السَّائل عن السَّاعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضُيِّعت الأمَانَة فانتظر السَّاعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السَّاعة”(4).
أبواب عملية
وتشمل الأمانة على أبواب كثيرة يلجُها كل إنسان ومن ثم فعليه الحذر من الوقوع في شراكها وعدم الوفاء بها ومنها:
- الأمَانَة فيما افترضه الله على عباده: “أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا يضرَّنَّك ما فاتك مِن الدُّنْيا: صِدْق حديث، وحِفْظ أمانة، وحُسْن خليقة، وعفَّة طُعْمة” (رواه أحمد).
- الأمَانَة في الأموال: يقول عبد الرحمن الميداني: “ومِن الأمَانَة: العفَّة عمَّا ليس للإنسان به حقٌّ مِن المال، وتأدية ما عليه مِن حقٍّ لذويه، وتأدية ما تحت يده منه لأصحاب الحقِّ فيه، وتدخل في البيوع والديون والمواريث والودائع والرهون والعواري والوصايا وأنواع الولايات الكبرى والصُّغرى وغير ذلك”.
- الأمَانَة في الأعراض، وفي الأجسام والأرواح: فمِن الأمَانَة في الأعراض: العفَّة عمَّا ليس للإنسان فيه حقٌّ منها، وكفُّ النَّفس واللِّسان عن نيل شيء منها بسوء، كالقذف والغيبة.
- الأمَانَة في الولاية، ومنها تأدية الحقوق إلى أهلها، وإسناد الأعمال إلى مستحقِّيها الأكفاء لها، وحفظ أموال النَّاس وأجسامهم وأرواحهم وعقولهم، وصيانتها ممَّا يؤذيها أو يضرُّ بها، وحفظ الدِّين الذي ارتضاه الله لعباده مِن أن يناله أحدٌ بسوء، وحفظ أسرار الدَّولة وكلِّ ما ينبغي كتمانه مِن أن يسرَّب إلى الأعداء، إلى غير ذلك مِن أمور.
- الأمَانَة في الشَّهادة، وفي القضاء، وفي الكتابة، وفي الأسرار التي يُستأمن الإنسان على حفظها وعدم إفشائها.
- الأمَانَة في الرِّسالات بحسن تبليغها، وفي السَّمع والبصر وسائر الحواس، وفي النُّصح والمشورة(5).
آثار على الفرد والمجتمع
إن الإنسان المسلم وخصوصا الداعية هو الأَوْلى بأن يتخلق بخُلق الأمانة الذي أكده الإسلام، وتظهر فيه كل معانيه؛ ويكن قدوة حقيقية أمام الناس في أفعاله وأقواله، فعليه:
- تحقيق هذه القيمة في المعاملات المادية؛ فإذا ما استودع الناس عنده أموالًا أو بضاعة أو غيره عليه أن يحفظها من الضياع والهلاك، وأن يُوفّيها لأصحابها حينما يطلبونها.
- التخلق بقيمة أمانة المجلس والحديث.
- الالتزام بأمانة التبليغ.
- القيام بشؤون الدعوة والوعظ خير قيام، من حيث الأمر به وتكوين المؤسسات الراعية، وتوفير كل الدعم اللازم(6).
وتأثير الالتزام بالأمَانة على الفرد والمجتمع، عديدة منها:
- رضا الله سبحانه وتعالى على العبد.
- كسب محبة وثقة الآخرين له.
- الحفاظ على ترابط المجتمع
- تسود المحبة بين أفراد المجتمع.
- علو شأن ومكانة الأمة.
إما إذا ضيعت هذه القيمة؛ انتشر الغش ولحق بالمسلمين خسائر اجتماعية واقتصادية فادحة(7).
كيف يتخلق أبناؤنا بالأمَانة؟
أطفالنا هم أمانة ويجب تربيتهم على الأخلاق الحميدة ومنها خلق الأمانة والصدق، وذلك عن طريق:
- التحدث مع الطفل عن أهمية الصدق والأمانة.
- أن نشرح للطفل أهمية هذه القيمة وكيف تؤثر على التعاملات والحياة اليومية، وكذلك على ميزان الحسنات يوم القيامة.
- تعليم الطفل أن السلوك النزيه يسهم في أن يصبح رجلاً أمينًا في المستقبل.
- ولا بد من أن نجعل الطفل يشعر بالمسؤولية إذا ارتكب خطأ.
- على الوالدين أن يكونا قدوة حسنة لأولادهما(8).
تطبيقات تربوية
من المهم توظيف قيمة الأمانة وتفعيلها والاستفادة منها، في العملية التعليمية حيث تُعد هذه القيمة من أهم القيم الإسلامية التي يجب على الإدارة المدرسية الالتزام بها، ومن التطبيقات التربوية لهذه القيمة في الإدارة المدرسية ما يأتي:
- التوجيه والإرشاد نحو الخير وتدبير جميع أمور العملية التعليمية والعناية بشؤونها وتأدية جميع الحقوق بأمانة، فكل عناصر العملية التعليمية هي ضمن مسؤولية مدير المدرسة، وهو مسؤول عنهم.
- الحكم بالعدل والمساواة بين جميع الأفراد والعاملين داخل المدرسة.
- أن تحفز الإدارة المعلمين والموظفين والطلبة على الالتزام بهذه القيمة الأخلاقية.
- تنظيم عدد من المحاضرات والدروس عن الحث على الالتزام بهذه القيمة.
- الحرص على قيمة الوقت داخل المدرسة من خلال تنظيم العملية التعليمية بشكل جيد.
- الحرص على المال العام للمدرسة، بعدم صرفه في غير حاجة وأن يجري إنفاقه بصورة صحيحة عادلة.
- ولهذه القيمة أهمية عظيمة عند المدرس، باعتباره القدوة والموجّه للطلبة، فعليه الحرص على أداء واجبه بإخلاص، وإتقان العمل الذي يناط به، واستنفاد جهده في أدائه، من دون رقابة.
- وعلى المعلم أن يبلِّغ علمه ولا يحبسه، فالعلم أمانة، ومن واجب المعلم إيصاله إلى المتعلمين للاستفادة منه.
- وعليه أن يعدل بين الطلبة ويتبع خلق المساواة والإنصاف بينهم.
- وعليه تطبيق كل ما يعلمه لتلاميذه؛ لأنه قدوة.
- واحترام قيمة الوقت والحرص على استغلاله بشكل جيد ومفيد وعدم تضييعه بقصد أو من غير قصد.
- ولا بد من تجرد المعلم من الأهواء الشخصية أو المجتمعية خلال أدائه لعمله التعليمي(9).
إن خلق الأمانة يحمي أولادنا من التجاوزات السلوكية الخطرة التي تحيط بهم من كل جانب، ويُوفر لهم مناخًا آمنًا في سلوكياتهم ومعاملاتهم، وهو أساس كل الفضائل، ومن يتخلق به يعيش حياة سعيدة حيث يثق الناس به، فلا يخونه أحد ولا يشك في سلوكياته وتصرفاته أحد، ولا هو يخشى على نفسه وأهله.
المصادر والمراجع:
- طنطاوي جوهري: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، جـ3، 4، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 2016، صـ63
- أبو البقاء الكفوي: الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ت/ عدنان درويش، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1998، صـ269.
- عبدالرحمن حسن حنبكة الميداني: الأخلاق الإسلامية وأسسها، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2010، صـ88.
- قيمة الأمانة في الإسلام وتطبيقاتها: مرجع سابق.