أخذت زينة الحياة الدنيا بعقول أفراد من الأمة، فشغلتهم بشهواتِ البطن والفرج، وألهتهم عن معالي الأمور ومكارم الأخلاق، وقتلت فيهم روحَ الجهاد والجد والخشونة، وجعلتهم عبيدًا لحياة الدَّعة والرفاهية.
وحينما تطال هذه الآفة بعض المربين والدعاة يكون الداء عُضال، لأنّ الأمة تفسد بفساد علمائها ودعاتها، لذا شدد النبي- صلى الله عليه وسلم- على عدم الانشغال بالمفاتن أو الانغماس في النعم، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: “تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ” (البخاري)، ومع ذلك لم يأمر الإسلام عباده بترك مباحات الدنيا والزهد فيها.
مفهوم الترف
اختلفت نظرة كل مَن تكلم في مفهوم الترف وفق الرؤية والنظرة للحياة ومتاعها، وذلك بين إفراط وتفريط، فجاء في قاموس المحيط، أن التُّرفة هي النعمة والطعام الطيب، والشيء الظريف تخص به صاحبك، ويقول الراغب الأصفهاني: إنه التوسع في النعمة، وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه، والمترف: المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هَلَك.
وفي الاصطلاح يعني مجاوزة حد الاعتدال بالتنعم وسعة العيش، والتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها توسعًا يُلهي عن طاعة الله، ونسيان إدراك الغاية من الوجود في هذه الدنيا.
ومن ثم، فإن المترفين هم الذين أطغتهم النعمة وسعة الرزق، وتوسعوا في التنعم في الشهوات والملذات، ونسوا الحق وحاربوه وحرصوا على الزيادة في أحوالهم وعوائدهم، حتى وصلوا إلى حد الطغيان وعدم شكر النعم(1).
وقد يضع البعض الثّراء والتّرف في سلة واحدة، وهو تصور خاطئ، إذ إنّ الثّراء والتقلب في النعمة يختلف في مفهومه عن التّرف، فرغم أن الشرع الحنيف أحل للمسلم الثّراء فإنه وضع له أطر ومصادر الحصول عليه، ووضع له أبواب إنفاقه، وأثنى على المال الصالح في يدي الرجل الصالح فقال- صلى الله عليه وسلم- “يا عمرُو، نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالحِ” (البخاري).
أما التّرف فهو الحصول على المال دون تعب أو عمل، وإنفاقه فيما حرّمه الله أو الإسراف في المباحات بالشكل الذي يصير معه الإنسان عبدًا لشهواته وماله فيسعى للحصول عليه بشتى طرق الحلال والحرام، بل واستخدامه في محاربة الحق(2).
الترف في الإسلام
لم يحارب الإسلام الثراء ولم ينه أنصاره على التمتع بالمال الحلال، لكنه مقت الترف وحاربه، حتى إن كل الآيات القرآنية الورادة عنه جاءت بصيغة الذم والتحذير منه، كما بعض الأحاديث النبوية تنهي عن التّرف وتُحذر من تعلُّق القلب به.
ولقد حدد الإسلام أبواب التحريم التي قد يقع فيها العبد أثناء التعامل مع المال وهي: الإمساك والاكتناز، والتصرف فيه بسفه، والتعامل فيه بالربا، واستخدامه وسيلة لإفساد المجتمعات والأمم، والإسراف والتبذير فيه والإنفاق في غير وجهه وقصده(3).
وأورد القرآن الكريم صورًا عن هلاك الناس بسبب ترفهم، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]، وقول الحق- جل وعلا-: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45].
وحذرت السنة النبوية من هذه الآفة، فعن عمرو بن عوف المزني عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:”فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ” (البخاري).
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “كُلوا واشرَبوا وتَصدَّقوا والْبَسوا ما لم يخالِطْهُ إسرافٌ أو مَخيَلةٌ” (صحيح ابن ماجه).
ودعوة الإسلام إلى ترك هذه الآفة لا تعنى الامتناع عن التمتع بنعم الدنيا ومباهجها، ولكن هي دعوة إلى الاقتصاد في الإنفاق وعدم تعلق القلب بهذه النعم وانشغاله بها عن الآخرة، فعن أبي الأحوَصِ الجُشَميِّ- رضيَ اللهُ عنهُ- عن أبيهِ، قالَ: رآني النَّبيُّ- صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- وعليَّ أطمارٌ، فقالَ: هل لَكَ من مالٍ؟! قلتُ: نعَم، قالَ: مِن أيِّ المالِ؟ قلتُ: مِن كلٍّ قد آتانيَ اللهُ، منَ الشَّاءِ والإبلِ، قالَ: إذا آتاكَ اللهُ مالًا فليُرَ أثرُ نعمةِ اللهِ وَكَرامتِهُ عليكَ” (أحمد والطبراني)(4).
أسباب الترف ومظاهره وآثاره
لقد خلق الله العباد وحدد مهمتهم بعبادته وتعمير الأرض وإصلاحها فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}[الذاريات:56-57]، فقد تكفل الله برزق عباده، وحثهم على عمارة الأرض بالإحسان.
غير أن البعض نسي مهمته في الحياة وأعمتهم النعم عن شكر ربهم، بل حارب بعضهم شرائع الله، وتكالبت عليهم الدنيا، ومن أسباب الترف والانشغال بالدنيا:
- نسيان الإنسان حقيقة مهمته في الحياة الدنيا وجحود نعم ربه.
- عدم موازنة الإنسان بين جوانبه المختلفة، حيث يسعي لإشباع غرائزه وشهواته الجسدية على حساب تغذية روحه وقلبه بشرائع الدين الحنيف.
- طول الأمل والتسويف ونسيان الموت أو تكذيبه ما بعد الموت وإنكار الحساب والعقاب.
- حب تقليد الغير والتأثر بالواقع الذي يعيش فيه: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:22].
- ضعف التربية مع كثرة المال ووفرة النعم، حيث يسعى كثير من الآباء إلى توفير جميع السبل لأبنائهم دون تحميلهم بعض المسؤولية.
- حب النفس للشهوات والراحة والدعة: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[آل عمران:14](5).
والعلماء والمصلحون والدعاة هم طوق النجاة للأمة، والخطر كل الخطر أن تُهاجم هذه الآفة أولئك وهم صفوة الأمة وخلاصتها ووجهها المضيء ومتعلق آمالها ومَكمن قوته، ومن أبرز مظاهر التّرف على هؤلاء:
- الغفلة عن درجات الآخرة العالية، إذ يقول ابن القيم: “قال لي شيخ الإسلام، في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة، فالعارف يترك كثيرًا من المباح برزخًا بين الحلال والحرام”.
- التعلق بمباهج الحياة ونسيان الهدف منها: ذلك أن المرء إن تقلب في المباهج وذاقها تعلق بها أيما تعلق وملكت عليه حياته مثل التوسع في المأكل والمشرب مما يمنعه من خير الصيام أو العبادة، وأيضًا التوسع في النوم مما يحرمه الصلاة خاصة صلاة الليل، وغيرها من صور التوسع في حياته، كالمركب من السيارات، والمسكن الفخم، والتعالي باللبس والخيلاء.
- التباطؤ في قضاء الأمور والقعود عن إتمامها على وجهها الذي ينبغي لها؛ إذ المترف غالبًا يميل إلى التسويف في الشؤون التي يراها صعبة أو ستجر عليه شيئًا من التعب والمعاناة.
- الدعة والكسل الذي لا يجعل المرء يستطيع القيام بأعماله والإهمال فيها والدفاع عن الحق والخوف من ذي سلطان.
- حب الحياة وكُره الموت والانغماس في المباحات والوقوع في المعاصي وتحليل الحرام وتحريم الحلال وإنكار المعروف.
- ضعف الجانب الإيماني والخشوع والورع مع قسوة القلب والخوف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- ضعف الجانب التربوي وعدم الاكتراث بالدعوة إلى الله بالحسنى، أو الوقوف بجانب الحق، وضعف الارتباط بالعمل الدعوي والتربوي مع كثرة النقد والتساهل في العبادات والبحث عن الرخص.
- الحرص على المظهر الخارجي للجسد، حيث يبالغ في العناية بنعومة جسده وطراوته وترهُّل الأطراف ويستكثر من الكماليات ووسائل العناية بالنفس، والإفراط في التدهن والتطيُّب وترجيل الشعر، واستخدام أغلى العطور، وبذل الأموال الطائلة من أجل اقتنائها(6).
- والداعية المترف أقل إفادة للمدعوين من غيره، ذلك لأن انغماسه في النعيم وتحصيل أسبابه مانع له من التزود بالعلم الشرعي، ما يعني اكتفاءه بتقديم ما عنده من معلومات، فإذا انتهت بدأ بتكرارها(7).
إذا تسللت آفة الانشغال بالدنيا لدعوة ما فإنها تهلكها ويبيدها بالكلية، وهو من أسباب زوال الدعوات والأمم وأفولها، بل إنه يدفع الدعاة إلى عدم العناية والاهتمام بنشر الدعوة بين جميع فئات المجتمع، بل يؤدي إلى فتور المربين عن ممارسة الأعمال التربوية، نظرًا لمشقة ذلك على النّفس وما تتطلبه العملية التربوية من وقت وجهد وبذل.
علاج الانشغال بالدنيا
ما جعل الله داء إلا وأنزل له دواء من أجل صلاح النفس البشرية واستقامتها، لذا فإن علاج الترف والانشغال بالدنيا يكمن في:
- الإيمان الصحيح بالله الواحد ومعرفة حقيقة خلق الإنسان ومهمته في الحياة، حتى لا ينشغل بما هو له عما هو مطلوب منه.
- الرجوع إلى هدي السلف الصالح بقراءة سِيَرهم وأحوالهم، مع دراسة واعية ودائمة لسيرة سيد الأنبياء والمرسلين.
- النظر في حال أهل الترف قديمًا وحديثًا، والتأمل في أوضاعهم وما يعانيه غالبهم من غفلة، وقلة طاعة، وقسوة قلب، وكثرة هَمّ، وتشتت فكر، بالإضافة إلى الفجيعة من تقلب الأحوال.
- تربية النفس على عدم تحقيق كل ما تشتهيه حتى مع القدرة على ذلك.
- النظر إلى ملذات الحياة الدنيا على أنها وسيلة زائلة تُقرّب العبد من ربه والدار الآخرة، وتذكر بما أعده الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
- التوسط في الإنفاق على النفس والأهل مع تربية الأبناء على تحمل المسؤولية ومعرفة حقيقة وجودهم في الحياة.
- مجاهدة النفس على الإكثار من نوافل العبادات، وبخاصة الصدقات وتحسس الفقراء والتألم لحالهم وتفقدهم والنفقة لهم، مع الإنفاق في وجوه البر والخير المختلفة والحث على ذلك.
- السعي في طلب الرزق دون مغالاةٍ توصل العبد إلى التفريط في الطاعات.
- الحث على شغل الإنسان وقته بما ينفعه دينًا ودنيا، والتحذير من البطالة والفراغ، قال عمر- رضي الله عنه-: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: “اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة”.
- على المسلم عامة والدعاة خاصة الإكثار من محاسبة النفس عند سعة الرزق وانبساطه، وخشيتهم من أن يكون ذلك استدراجًا.
- معرفة أن التّرف مما لا يليق بالدعاة، وأن اللائق بهم هو إيثار العمل بدين الله والدعوة إليه والذود عنه؛ لأن ما عند الله خير وأبقى، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
- على المترف أن ينظر في حوادث الزمان ونوائب الليالي والأيام، وأنه إن كان غنيًا اليوم فقد يكون فقيرًا غدًا.
- على المربين تعويد من تحت أيديهم على الإيثار والكرم وحب البذل ودفعهم إلى المبادرة والتسابق في ذلك، وتحميلهم بعض المسئوليات وحثهم على التفكير والقيام بالموازنة بين المصالح والمفاسد والوقوف على معاناة المسلمين والعمل على إيجاد حل لها ومساعدتهم(8).
ومن هنا كان الترف في نظر الإسلام من أقوى أسباب الانْحِلال الاجتماعيِّ، وبخاصَّة إذا كثر المترفين، وأصبحوا من ذوي الجاه والسُّلطان، وقد بيَّن القرآنُ هذه السُّنة الاجتماعيَّة في قوله: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16].
المصادر والمراجع:
- الترف: موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
- محمد علي نشأت: رائد علم الاقتصاد ابن خلدون، وكالة الصحافة العربية (ناشرون) الجيزة، مصر، 2019م.
- حسان عبد الله: نظرية الترف في القرآن وعلاقتها بهلاك الأمم وفنائها (1-2).
- سعد بن عبد الله البريك: الترف، 30 يوليو 2008م.
- بشاير عبد الله العويمر: الترف وأثره في حياة الداعية، 2016.
- محمد موسى الشريف: الترف وأثره في الدعاة والصالحين، طـ1، دار الأندلس الخضراء ضمن سلسلة “معالم على طريق الصحوة” برقم (31)، 1421هـ.
- شريف عبد العزيز: أمراض على طريق الدعوة (30): الترف، 4 أكتوبر 2022م.
- فيصل البعداني: الترف .. وخطره على الدعوة والدعاة.