تروي بعض الأساطير أن الشمس والرياح تراهنتا على إجبار رجل على خلع معطفه؛ وبدأت الرياح في محاولة كسب الرهان بالعواصف والهواء الشديد، والرجل يزداد تمسكًا بمعطفه وإصرارًا على ثباته وبقاءه حتى حل اليأس بالرياح فكفت عنه؛ واليأس أحد الراحتين كما يقول أسلافنا. وجاء دور الشمس فتقدمت بطريقة أكثر عملية وبزغت وبرزت للرجل بضوئها وحرارتها فما أن شاهدها حتى خلع معطفه مختارًا راضيًا.
إن الإكراه والمضايقة توجب المقاومة وتورث النزاع، بينما الإقناع والمحاورة يبقيان على الود والألفة ويقودان للتغيير بسهولة ويسر ورضا. والقرآن والسنة وهما نبراس المسلمين ودستورهم وفيهما كل خير ونفع قد جاءا بما يعزز الإقناع ويؤكد على أثره، فآيات المحاجة والتفكر كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وكالملك الذي حاج إبراهيم عليه السلام في ربه، وكمناقشة مؤمن آل فرعون قومه، وأما الأحاديث فمن أشهرها حديث الشاب المستأذن في الزنا، وحديث الرجل الذي رزق بولد أسود، وحديث الأنصار بعد إعطاء المؤلفة قلوبهم وتركهم، كل هذه النصوص مليئة بالدروس والعبر التي تصف الإقناع وفنونه وطرائقه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وفي هذه المقالة نتحدث عن مفهوم الإقناع وقواعد الإقناع وعناصر الإقناع والعوامل المؤثرة على عملية الاقتناع والإستراتيجيات المختلفة للإقناع وعوامل نجاح مصدر الإقناع وخطوات عملية الإقناع وعوائق الإقناع وفي الختام نذكر بعض القواعد الهامة في اكتساب مهارة إقناع الآخرين.
مفهـــوم الإقـنــاع
هو عملية تحويل أو تطويع آراء الآخرين نحو رأي مستهدف.. يقوم المرسل أو المتحدث بمهمة الإقناع، أما المستهدَف أو المستقبل فهو القائم بعملية الاقتناع، وعملية الاقتناع ليست تحتاج إلى مهارة القائم بالحديث والمسئول عن الإقناع فقط ولكن أيضا إلى وجود بعض الاستعداد لدى المستهدف، أو مساعدته على خلق هذا الاستعداد لديه.
وهو استخدام المتحدث أو الكاتب للألفاظ والإشارات التي يمكن أن تؤثر في تغيير الاتجاهات والميول والسلوكيات.
تعريف آخر: عمليات فكرية وشكلية يحاول فيها أحد الطرفين التأثير على الآخر وإخضاعه لفكرة أو رأي. وهو تأثير سليم ومقبول على القناعات لتغييرها كليًا أو جزئيًا من خلال عرض الحقائق بأدلة مقبولة وواضحة.
ويظهر جليًا من التعريفات السابقة أن الإقناع فرع عن إجادة والتمكن من فنون الحوار وآدابه، وتتداخل بعض الكلمات في المعنى مع الإقناع مع وجود فوارق قد تكون دقيقة إلى درجة إخفائها عن البعض؛ ومن أمثال هذه الكلمات: الخداع، الإغراء، التفاوض. فبعضها تهييج للغرائز وبعضها تزييف للحقائق وبعضها مجرد حل وسط واتفاق دون اقتناع وهكذا.
قواعدالإقناع التي يجب أن يعيها المربي:
1- أن يكون القيام به خالصًا لله سبحانه وتعالى لا يشوبه حظ نفس.
2- الالتجاء لله بطلب العون والتوفيق ووضوح الحق.
3- وجود متطلبات الإقناع الرئيسة، وهي:
- الاقتناع بالفكرة (وضوحها في ذهن المتحدث أو المحاور).
- القدرة على إيضاحها (القوة في طرح الفكرة).
- توافر الخصال الضرورية في مصدر الإقناع .
4- معرفة شخصية المتلقي وقيمه واحتياجاته مع تحديد ترتيبها. وقد ينبغي عليك تقمص شخصيته لتتعرف على دوافعه ووجهة نظره. كما يجب معرفة حيله وألاعيبه حتى لا تقع في شراكها.
5- حصر مميزات الفكرة التي تدعو إليها مع معرفة مآخذها الحقيقية أو المتوهمة، وتحليل المعارضة السلبية المحتملة وإعداد الجواب الشافي عنها. واعلم أن أسلم طريقة للتغلب على الاعتراض أن تجعله من ضمن حديثك.
6- اختيار الأحوال المناسبة للإقناع: زمانية ومكانية ونفسية وجسدية؛ مع تحين الفرصة المناسبة لتحقيق ذلك.
7- تحليل الإقناع إلى:
- مقدمات متفق عليها؛ كالحقائق والمسلمات.
- نتائج منطقية مبنية على المقدمات.
8- الابتعاد عن الجدل والتحدي واتهام النوايا، لأن جعل الطرف الآخر متهمًا يلزمه بالدفاع وربما المكابرة والعناد.
9- إذا كنت ستطرح فكرة في محيط ما: فروج لها عند أركان ذلك المحيط قبل البدء بنشرها.
10- تعلم أن تقارن بين حالين ومسلكين لتعزيز فكرتك.
11- حدد مسبقًا متى وكيف تنهي حديثك.
12- لخص الأفكار الأساسية حتى لا تضيع في متاهة الحديث المتشعب.
13- اضبط نفسك حتى لا تستثار؛ وراقب لغة جسدك حتى لا تخونك.
14- أشعر الطرف المقابل باهتمامك من خلال:
- ربط بداية حديثك بنهاية حديثه ما أمكن.
- تعزيز جوانب الاتفاق.
- إشعاره بمحبتك وعذرك إياه.
عناصر الإقناع
1- المصدر: ويجب أن تتوافر فيه صفات منها:
- الثقة: ويحصل عليها من تاريخ المصدر إضافة إلى مدى اهتمامه بمصالح الآخرين.
- المصداقية: في الوعود والأخبار والتقييم.
- القدرة على استخدام عدة أساليب للإقناع: كلمة، مقالة، منطق، عاطفة… إلخ.
- المستوى العلمي والثقافي والمعرفي.
- الالتزام بالمبادئ والقناعات التي يريد إقناع الآخرين بها.
2- الرسالة: ولابد أن تكون:
- واضحة لا غموض فيها بحيث يستطيع جمهور المخاطبين فهمها فهمًا متماثلًا.
- بروز الهدف منها دون حاجة لعناء البحث عنه.
- مرتبة ترتيبًا منطقيًا مع التأكيد على الأدلة والبراهين.
- مناسبة العبارات والجمل حتى لا تسبب إشكالًا أو حرجًا ولكل مقام مقال.
- بعيدة عن الجدل واستعداء الآخرين؛ لأن المحاضر سيقاوم ولا ريب.
3 – المستقبِل: ينبغي مراعاة ما يلي:
- الفروق العمرية والبيئية.
- الاختلافات الثقافية والمذهبية.
- المكانة العلمية والمالية والاجتماعية.
- مستوى الثقة بالنفس.
- الانفتاح الذهني.
العوامل المؤثرة على عملية الاقتناع:
1- التعرض الاختياري للإقناع:
- تتطلب عملية الإقناع أن يكون تعرض الفرد للرسالة اختياريا دون ممارسة ضغوط عليه.
- إن ممارسة الضغوط بهدف الإقناع تؤدي إلى استثارة عوامل الرفض الداخلي لمضمون الرسالة، مما يصعب مهمة القائم بالإقناع.
- ولهذا يجب على للقائم بالإقناع أن يركز على مساعدته على التهيئة الذاتية للاقتناع.
2- تأثير الجماعة التي ينتمي إليها الفرد:
- تقوم الجماعة الأساسية التي ينتمي إليها المستهدفون أو حتى التي يرغبون في الانضمام إليها بدور قوى في التأثير على عملية الإقناع لديهم.
- يمكن للقائم بالإقناع استخدام هذا الدور في التأثير على المتلقي عن طريق ضرب الأمثلة الملائمة، واستغلال اقتناع أحد أفراد الجماعة في توجيه رأي الفئة المستهدفة بالرسالة.
3- تأثير قيادات الرأي:
قيادات الرأي هم الأفراد ذوو التأثير الذين يساعدون الآخرين ويقدمون لهم النصيحة، و يتأثر بهم الأفراد أحيانا أكثر من تأثرهم بوسائل الاتصال أو الإعلام، ولقادة الرأي دور هام في تغيير اتجاهات الأفراد، ويمكن للقائم بالإقناع أيضا استخدام هذا الدور في التأثير على المتلقي.
الإستراتيجيات المختلفة للإقناع:
1- الاعتماد على العاطفة أو المنطق في الاستمالة.
2- الاعتماد على درجة من التخويف لتحقيق الاستمالة.
3- البدء بالاحتياجات والاتجاهات الموجودة لدى المتلقي.
4- عرض وتحليل الآراء المتباينة للموضوع.
5- ربط المضمون بالمصدر أو المرجع.
6- درجة الوضوح و الغموض في الرسالة.
7- الترتيب المنطقي لأفكار الرسالة.
8- التأثير المتراكم و التكرار.
عوامل نجاح مصدر الإقناع:
يعتمد نجاح الإقناع على:
1- القدرة على نقل المبادئ والعلوم والأفكار بإتقان.
2- معرفة أحوال المخاطبين وقيمهم وترتيبها.
3- الجاذبية الشخصية بأركانها الثلاثة: حسن الخلق، أناقة المظهر، الثقافة الواسعة.
4- التفاعل الإيجابي الصادق مع الطرف الآخر.
5- التمكن من مهارات الإقناع وآلياته من خلال امتلاك مهارات الاتصال وإجادة فنون الحوار مع الالتزام بآدابه.
6- التوكل على الله ودعائه مع حسن الظن به سبحانه.
خطوات عملية الإقناع:
• قبل الإقناع:
1- الإعداد الكامل؛ فالأنصاف إتلاف للجهد ومضيعة للأوقات.
2- البدء بالأهم أولًا خشية طغيان ما لا يهم على المهم.
3- اختيار التوقيت المناسب لك وللطرف الآخر.
• في أثناء الإقناع:
1- توضيح الفكرة بالقدر الذي يزيل اللبس عنها.
2- المنطقية والتدرج.
3- العناية بحاجات الطرف الآخر.
4- تفعيل أثر المشاعر.
• بعد الإقناع:
1- دحض الشبهات والرد على الاعتراضات.
2- التأكد من درجة الاقتناع من خلال إخبار الطرف الآخر أو مشاركته في الجواب عن الاعتراضات أو حماسته للعمل المبني على اقتناعه.
3- التفعيل السلوكي المباشر.
عوائق الإقناع:
1- الاستبداد والتسلط: لأن موافقة الطرف الآخر شكلية تزول بزوال الاستبداد.
2- طبيعة الشخص المقابل: فيصعب إقناع المعتد برأيه وتتعاظم الصعوبة إذا كان المعتد بنفسه جاهلًا جهلًا مركبًا.
3- كثرة الأفكار: مما يربك الذهن.
4- تذبذب مستوى القناعة أو ضعف أداء الرسالة من قبل المصدر.
5- الاعتقاد الخاطئ بصعوبة التغيير أو استحالته: وهذه نتيجة مبكرة تقضي على كل جهد قبل تمامه.
6- اختفاء ثقافة الإشادة بحق من قبل المصدر تجاه المستقبل.
وقفات مهمة:
1- “ما كان الرفق في شيء إلا زانه”.
2- الصدق في الحديث خلة حميدة يكافئ عليها الصادق حتى لو كان في حديثه ما لا ينبغي؛ فلا تعارض بين تصحيح الخطأ ومكافأة الصادق.
3- سوف تمتلك مهارة الإقناع بدراية وتمكن من خلال متانة المعرفة وسلامة الممارسة؛ وإذا وجدت الموهبة فخير على خير وإلا فالمقدرة وحدها تفي بالغرض.
قواعد هامة في مهارة إقناع الآخرين:
أولًا: لابد أن تكون مقتنعا جدا من الفكرة التي تسعى لنشرها، لأن أي مستوى من التذبذب سيكون كفيلا أن يحول بينك وبين إيصال الفكرة للغير.
ثانيًا: استخدم الكلمات ذات المعاني المحصورة والمحددة مثل: بما أن، إذن، وحينما يكون.. الخ، فهذه الألفاظ فيها شيء من حصر المعنى وتحديد الفكرة، ولتحذر كل الحذر من التعميمات البراقة التي لا تفهم أو ذات معانٍ واسعة.
ثالثًا: ترك الجدل العقيم الذي يقود إلى الخصام، يقول أحدهم: (إذا أردت أن تكون موطأ الأكناف ودودا تألف وتؤلف لطيف المدخل إلى النفوس؛ فلا تقحم نفسك في الجدل وإلا فأنت الخاسر، فإنك إن أقمت الحجة وكسبت الجولة وأفحمت الطرف الآخر فإنه لن يكون سعيدا بذلك وسيسرها في نفسه وبذلك تخسر صديقا أو تخسر اكتساب صديق، أيضا سوف يتجنبك الآخرون خشية نفس النتيجة.. ).
رابعًا: حلل حوارك إلى عنصرين أساسيين هما:-
- المقدمات المنطقية: وهي تلك البيانات أو الحقائق أو الأسباب التي تستند إليها النتيجة وتفضي إليها.
- النتيجة: وهي ما يرمي الوصول إليها المحاور أو المجادل، مثال على ذلك: المواطنون الذين ساهموا بأموالهم في تأسيس الجمعية هم الذين لهم حق الإدلاء بأصواتهم فقط، وأنت لم تساهم في الجمعية ولذلك لا يمكنك أن تدلي بصوتك.
خامسًا: اختيار العبارة اللينة الهينة، والابتعاد عن الشدة والإرهاب والضغوط وفرض الرأي.
سادسًا: احرص على ربط بداية حديثك بنهاية حديث المتلقي لأن هذا سيشعره بأهمية كلامه لديك وأنك تحترمه وتهتم بكلامه، ثم بعد ذلك قدم له الحقائق والأرقام التي تشعره كذلك بقوة معلوماتك وأهميتها وواقعية حديثك ومصداقيته.
سابعًا: أظهر فرحك الحقيقي – غير المصطنع – بكل حق يظهر على لسان الطرف الآخر، وأظهر له بحثك عن الحقيقة لأن ردك لحقائق ظاهرة ناصعة يشعر الطرف الآخر أنك تبحث عن الجدل والانتصار لنفسك.
وأخيرا: فإن الإقناع كما هو الحوار لغة الأقوياء وطريقة الأسوياء؛ وما التزمه إنسان أو منهج إلا كان الاحترام والتقدير نصيبه من قبل الأطراف الأخرى بغض النظر عن قبوله.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.