حفظ السر خُلقٌ عظيمٌ يجب على المربي أن يتخلّق به لينجح في عمله وهو صناعة أجيال تقود الأمة إلى مستقبل أفضل. وكتمان الأسرار يؤمِّن السالك من أخطار الطريق، ويريح الضمير، ويحمي الإنسان من الوقوع في الحرج، والدخول في شحناء مع الأحبة، كما يحمي الأسر من الخراب، ويشيع الأمن، ولا يُمكّن العدو.
ولا شك أن إفشاء السر خيانة ومُدعاة إلى إفساد ذات البَيْن، وقطع الأواصر والصلات، ومن تأمل الأضرار التي تقع بسبب هتك الأسرار علم مدى حرمة إفشاء السّر وآثاره.
حفظ السر في الإسلام
وقد وَرَدَت شواهد كثيرة في القرآن والسُّنة تؤكد أهمية حفظ السر وكتمانه واتخاذ الأسباب للحفاظ عليه، ففي القرآن الكريم يقول- سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71].
وقال- عز وجل-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102].
وكتمان السر هو حفظ للأمانة، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: “إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة” (أبو داود والترمذي)، وقيل “إنما يتجالس المتجالسون بالأمانة فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره”.
وعلى كل مسلم- وهو في حق المربي أوجب- أن يحفظ لسانه ولا يغفل عنه، وليتذكر قول النبي- صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: “وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم” (الترمذي).
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رجلا سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- ما النجاة؟ قال: “أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك” (البخاري ومسلم)، وقال النّبي- صلى الله عليه وسلم-: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”، (الطبراني والعقيلي وابن عدي).
وعلى من أُودع سرًا أن يحافظ عليه ولا يفشيه أبدًا، وإلا أصبح خائنًا، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا اؤتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “أربع من كُنَّ فيه كانَ مُنَافقًا خًالصًا، ومَن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا: إذَا اؤتُمنَ خَانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَب، وإذَا عَاهَدَ غَدَر، وإذَا خَاصَمَ فجر” (البخاري) .
فوائد حفظ السر
ولا شك أنّ حفظ السر له فوائد عديدة، نذكر منها:
- أنه يدل على فضل صاحبه وكرم أخلاقه، فكما لا خير في آنية لا تمسك ما فيها، كذلك لا خير في الإنسان إذا لم يملك سره وقيل: “صدور الأحرار قبور الأسرار”.
- الاستعانة على حصول المقاصد، ففي الحديث: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود” الطبراني وابن عدي والعقيلي.
- وللكتمان أثر في تحقيق السلامة والاطمئنان والاستقرار: كما في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
- وله أثر كبير في تحقيق النصر في أي معركة أو إنجاز الأعمال التي تتطلب ذلك: فقد خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في السنة الخامسة من الهجرة من المدينة المنورة ومعه عدد من المسلمين يكمن بهم نهارًا ويسير ليلًا حتى وصل إلى دومة الجندل، وأعانهم الكتمان على مباغتة القبائل والنصر عليهم- رغم الفارق بين عدد المسلمين القليل وعدد عدوهم الكثير.
- ومن فوائده، توثيق الصلة بين الطلاب، فإذا وجد الطالب أن أسراره مصانة بين زملائه وأن أحدهم لو اطلع على سره ستره إن كان هناك عيبًا، فهذا أدعى إلى شدة الالتحام وتوثيق الصلة وزيادة الثقة بين أفراد الصف.
أضرار إفشاء الأسرار
وعلى النقيض، فإن لإفشاء الأسرار وعدم حفظها مضار عديدة، منها:
- خيانة للأمانة، وقد نزلت الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، في أبي لبابة حين أفشى سر رسول الله إلى بني قريظة.
- وإفشاء سر المتربين يُؤدّي إلى ضياع الثقة بينهم ويتعارض مع دواعي الأخوة.
- إذا تعود المربي على عدم كتمان الأسرار وحفظ لسانه، فقد يُؤدّي إلى أضرار كثيرة عند وقوعه في أيدي الأعداء.
- إفشاء السر يعود بالضرر على من زل به لسانه، فلما أفشى يوسف- عليه السلام- سرّه في رؤياه بمشهد امرأة أبيه أخبرت إخوته فحل به ما حل.
نماذج عن كتمان السر
وهناك نماذج عديدة عن حفظ السر وكتمانه، نذكر منها ما يلي:
عن أنس- رضي الله عنه- قال: “أتانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن صبيان فسلم علينا وأرسلني في حاجة وجلس في الطريق ينتظرني حتى رجعت إليه، قال: فأبطأت على أم سليم، قالت ما حبسك؟ فقلت بعثني النبي في حاجة. قال: ما هي؟ قلت: إنها سر، قالت: فاحفظ سر رسول الله” (البخاري).
وهو ما تعلمه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بنْتُ عُمَرَ مِن خُنَيْسِ بنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ -وكانَ مِن أصْحَابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَ بالمَدِينَةِ- قالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عليه حَفْصَةَ، فَقُلتُ: إنْ شِئْتَ أنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بنْتَ عُمَرَ، قالَ: سَأَنْظُرُ في أمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَقالَ: قدْ بَدَا لي أنْ لا أتَزَوَّجَ يَومِي هذا.
قالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أبَا بَكْرٍ، فَقُلتُ: إنْ شِئْتَ أنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أبو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيَّ شيئًا، فَكُنْتُ عليه أوْجَدَ مِنِّي علَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأنْكَحْتُهَا إيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أبو بَكْرٍ فَقالَ: لَعَلَّكَ وجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أرْجِعْ إلَيْكَ؟ قُلتُ: نَعَمْ، قالَ: فإنَّه لَمْ يَمْنَعْنِي أنْ أرْجِعَ إلَيْكَ فِيما عَرَضْتَ، إلَّا أنِّي قدْ عَلِمْتُ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولو تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا” (البخاري). وفي رواية أحمد “وكان سرًا فكرهت أن أفشي السر”.
وكان للكتمان أثر كبير في مباغتة النَّبي- صلى الله عليه وسلم- للعدو: “فبعد شهرين من غزوة أحد بلغ النَّبي- صلى الله عليه وسلم- أن طليحة وسلمة ابني خويلد يحرضان قومهما بني أسد بن خزيمة، لغزو المدينة المنورة ونهب أموال المسلمين فيها، وقرر النَّبي صلى الله عليه وسلم إرسال جيش من المسلمين، وأمرهم بالسير ليلًا والاستخفاء نهارًا، وسلوك طريق غير مطروقة حتى لا يطلع أحد على أخبارهم ونياتهم، فباغتوا بذلك بني أسد في وقت لا يتوقعونه”.
وفي غزوة دومة الجندل، قاد النَّبي- صلى الله عليه وسلم- ألف راكب وراجل، من المهاجرين والأنصار، لمنع القبائل التي تقطن دومة الجندل من قطع الطرق ونهب القوافل، والقضاء على حشودها التي تزمع غزو المدينة المنورة.
وخرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين من المدينة المنورة يكمن بهم نهارًا ويسير ليلًا، وقد قطع المسلمون المسافة بين المدينة المنورة و(دومة الجندل) فلم يجد المسلمون أحدًا منهم، وعاد المسلمون من دومة الجندل بعد أن أقاموا فيها بضعة أيام. إن كتمان نيات المسلمين بالمسير ليلًا هو الذي جعلهم ينتصرون على أعدائهم.
وعن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت عليًّا- رضي الله عنه-، يقول: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنا والزبير، والمقداد بن الأسود، قال: “انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجنَّ الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها (بكسر العين أي شعرها المضفور، وهو جمع عقيص)، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل عليَّ إني كنت امرأً ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة، يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لقد صدقكم. قال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: إنَّه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطَّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” (البخاري).
وعن عائشة قالت: “كنَّ أزواج النَّبي- صلى الله عليه وسلم- عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فلما رآها رحَّب بها فقال: مرحبًا بابنتي. ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم سارها فبكت بكاء شديدًا، فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت.
فقلت لها: خصَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها، ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّه. قالت: فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت عزمت عليك بما لي عليك من الحقِّ لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني: أن جبريل كان يعارضه القرآن في كلِّ سنة مرة أو مرتين، وإنَّه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، فقال: يا فاطمة، أما ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت” (البخاري ومسلم).
هكذا يجب على المُربين كتمان أسرار المُتربين حتى يكسبوا احترامهم وودهم وتبقى الثقة قوية بينهم، وهو ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يرسخه في نفوس الصحابة الكرام في العديد من المواقف.
المصادر والمراجع:
- الدكتور بدر عبد الحميد هميسه: من خلق المسلم: حفظ السر.
- محمود شيت: الرسول القائد، ص 203.
- محمد صالح المنجد: كتمان السر.
- الكلم الطيب: فوائد حفظ السر ومضار إفشائه.
- طريق الإسلام: كتمان السر.