جعل الله تعالى البيوت سكنًا للناس، يأنسون داخلها ويأمنون فيها على عوراتهم، ويضعون عنهم فيها أثقال الحياة وتكاليفها، ولكن تلك البيوت لا تكون سكنًا إلا إذا كانت حَرمًا، ومعنى أنها حرم ألا يدخلها أحد إلا بإذن أصحابها، في الوقت الذي يُريدون، وعلى الحالة التي يُحبّون.
وقد اهتم القرآن الكريم بهذا السلوك، وأكد على الاستئذان، الذي تكمن الحكمة من تشريعه في حفظ الأعراض كيلا تُهتك، وصيانة الحقوق والحرمات كيلا تُستباح.
حرمة البيوت في القرآن والسنة
شدد الإسلام على حرمة البيوت وعدم دخولها دون استئذان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:28]، فالاستئذان واجب على كل بالغ يريد الدخول إلى البيت، سواء كان فيه أمه أو أخته أو ابنته.
وشرّع الإسلام أخلاقًا وآدابًا اجتماعية حضارية تخص دخول البيوت والمكوث فيها لما في ذلك من منع للتهمة والخلطة والخلوة وما يمكن أن يجلب العداوات أو يجلب المعاصي والآثام، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58].
وجاء في حديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، قال: “منِ اطَّلعَ على قومٍ بغيرِ إذنِهم فرمَوهُ فأصابوا عينَهُ فلا دِيَةَ لهُ ولا قِصاصَ” (البخاري).
ومن جميل شرع الله أن منع التّطفل على الناس في موائدهم، ومَن تطفل على الناس كان لهم أن يقبلوه أو يزجروه، يقول- صلى الله عليه وسلم-: “أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ له أبو شُعَيْبٍ، كانَ له غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ له أبو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أدْعُو النبيَّ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- خَامِسَ خَمْسَةٍ، وأَبْصَرَ في وجْهِ النبيِّ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- الجُوعَ، فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النبيُّ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: إنَّ هذا قَدِ اتَّبَعَنَا، أتَأْذَنُ له؟، قَالَ: نَعَمْ” (البخاري).
ويقول الإمام القرطبي رحمه اﷲ: “مد الله- سبحانه وتعالى- التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس”.
نظرة واقعية عن حرمة البيوت
غير أن الواقع يكشف عن أن حرمة البيوت منتهكة من أناس ابتعدوا عن تعاليم ربّهم وساروا خلف الأفكار الوافدة لهم من دول الغرب، فحطموا سوار هذا الأدب الكريم الذي غلّظه الله وشدد عليه في كتابه الكريم.
لقد أصبح بعض الرجال يدخلون بيوت أصحابهم دون إذن، وأصبحت بعض الزوجات تستقبل رجالًا غرباء في بيوتهن دون وجود الأزواج، فانتشرت الجرائم الأخلاقية وفسدت القلوب والنفوس وانتهكت الحرمات وتكشّفت العورات، ما عرّض المجتمع الإسلامي إلى خلل كبير وفتن عظيمة يراها الجميع من جراء الاستهانة في الحفاظ على البيوت أو عدم التحلي بخلق الاستئذان.
والمقصود بالاستئذان طلب الإذن بالدخول، خوفًا من الاطلاع على عورات المسلمين، أو وقوع النظر على ما لا يرغبه صاحب البيت، ويقرر النبي- صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: “إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أجْلِ البَصَرِ” (البخاري).
الاستئذان قبل دخول البيوت
ولم يُشرّع الإسلام أي أمر من أمور حياتنا إلا لحكمةٍ بالغة وهدف نبيل تتحقق من خلاله المصلحة العامة أولًا ثم المصلحة الخاصة، ومن هذه الأمور التي أوجبها الإسلام المحافظة على حرمة البيوت والاستئذان قبل دخول المنازل.
فإن للبيوت حُرمات وعدم مُراعاتها يُؤدّي إلى كشف العورات والاطلاع على أمور لا يفعلها الإنسان إلا في منزله، كما يؤدي إلى التسبب في إرباك أصحاب المنزل الذين ربما يكونون غير مُهيّئين لاستقبال أحد، لذا أوصى الإسلام الرجل قبل أن يعود من السفر أن يُرسل إلى أهل بيته حتى يتهيّئوا.
ويُؤدّي عدم الاستئذان إلى الاطلاع على ما لا يحل للناس الاطلاع عليه، وهو ما قد يؤدي إلى حرج ونفور وشقاق وكراهية وعدم استحباب زيارة الناس مرة أخرى.
والاستئذان يكون قبل الدخول إلى منازل الغرباء والأقارب والجيران، وقبل الدخول على مدير العمل أو ولي الأمر، وكذلك قبل استخدام الأدوات التي تخص الغير، مثل أدوات الأصدقاء بالمدرسة أو العمل أو حتى أدوات الإخوة، وقبل الدخول إلى غُرَف الإخوة والوالدين والأجداد.
آداب الاستئذان
وحفل القرآن الكريم والسنة النبوية بكم كبير من التوجيهات والإرشادات لتعظيم حرمة البيوت والاستئذان قبل الدخول، ومنها:
- تقديم السلام على الاستئذان لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:27].
- الوقوف بمحاذاة الباب وعدم استقباله، فعن عبد الله بن بسر- رضي الله عنهما- قال: “كان رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- إذا أتى بابَ قومٍ؛ لمْ يستقبلِ البابَ منْ تلقاءَ وجهِهِ، ولكن منْ ركنهِ الأيمنِ، أو الأيسرِ، فيقول: “السلامُ عليكمْ، السلامُ عليكمْ” (رواه أبو داود).
- تعريف المستأذن بنفسه، وأن يكون هذا التعريف بصيغةٍ واضحة الدلالة وليس بكلمةٍ غامضة.
- الاستئذان ثلاثًا، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: “الاستئذان ثلاث: بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردون”.
- عدم طرق الباب بعنف
- الرجوع في حال عدم الإذن بالدخول، قال تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ} [النور:28].
- الاستئذان عند الخروج لقوله- صلى الله عليه وسلم- :”إذا زارَ أحدُكُمْ أخاهُ فجَلَسَ عِندَهُ، فَلَا يَقُومَنَّ حتى يَسْتَأْذِنَهُ” (صحيح الجامع).
- الاستئذان على أهل البيت، ولعل من جمال شريعتنا اهتمامها بالتفاصيل التي قد يلتبس الأمر فيها على المسلم فجاء من الأدب أن يستأذن الرجل على أهل بيته، أمه أو أخته ومن في حكمهما، فقد جاء رجل إلى عبد الله فقال: “أأستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تحب أن تراها”، ومن هذا الباب- أيضًا- يأتي استئذان الزوج على زوجته خشية أن يرى ما لا يُحبّه، أو يراها في وضعٍ هي لا تحبه.
- ويشمل الأمر بالاستئذان النساء كما يشمل الرجال، لأنه شُرِعَ لئلا يطلع أحد على أحد، وعدم النظر إلى ما لا يحل له أن ينظر إليه.
- تعليم الأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف أن يستأنسوا في أوقات ثلاثة: وقت الفجر، وهو وقت النوم أو التهيؤ لصلاة الفجر، ووقت الظهيرة، وهو وقت القيلولة والراحة والتخفف من الثياب، ووقت العشاء، وهو وقت الخلود الى النوم، وكلها أوقات فيها مظنة التكشف، ومحبة الخلوة.
- وينبغي للمرأة أن تتعفف في ثيابها، وتلتزم الحشمة والكمال والأدب في مظهرها في منزلها، أمام أولادها وإخوتها ومحارمها.
أثر الاستئذان على المجتمع المسلم
والاستئذان له آثار طيبة على المجتمع المسلم، ومن ذلك:
- انتشار الطمأنينة من عدم انتهاك أي شخص آخر حرمة البيوت والدخول دون استئذان.
- الاستئذان والحصول على موعد سابق لزيارة أي شخص تجعله قادرًا على الاستعداد جيدًا لاستقبال أي زائر دون كشف لعورات أهله ومنزله.
- يُساعد على نقل ثقافة الاستئذان إلى النشء الصغير، وبالتالي يعوّدهم على الالتزام بالحصول على الإذن قبل دخول منازل الغرباء أو الجيران أو الأقارب، والإذن قبل استخدام أغراض الآخرين، والإذن- أيضًا- قبل دخول حجرات الآخرين.
- صيانة حرمة المنازل: حيث إن الاستئذان وعلى وجه الخصوص قبل الدخول إلى البيوت يُساعد في الحفاظ على حرمتها، ويرفع عن الأهل الحرج ويُساعد على حفظ العورة.
مواقف تربوية
وحرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على تعويد أصحابه- رضي الله عنهم- الاستئذان، سيّما مع حديثي العهد بالإسلام، فقد جاء في سنن الترمذي أن صفوان بن أمية ذهب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد إسلامه بشيءٍ من الطعام، فدخل عليه، ولم يسلّم ولم يستأذن، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: (ارجع، فقل: السلام عليكم، أأدخل؟).
وفي سنن أبي داود أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لخادمه: “اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان، فقل له: قل السلام عليكم، أأدخل؟)، فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟، فأذن له النبي- صلى الله عليه وسلم- فدخل.
ومن المؤكد في السنة النبوية أن يستأذن المسلم ثلاث مرات على الناس إذا أراد أن يدخل عليهم، فإن رفضوا دخوله أو لم يتلقّ ردًّا على استئذانه، فإن عليه أن يرجع؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي الله عنه-، قَالَ: “كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى- رضي الله عنه- كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ- رضي الله عنه- ثَلاَثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ”.
المصادر والمراجع:
- عماد أدلبي: الدخول إلى البيوت دون استئذان.
- بدر هادي: المشكلات التي يمكن أن تظهر نتيجة عدم استئذان العاملين في المنازل للدخول على أصحابها.
- ليلى جبريل: موضوع عن آداب الاستئذان.
- إسلام كمال سعيد سليمان: الاستئذان في القرآن والسنة (دراسة موضوعية)، جامعة النجاح الوطنية، كلية الدراسات العليا، نابلس، رسالة ماجستير، 2015، صـ 27- 31.
- الخصوصية وأدب الاستئذان.
- فائق عمر سرسك: الموسوعة الميسرة في الاحكام والاداب، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، 2018.
- محمد خير فاطمة: آداب الإستئذان.
- أنواع الاستئذان وفوائده.