تبدأ التربية الاجتماعية للأبناء بعد الوصول إلى عُمر التمييز، لمعرفة الصواب من الخطأ، والحسن من السّيئ، والهدف الأول من هذه التربية الابتعاد عن الوحدة والانطواء، وغرس قيمة التفاعل الإيجابي مع الآخرين بالتعرف إلى مَن حولهم، مِن الأقارب والجيران والناس جميعا.
ولا يقتصر دور هذه التربية على معرفة الناس فحسب، بل تهتم باكتساب المرء إنسانيته وصفات مجتمعه، فيتعلّم اللغة وأنماط السلوك والتقاليد والقيم والعادات السائدة، ويتعايش مع الآخرين، فيتحول إلى كائن اجتماعي، لذا فقد وضع الإسلام منهجًا يجب على الأسرة ودور التربية التمسك به لتنشئة الصغار بعيدًا عن التفكك الاجتماعي.
مفهوم التربية الاجتماعية
وتُعرف التربية الاجتماعية بأنها عملية تعلُّم وتعليم وتربية تقوم على التفاعل الاجتماعي، وتهدف إلى إكساب الفرد سلوكًا وقِيمًا واتجاهات مناسبةً لأدوار اجتماعية معينة، تُمكنه من مسايرة الجماعة والتوافق معها، وتُكسبه الطابع الاجتماعي والثقافي، وتيسِّر له سُبل التكيف والاندماج في إطار الحياة الاجتماعية.
وهي- أيضًا- عملية نمو يتحول الفرد خلالها من طفل متركز حول ذاته ومعتمد على غيره ويستهدف فقط إثبات حاجاته الفسيولوجية إلى فرد ناضج يدرك معنى المسئولية الاجتماعية وكيف يتحملها ويستطيع أن يضبط انفعالاته ويتحكم في إشباع حاجاته بما يتفق مع المعايير الاجتماعية.
التربية الاجتماعية في الكتاب والسنة
ونظرًا لأهمية التربية الاجتماعية بالنسبة للإنسان، فقد اهتم بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. قال الله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد: 22]، ويقول الطبري عن “قطع الأرحام” التي جاءت في الآية: “أي تعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام، وألَّف به بين قلوبكم”.
ومن يتأمل القرآن الكريم يجد أنه اهتم بالجماعة وأمر بالألفة والمحبة رعاية لها فهو كتاب جامع ألف بين الأعراق والأجناس المختلفة رغم تباعد أماكنها واختلاف ثقافاتها ونهى عن كل ما يضعفها، لذا قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]. قال ابن كثير: “أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقال أيضاً: ولا تتفرّقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله- صلى الله عليه وسلم- والانتهاء إلى أمره”.
ويُفهم من آيات القرآن أنّ كون الإنسان اجتماعيًّا إنما هو أمر متأصل في أصل خلقته. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، وقال في الميزان في ذيل الآية المذكورة: “فالمراد: وجعلناكم شعوباً وقبائل مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض، بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضًا ويتم أمر اجتماعكم”.
وقال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) (البقرة/ 213)، وتؤكد هذه الآية على وحدة الانتماء الإنساني وأنّ فلسفة بعثة الأنبياء إنما هي من أجل رفع الخلاف الناشئ من الهوى والطغيان.
وكوّن النبي- صلى الله عليه وسلم- مجتمعًا فاضلًا، حينما رباه على هذه المعاني، فعن عبد الله بن عمرو-، أنَّ رجلًا سأل رسولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ قال: “تطعم الطعامَ، وتقرأ السلامَ، على من عرفتَ ومن لم تعرف” (مسلم).
وقال عبد الله بن سلم، إنه “لمَّا قدمَ النَّبيُّ- صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- المدينةَ، انجَفلَ (اتّجه) النَّاسُ قبلَهُ، وقيلَ: قد قدمَ رسولُ اللَّهِ- صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ-، قد قدمَ رسولُ اللَّهِ، قد قدمَ رسولُ اللَّهِ ثلاثًا، فَجِئْتُ في النَّاسِ، لأنظرَ، فلمَّا تبيَّنتُ وجهَهُ، عرفتُ أنَّ وجهَهُ ليسَ بوَجهِ كذَّابٍ، فَكانَ أوَّلُ شيءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أن قالَ: يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ” (صحيح ابن ماجه).
وحتى يقوّي الروابط الاجتماعية بين المسلمين، قال- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أنس بن مالك- رضي الله عنه-: “لاَ تقاطعوا ولاَ تدابروا ولاَ تباغضوا ولاَ تحاسدوا وَكونوا عبادَ اللَّهِ إخوانًا ولاَ يحلُّ لمسلمٍ أن يَهجرَ أخاهُ فوقَ ثلاثٍ” (الترمذي). هذه الأحاديث وغيرها الكثير حرص من خلالها النبي الكريم على توثيق عرى المودة بين المسلمين وتصفية قلوبهم وتربيتهم اجتماعيًا.
وسائل عملية لتنشئة الأطفال اجتماعيا
وتتحقق التربية الاجتماعية للأبناء من خلال وسائل لا بد أن ينتبه إليه الآباء والمربون في كل وقت، ومنها:
- التعريف بالغير: فعلى أولياء الأمور والمربين تعرف الطفل بمَن حوله، فيتعرف الطفل على أعمامه وعماته وأخواله وخالاته، ليعلم معنى صلة الأرحام التي هي من أسس ديننا الحنيف، وفى الوقت نفسه نذكره بالوعيد الشديد لمن قطع رحمه، وأن ذلك من الفساد في الأرض، لقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
وكذلك يتعرف على الجيران ويحفظ أسماءهم، ويعاملهم باحترام، ويدرك أن لهم حقوقًا أوصى بها الله تعالى وأكدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويدربه من يربيه على أن يسلم على من يلاقيه منهم باسمه، يحترمه إذا رآه، ويلقى عليه السلام.
- اصطحاب الطفل إلى المسجد: وهذا له دور مهم في بناء الطفل اجتماعيًّا، وقبل اصطحابه إلى المسجد لا بد من أن يُعطى درسًا وافيًا في أهمية المكان الذي هو ذاهب إليه، وأن له قدسية تختلف عن أي مكان غيره، وأنه لا يدخله أحد من المسلمين إلا على طهارة، يلتزم فيه المسلم السكينة والهدوء والوقار.
- مجالسة العقلاء من الكبار: وهذا يغرس في الطفل آدابًا لا حصر لها، ويعلمه الحكمة في القول والعمل، وفى المقابل ينبغي إبعاده عن مجالس الأشرار من الكبار التي بها لهو ولعب، ولنا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى والقدوة الحسنة، فقد كان يحضر مجلسه بعض الأطفال.
روى البخاري في عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص- رضي الله عنها- قالت: “أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع أبي، وعليَّ قميص أصفر. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “سَنَهْ سَنَهْ” (أي حسن حسن)، قالت: فذهبتُ ألعب بخاتم النبوة فَنهاني أبي، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “دعها”، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “أبْلِي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي”، وفيه ملاطفة للبنت الصغيرة كأنه يقول لها، أمد الله في عمرك لتلبسي غيره وغيره من الثياب.
- الجلوس مع الطفل على مائدة الطعام: وهو ميدان اجتماعي يعلم الطفل آداب الطعام، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عمرو بن سلمة- رضي الله عنه- قال: كنت غلاما في حجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يا غلام، سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك”، فما زالت تلك طعمتي بعد.
- ممازحة الطفل: وهذا ميدان آخر لبناء الجانب الاجتماعي لدى الطفل. روى البخاري ومسلم في واللفظ للبخاري عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَال: “كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمًا وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: “يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ”؟ نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ (أي: عصفور صغير كان يلعب به عمير) فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا”.
- إرسال الطفل لقضاء الحاجات: وهذه وسيلة لبناء الجانب الاجتماعي عند الصغير، إذ يتعود من خلالها على مخالطة الناس باختلاف طبائعهم ويتعرف إلى أمارات الخير والشر فيهم، ويكون هذا الأمر بالتدريج شيئًا فشيئًا.
ولا بأس باصطحابه إلى السوق عند البيع أو الشراء، وأن يُعطى بعض المال اليسير ليشتري به وليتصرّف فيه، وأن يراقب المربى تصرفه، ويوجهه حتى لا يتعود على الإنفاق فيما لا يجدي نفعًا. روى أبو يعلى والطبراني عن عمرو بن حريث- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مر بعبد الله بن جعفر وهو يبيع بيع الصبيان، فقال: “اللهم بارك له في بيعه”.
- اختيار الأصدقاء: ولأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش طيلة حياته بمعزلٍ عن الناس، فليترك الوالد أبناءه يختارون رفقتهم لكن يراقبهم ويوجههم حتى لا ينجرفوا مع أصدقاء السوء في أقوالهم وأفعالهم، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمر على الصبيان فيسلم عليهم ويشاركهم لعبهم، يؤنسهم ولا يطردهم، لا يُعنفهم ولا يزجُرهم.
- زيارة الطفل المريض: ومن البناء الاجتماعي للصغير زيارته إذا مرض، فذلك يؤثر في نفسه تأثيرًا إيجابيًا بالغًا، وبخاصة إذا كانت هذه الزيارة من مُعلّم له أو مُربّ، روى البخاري في عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أَنَّ غُلَامًا مِنَ اليَهُودِ كَانَ يَخدُمُ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ: “أَسلِم”، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ لَه: أَطِع أَبَا القَاسِمِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَأَسلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: “الحَمدُ لِلَّهِ الذِي أَنقَذَهُ مِنَ النَّارِ”. وفي الحديث معنى الرحمة بالصغير، وزيارته إذا مرض حتى ولو كان غير مسلم.
إن التربية الاجتماعية عملية تعلم طرق وأساليب الحياة في المجتمع، وإدراك للأدوار الاجتماعية وتنفيذها، وتوجيه سلوك الفرد وإعداده لتحقيق التعامل الإيجابي في المواقف الاجتماعية، وتحويل لاهتمامات الفرد الشخصية إلى الاهتمام بالمشاركة الاجتماعية في وعي وفاعلية بحدود المسؤوليات والواجبات.
المصادر والمراجع:
- بلقيس إسماعيل داغستاني، رسالة علمية منشورة بعنوان “التربية الدينية والاجتماعية للأطفال، رسالة علمية منشورة”، ص 97.
- الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن، ص 509.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 1 / 396 – 397.
- السيد الطباطبائي: تفسير الميزان، ١٨ /٣٢٦.