السؤال
جاءنا جيرانٌ جددٌ من جنسيةٍ أخرى، كانوا يسكنون في الطابق العلوي. تحملنا منهم إيذاءً كثيراً؛ كرمي القاذورات، ورائحة الدخان، وأصوات الأغاني العالية. كان أبنائي يتذمرون، وكنت أصبرهم بأن هؤلاء أصحاب بلايا، خرجوا من ديارهم، وتركوا أموالهم وأهليهم، فلا نجمع عليهم مرارتين بكثرة الشكوى.
رحل هؤلاء الجيران.
بعد فترةٍ، سكن جيرانٌ آخرون، لكن هذه المرة في الشقة المقابلة لنا. بدأ الأبناء يتذمرون من كثرة عددهم، وارتفاع أصواتهم، وخلعهم للأحذية على باب منزلهم حتى تمتلئ الطرقة التي بيننا وبينهم بالأحذية!
كما أنهم -للأسف- يلقون بالقمامة وكيسها مكشوف، وتظل خارج البيت فترةً طويلة حتى يأتي العامل ويرفعها.
أصبح الأبناء أكثر ضجراً مما كانوا عليه سابقاً، وبدأوا يرددون أنهم يكرهون الناس من هذه الجنسية بسبب تكرار الإزعاج وسوء الجيرة من أسرتين مختلفتين.
كنت أهدئ أبنائي، وأنصحهم بأن يحمدوا الله أنهم لم يضطروا لترك بلادهم. وكنت أقول لهم: تخيلوا أقاربنا بالخارج، لو تعرضوا للسخط والضجر من جيرانهم، أكنتم تحبون لهم ذلك؟
غادر هؤلاء الجيران المنزل قريباً، ففرح الأبناء كثيراً، فحزنت وصدمت من هذه المشاعر تجاههم، وكم تمنيت لو كنا أنصاراً لهم.
فكيف أهيئ أبنائي للتعامل مع مثل هؤلاء الجيران؟
الرد
أهلاً بك على موقع المنتدى الإسلامي العالمي للتربية ومختلف صفحاته على منصات التواصل الاجتماعي.
ونحن على مشارف سنة هجرية جديدة، وفي ضوء ما تقدم، نتذكر أخلاق الأنصار الذين قاسموا المهاجرين بيوتهم وأموالهم وأسرهم، كما جاء في صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف، وآخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: “قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها، حتى إذا حلت تزوجتها”، فقال عبد الرحمن: “بارك الله لك في أهلك” (رواه البخاري).
نعم، نحتاج أن نستلهم من روح الهجرة وأخلاق الأنصار معاني نتعلمها ونعلمها لأبنائنا؛ فالأرض أرض الله، ولن تضيق بسكانها، ومرحباً بمن حلّ بأرضنا طالباً الأمن والأمان. فبلادنا جميعها أرض الله تسع خلق الله جميعاً، وخاب وخسر من صنع قوميات زائفة وحدوداً واهية تجعلنا نصنف جيراننا حسب جنسياتهم.
لم ينضج الأبناء بعد ولم يستوعبوا خطأ التعميم، فلا يعني تكرار سوء الجوار من جارين أن كل من في جنسيتهم يتصرفون بالشكل نفسه ولهم الطباع ذاتها! دورك ألا تجعليهم يركزون على صغائر الأمور، وبدلاً من التذمر والشكوى نعلمهم كيف ينبهون الجيران بلطف وأدب عمّا بدا منهم بغير قصد.
الأجمل من ذلك أن نمد أبناءنا بمعلومات عن كيفية خروج هؤلاء من بلادهم وما رأوه وما عانوه حتى يصلوا ليكونوا جيراناً لنا. فالحفاوة والترحاب بهم وتقديم العون لهم اقتداءً بالأنصار يجعل المهاجرين يشعرون بأنهم مُرحبٌ بهم، وأن لهم حقوقاً، وبالتالي عليهم واجبات.
الأمر يختلف كلياً عمّا إذا بدأنا علاقتنا بإخواننا المهاجرين بالضجر والشكوى، غالباً ما ستتكون عداوة، ويشعرون بأنهم غير مرحب بهم. ولقد وصّانا الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على جيراننا بقوله: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورِّثه” (متفق عليه).
من المهم والضروري أيضاً أن نعلم أبناءنا الفصل بين الفعل السيئ وإطلاق صفة الفعل على الجميع، كأن يرددوا مثلاً: “البنات ثرثارات”، أو “الأولاد أشقياء”، فإطلاق صفة على الكل أمر غير منصف وغير محمود، فالمصادفة قادت لتكرار الشكوى من جارين يحملان نفس الجنسية، بينما قد يُشكر آخرون على حسن جيرتهم.
شكرًا لله على أننا لسنا المطاردين التاركين لديارنا وأموالنا أمر يجب لفت انتباه الأبناء إليه. والشكر لا يكون باللسان فقط، بل يجب أن يكون بالفعل؛ فيبتسمون لصغارهم، ويوسعون لهم الطريق، ويمنحونهم الحلوى، ويبادلونهم كلمات الترحيب، ومما لا شك فيه سيكون لهذا السلوك بالغ الأثر.
علينا أن نعلمهم أن حب المهاجرين إلى أرضنا من الديانة، فعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليضيفه، فلم يكن عنده ما يضيفه، فقال: “ألا رجل يضيف هذا، رحمه الله؟” فقام رجل من الأنصار، يقال له أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: “أكرمي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نوّمي الصبية، وأطفئي المصباح وأريه بأنك تأكلين معه، واتركيه لضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-”، ففعلت، فنزلت الآية:
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا۟ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} [سورة الحشر: 9].
الناظر لأمر المهاجرين إلى شتى أصقاع الأرض نجد أنهم كثر؛ فلم تقتصر البلاءات على بلد واحد كما كان منذ سنوات قليلة، فاتسعت رقعة الظلم والحروب، وأصبح الأصل تمازج الأمم والشعوب. فالأم الواعية تدفع أبناءها للتعارف تطبيقاً لقول الله تعالى: {يَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ} [سورة الحجرات: 13].
شيئاً فشيئاً سيدرك الأبناء اختلاف النسيج الوطني، وسيعيشون واقعاً مختلفاً، مما يستدعي أن نركز في تنشئتهم على معاني الأخوة، وحسن الجوار، والقول الحسن، والإكثار من قصص الأنصار. ولا يعني ذلك إغفال حقهم في الغضب والضجر من شتى أشكال الإيذاء؛ المهم ألا يترجموا ذلك الغضب بردود فعل تنطوي على عصبية وعنصرية.
هذا التمازج والخلاف والاختلاف سيقوي من قدرات التفاوض لديهم، وسيمرنهم على أخذ الحقوق بأدب. كما سيعلمهم التضامن والشعور بالآخر، وفقه الأولويات في اختيار أهم النقاط التي يعلقون عليها، وترك سفاسف الأمور.
ومما قد لا يدركه الصغار أن هؤلاء المهاجرين يضطرون للسكن في مجموعات كبيرة للتخفيف من أعباء الإيجارات؛ فلو عاشوا واقعهم لغفروا لهم هذا الضجيج، ولوسعوا لهم في المجلس.
إن اهتمامنا برسالة كهذه ليس لأنها حالة فردية تعيشونها، بل لأن هناك أصواتاً تعالت مؤخراً تُحمّل أصحاب البلايا الغلاء في البلاد، وترفع دعوات هنا وهناك للتضييق عليهم. فنعوذ بالله أن نكون ممن لم يكرم الضيف، ويعين على حمل الكَلّ عنهم، ويهون عليهم مصائب الدهر.
السائلة الكريمة،
امنحي الأبناء حقهم في الغضب، ثم وجهيهم إلى معاني التراحم، وذكّريهم بأخلاق الأنصار. علميهم حسن الضيافة، وكيفية توجيه الجيران برفق إلى ما يزعجكم بعد الترحيب بهم وتقديم الهدايا البسيطة. علميهم رفض التعميم، وذكّريهم بحمد الله على أحوالهم، وهيئيهم لتفهم أن هذا هو الأصل في هذه المرحلة، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
ولكل جارٍ أياً كان مشربه، نوصيك بأخيك وجارك خيراً.
تعرف على قوانين بلد مقامك، وانخرط في مكان سكنك، واعلم حقوقك وواجباتك حتى تكف عن الناس الأذى، بقصد أو غير قصد. رد الله كل غائب إلى بلده مرفوع الرأس منتصراً، وهدى أبناءنا وعلمهم هدي الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في المواساة والمؤازرة.