التربية الروحية جانب أساسي من جوانب التربية الإسلامية، وذلك لأن ، فالإسلام يعتبر الإنسان خليفة الله في الأرض، فهو المخلوق الأعلى في هذا الملك العريض ودوره في الأرض وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول، إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم، إنه سيد الأرض وسيد الآلة وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم، كما يدعي أنصار المادية الذين يحقرون دور الإنسان فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو المخلوق المكرم، وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه، وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، مهما يحقق من مزايا مادية = هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني، ومن هنا كانت عناية التربية الإسلامية بالتربية الروحية، وما شرعه الإسلام من العبادات المربية للروح.
ومن أجل تربية هذه الروح اتخذ الإسلام الكثير من الوسائل على رأسها العبادات الإسلامية.
العبادة هي الوسيلة الفعالة لتربية الروح؛ العبادة بمعناها الواسع الذي يشمل الحياة، العبادات المفروضة من صلاة وزكاة وصيام وحج، كلها عبادات مربية للروح، والصلاة خاصة هي جوهر هذه العبادة وركنها الركين، ومن ثم كانت العناية الشديدة التي يوجهها إليها الإسلام.
الوضوء كعبادة مربية للروح
والمسلم حين يتوضأ ينظف يديه من الملوثات الظاهرة، وينظفهما كذلك من المعاصي والآثام. ولا يتم وضوؤه الحقيقي الكامل حتى يستشعر هذا المعنى، ويحس أنه يغسل عن يديه حقا ما اقترفتاه من الإثم. أي أنه يتذكر ما اقترفه من الإثم بيديه، ويتوجه إلى الله يطلب المغفرة.. ولعل هذا التوجه أن يجعله في المرة التالية يتوب.
ثم وهو يغسل عينيه لينظفهما من الأتربة ينظفهما كذلك من كل نظرة محرمة وحين يستشعر في نفسه هذا المعنى فلعله في المرة التالية أن يستحي من الذنوب.
ثم وهو يغسل أذنيه ويغسل ساعديه وقدميه على هذا النحو ذاته وهو يستشعر المعنى نفسه، فتتم له في كل مرة طهارة البدن وطهارة الروح في ذات الوقت.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوجه المسلمين لهذا المعنى ويكرره عليهم مرات كثيرة، إنه لا يريد أن يكون الوضوء – وهو مدخل الصلاة – عملية آلية يؤديها المسلم بحكم العادة وهو شارد الفكر، وإنما يريد أن يتوجه له المسلم بنفسه كلها وكيانه كله، وأن يعبر هذا المدخل إلى الصلاة بقلب خاشع وضمير متيقظ، فيكون ذلك تهيئة نفسية جميلة لتلك اللحظة التي تربط الأرض بالسماء، تربط البشر بالخالق. ولا يريد أن ينصرف الوضوء إلى معناه الحسي الظاهر فيفقد معناه، ولو كان الغرض من الوضوء مجرد تنظيف الظاهر فقط، فقد يغني عنه أي تنظيف، ثم يظل يفقد معناه وحكمته حتى يفقد أثره الروحي في أعماق النفس، أثر التطهر من الداخل، والتوجه إلى الله بنفس تنظفت حقا، ورغبت إلى الله حقا، والرسول المربي لا يريد أن يذكر الإنسان بدنه الظاهر وینسی روحه الباطنة، لا يريد أن يحجبه عالم الظاهر عن عالم الخفاء، لا يرید له أن يكون تافها لا يرى من الأشياء غير ما تدركه الحواس؛ وإنما يريد له أن يأخذ الحياة بكل شمولها وكل عمقها، يريد له ألا يقف عند الظواهر المحسوسة بل ينفذ إلى ما وراءها ، يريد له أن يرى الحقيقة الكاملة.
الصلاة المربية للروح:
ثم يدخل المسلم في الصلاة فينتقل من حدود الحياة المادية الضيقة، ينتقل من حدود الأرض ومن حدود الواقع والمعلوم والمنظور، إلى ذلك العالم الذي لا حدود له ترى ولا غاية تدرك ولا ملمس يحس عالم النور الذي ليست له حدود، النور الذي تدركه الأرواح ولا تدركه الأبصار: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:35 – 37].
الصلاة التي تربط الإنسان بخالقه، فإذا هو كائن عجيب لا يشبهه شيء من خلق الله كله. كائن يقف بجسمه على الأرض وروحه تسبح في السماء، كائن قادر – في عجزه وطاقته المحدودة – أن يقوم بالمعجزة؛ أن يقبس من الروح الخالقة، أن يحطم السدود والحواجز، أن تتسع روحه فتشمل الحياة، وتبصر حقيقة الوجود.
الصيام وأثره في تربية للروح
ثم تأتي عبادة الصيام كفريضة إسلامية لها دورها الكبير في تربية الروح والارتقاء بها، فالصيام حين يؤدي على أصوله، ولا يكون مجرد امتناع عن الطعام والشراب، حين يكون صيام النفس من الداخل لا صيام الأحشاء فقط، حين يتوجه به الإنسان إلى الله، حين يحس أن كل خاطرة في نفسه، وكل إحساس في شعوره، وكل لفتة وكل نظرة وكل كلمة وكل سر، ينبغي أن تكون – في هذا الشهر خاصة – نظيفة متطهرة تصلح للصيام، والتوجه الكامل إلى الله، حينئذ تملأ التقوى القلب، وتنطلق الروح إلى آفاق عالية من النور المشرق. إنها التقوى لله غاية الصيام، التقوى التي تنشأ من الطاعة، الطاعة التي تتطوع بالامتناع عن شهوات النفس وشهوات الجسد، في حين تملك ألا تمتنع ولا تطيع. وصدق الله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
الزكاة كعبادة مربية للروح
ثم تأتي عبادة الزكاة وهي تطهير من شح النفس، وإطلاق للروح من الأثرة التي تجعل النفس لا تشعر إلا بوجودها وحدها ولا تشعر بالآخرين، وصدق الله القائل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 103 أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 103 – 104]. إنها إحساس بالأخوة النبيلة التي تجمع الأسرة البشرية الواحدة، فإذا كل فرد فيها ذو رحم مع الآخرين، الأخوة التي تخرج بالإنسان عن الشعور بالملك فيما يمتلك، فليس هناك ملك خالص في الأسرة الواحدة وإنما الناس شركاء في الخير، في رزق الله العميم.
والزكاة كذلك تطهير للمال وإحلال البركة فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم واختبار للمسلم في طاعته لأوامر الله، وتقديم حب الله على حب المال ومواساة الفقير وسد حاجة المحتاجين، الأمر الذين يزيد المحبة والمودة بين الأفراد مما يحقق أعلى درجات التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
الحج كعبادة مربية للروح
والذين يذهبون إلى الحج صافية قلوبهم لهذه الفريضة، يجدون أثرا عجيبا لهذه العبادة على أرواحهم وفي قلوبهم؛ إن حالات الوجد التي تستثيرها في قلوبهم زيارة الأماكن المقدسة وأداء الفريضة فيها في حالات عجيبة نادرة المثال في واقع الحياة.
حالات ترتفع فيها النفوس البشرية عن ملابسات الأرض، ومطامع الأرض، وشهوات الأرض، وتتجرد لله خالصة، تتوجه إليه أن يتقبلها في عباده، ويمنحها مغفرته ورضوانه.
والشفافية التي يحسها الناس هناك، وهم يسيرون حيث سار الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويصلون حيث صلى، وحيث تنزل عليه الوحي، وحيث جاهد وصبر، وحارب وانتصر.
تلك هي العبادات المفروضة ولكنها ليست كل عبادات الإسلام، إن الإسلام يوسع معنى العبادة حتى تشمل كل الحياة، كل عمل يتوجه به الإنسان إلى الله فهو عبادة مربية للروح، وكل عمل يتركه الإنسان تقربا لله واحتسابا فهو عبادة مربية للروح، وكل شعور نظيف في باطن النفس فهو عبادة مربية للروح، وكل ذكر لله في الليل والنهار فهو عبادة مربية للروح، ومن ثم تشمل العبادة الحياة كلها، و بهذا المعنى تصبح العبادة هي الصلة الدائمة بين العبد والرب، وتصبح هي التربية الدائمة للروح.
المصادر
زاد على الطريق: مصطفى مشهور.
في ظلال القرآن: سيد قطب.
منهج التربية الإسلامية: محمد قطب.