الإنسان مخلوق مزدوج الطبيعة ثنائي التركيب والتكوين، فهو مادة وروح، مادة من طين الأرض، وروح علوية من الله سبحانه وتعالى، هكذا خلقه ربه وفطره بارئه، وهكذا يجب أن ينظر إليه، لكن – والتي لها الغلبة اليوم – تركز على جانب واحد في الإنسان هو الجانب المادي فقط، ولم تخترق حجاب المادة الكثيف لتنفذ إلى الروح الشفاف، فأهملت هذه الطاقة الأساسية من طاقات الإنسان وهي الطاقة الروحية، وهذا هو داؤها الأكبر وعلتها القاتلة.
ما هي الطاقة الروحية؟
إن الإبهام في طبيعة الروح، والغموض الذي يحيط بها، والعجز عن إدراك كنهها، هو الذي أغرى الماديين في العصور الحديثة أن يهملوا الطاقة الروحية من بين طاقات الإنسان ويسقطوها من الحساب؛ فكل ما لا تراه الحواس – في نظرهم – فهو غير موجود! والروح لا تدرك بالحواس.. فهي – بزعمهم – شيء ليس له وجود.
الطاقة الروحية طاقة مجهولة مبهمة، غامضة، محجوبة عن الإدراك، ومع ذلك فهي حقيقة! فمع كونها مجهولة في كنهها، مبهمة، غامضة، محجوبة عن الإدراك. ولكن نتائجها ليست مجهولة، ولا محجوبة عن الإدراك.
فبالطاقة الروحية يتصل بها الإنسان بالمجهول؛ بالغيب المحجوب عن الحواس.
عمليات الطاقة الروحية
وكما أن لكل طاقة من طاقات الإنسان مجموعة من العمليات تقوم بها، فإن للطاقة الروحية أيضا مجموعة من العمليات تقوم بها، ومن هذه العمليات:
- عملية الاستشفاف: وتعني القدرة على رؤية أحداث تقع في مكان بعيد دون استخدام حواس البصر، وتسمى أحيانا بظاهرة “الجلاء” أو “الكشف البصري”.
- الحلم التنبؤي: وهو نوع من الأحلام التي يطلق عليها أيضًا اسم الأحلام التنبؤية أو الأحلام المعرفية وهي نوع من الأحلام تدور حول تنبؤ معين بأمور تحدث في المستقبل.
- التخاطر عن بعد: ويشير إلى المقدرة على التواصل ونقل المعلومات من عقل إنسان لآخر، أي أنه يعني القدرة على اكتساب معلومات من أي كائن واعٍ آخر، وقد تكون هذه المعلومات أفكارا أو مشاعر أو غير ذلك، وقد استخدمت الكلمة في الماضي لتعبر عن انتقال المعلومة.
ومن أمثلة عملية التخاطر حادثة عمر الشهيرة مع سارية، حين ناداه على بعد ألوف الأميال: يا سارية الجبل! الجبل! فسمعه سارية ونجا من الكمين وانتصر.. هذا التخاطر عملية من عمليات الروح.
ونحن وإن كنا نجهل الكيفية التي تتم بها هذه العمليات ولكنها تتم على أي حال، وهي كلها عملیات جليلة عظيمة باهرة معجزة.. يقف الإنسان حائرا أمامها.
الطاقة الروحية وسيلة الاتصال بالله
ومع كل هذه العمليات التي تقوم بها الطاقة الروحية تبقى أهم عملياتها أنها هي وسيلتنا للاتصال بالله جل في علاه، فهي مهتدية إلى الله بفطرتها، فهي من روحه – سبحانه – أودعها قبضة الطين: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29]. ومن ثم فهي بذاتها تهتدي إلى خالقها، وتتصل به على طريقتها: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]. تهتدي إليه كما يهتدي كل شيء من خلق الله، بفطرته، دون کد ولا تعب ولا جهد في الاهتداء: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. كل ما في الأمر أن الله قد كرم هذا المخلوق البشري: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]. ومن آیات هذا التكريم أن جعل للإنسان فؤادة واعية: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] فجعل عملية الهدي عملية واعية يشترك فيها الفؤاد البصير، فتفترق بذلك عن الطاعة التي يمارسها الجماد والنبات والحيوان.
صوت الفطرة
ومع ذلك فالإنسان يضل وتنحرف فطرته و يصيبها المرض فلا يهتدي إلى الله، ولا يصل بروحه إليه، ولا يستمد منه، ولا يلجأ إلى حماه.
على أنه حتى حين يضل تظل بقية من الفطرة – برغم ضلالها – تتجه إلى خالقها، كما تتجه العين الكليلة إلى الضوء، لا تراه كله، ولكنها لا تعمى عنه. فيعبد الناس الله ويشركون به غيره من الكائنات: {… وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، أو يعبدون قوة – ما – يزعمون أنها الله. ولكنهم لا ينكرون وجود خالق لهذا الكون قوي مسيطر مرید.
ومهمة العقيدة هي مساندة الفطرة وتوجيهها وجهتها. مهمتها أن تساعد الفطرة في الاهتداء إلى الله.. الاهتداء الذي هو كامن في كيانها ولو حجبتها عنه الأمراض، مهمتها أن تطلق الروح من إسارها لكي ترى الله.
عناية الإسلام بالروح
إن الروح في نظر الإسلام مركز الكيان البشري ونقطة ارتكازه، إنها القاعدة التي يستند إليها الكيان كله ويترابط عن طريقها، إنها المهيمن الأكبر على حياة الإنسان، إنها الموجه إلى النور، يكفي أنها صلة الإنسان بالله، والإسلام – في عنايته الفائقة بتربية الروح – هو دين الفطرة، فالحق أن الطاقة الروحية في الإنسان هي أكبر طاقاته، وأعظمها، وأشدها اتصالا بحقائق الوجود.
طاقة الجسم محدودة بكيانه المادي و بما تدركه الحواس.
وطاقة العقل أكثر طلاقة، ولكنها محدودة بما يعقل، محدودة بالزمان والمكان، بالبدء والنهاية، ومحكومة بالفناء.
وطاقة الروح – وحدها – في كيان الإنسان، هي التي لا تعرف الحدود والقيود، ولا تعرف الفناء، هي وحدها التي تملك الاتصال بما لا يدركه الحس ولا يدركه العقل، هي وحدها التي تملك الاتصال بالخلود الأبدي والوجود الأزلي، تملك الاتصال بالله، كما أنها هي التي تملك الاتصال بالوجود كله من وراء حواجز الزمان والمكان، لا نعرف كيف تتم هذه العمليات ولكننا نشعر بها، فكم من لحظة دقيقة عجيبة عظيمة رائعة، يرتعش فيها الكيان كله، ويحس في أعماقه أنه يرى الله. وقد كان طبيعيا إذن أن تهتم العقائد كلها بأمر هذه الروح، وكان طبيعيا أن يهتم الإسلام خاصة بهذه الطاقة، وهو الذي جعل منهاجه الاهتمام بالطاقات البشرية كلها، وإعطائها حقها من الرعاية والتوجيه.
المصادر
السيد أحمد هندية: أزمة الإنسانية والبديل الحضاري.
عبد المنعم الحفني: موسوعة علم النفس والتحليل النفسي.
محمد قطب: منهج التربية الإسلامية.