إن أعظم الناس منة وأكبرهم نعمة على الإنسان هما والداه؛ فهما سببا وجوده، وقد اعتنيا به أتم العناية منذ أن كان حملا إلى أن صار رجلا، ولهذا جعل الله حق الوالدين عظيما وفي مرتبة، حيث جعل حقهما بعد حقه، وقرن بر الوالدين والإحسان إليهما بعبادته وحده لا شريك له، التي هي أعظم وأوجب مهمة للإنسان في هذه الدنيا.
بر الوالدين في القرآن الكريم
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 – 24]، يقول الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن: (( بهذه العبارات الندية والصورة الموحية يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء، ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء توجه اهتمامهم القوي إِلى الأمام، إِلى الذرية، إِلى الناشئة، إِلى الجيل المقبل، وقلما توجه اهتمامهم إِلى الوراء إِلى الأبوة إِلى الحياة المولية إِلى الجيل الذاهب.
إِن الوالدين يندفعان بالفطرة إِلى رعاية الأولاد، إِلى التضحية بكل شيء حتى الذات. وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإِذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإِذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإِذا هما شيخوخة فانية -إِن أمهلهما الأجل-، وهما مع ذلك سعيدان! فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ويندفعون بدورهم إِلى الأمام إِلى الزوجات والذرية.. وهكذا تندفع الحياة، وهنا يجيء الأمر بالإِحسان إِلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد.
حقوق الوالدين على الأبناء
أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب في بر الوالدين ألا يظهر من الولد ما يدل على الضجر والضيق وما يشي بالإِهانة وسوء الأدب.
﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)﴾ هي مرتبة أعلى إِيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإِكرام والاحترام.
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ التعبير يبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل لا يرفع عيناً ولا يرفض أمراً، وكأنما للذل جناح يخفضه إِيذاناً بالسلام والاستسلام.
﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) ﴾ فهي الذكرى الحانية ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الوالدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إِلى الرعاية والحنان، وهو التوجه إِلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ورعاية الله أشمل وحنان الله أرحب، وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء.
قال الحافظ أبو بكر البزار بإِسناده عن بريده عن أبيه: أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل أديت حقها؟ قال: (لا ولا بزفرة واحدة).
وقد أمر الله الوالدين بالنفقة، فقد روى أبو داود أنه جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله إِن لي مالاً وولداً وإِن والدي يحتاج مالي. قال: (أنت ومالك لوالدك، إِن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم). وبر الوالدين من الأعمال الصالحة التي يفرج الله بها الكرب إِذا أخلص صاحبها لله، وفي حديث الصخرة الذي رواه البخاري ومسلم دليل على ذلك.
أتى رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: (هل بقي من والديك أحد ؟) قال أمي. قال صلى الله عليه وسلم: (قابل الله في برها فإِذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد) رواه أبو يعلى والطبراني في الصغير والأوسط بإِسناد حسن.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) رواه مسلم.
وجاء آخر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشيره في الغزو، فقال: ألك والدة؟ قال: نعم. قال: (فالزمها فإِن الجنة عند رجليها) أخرجه النسائي وابن ماجة.
وروى الإِمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه.. رغم أنفه.. رغم أنفه) قيل: من يا رسول الله؟ قال: (من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة).
يصور رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الابن الذي فاتته خدمة الوالدين بأنه رغم أنفه أي أصابته الخيبة والحسرة.
بر الوالدين على كل حال
– وإِن كانا مشركين: وتروي السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: ((قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت عليّ أمي وهى راغمة – (( أي كارهة للإِسلام )) – أفأصل أمي؟ قال: ((نعم صلي أمك)) وزاد في رواية فأنزل الله فيها ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين﴾ رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
-وإِن كانا من الرضاعة: ويرينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا حول بر الوالدين من الرضاعة، فقد أخرج أبو داود عن عمر بن السائب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت أمه من الرضاعة فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
– وإِن كانا متوفيين: وبر الوالدين لا ينقطع بوفاتهما، فقد روى أبو داود عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما بعد موتهما؟ فقال: ((نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإِنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إِلا بهما وإِكرام صديقهما)).
وإِنفاذ عهدهما تعني إِمضاء وصيتهما وما عهدا به قبل موتهما. وصلة الرحم التي لا توصل إِلا بهما أي صلة كل من له صلة بهما من أقارب وغيرهما، ويرينا المثال العملي لهذا الأمر ابن عمر رضي الله عنهما فإِنه كان إِذا خرج إِلى مكة كان له حمار يتروح عليه إِذا مل ركوب الراحلة وعمامة يشد بها رأسه. حينما هو يوماً على ذلك الحمار إِذ مر به أعرابي فقال ابن عمر: ألست ابن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، فقال: اركب هذا، والعمامة وقال: اشدد بها رأسك، فقال بعض أصحابه غفر الله لك، أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه وعمامة كنت تشد بها رأسك، فقال: إِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِن من البر صلة الرجل أهل ودَّ أبيه بعد أن يوليِّ )) وإِن أباه كان وداً لعمر. (أخرجه مسلم).
واجبات عملية مقترحة
1- أن يعينهم في أعمال المنزل من ترتيب ونظافة وإِطعام.
2- أن يتعهدهم بحمل حاجياتهم إِليهم بصفة دائمة.
3- أن يرتب لهم نزهة دورية.
4- أن يتواصل معهم أثناء السفر بالوسيلة المناسبة (هاتف – خطاب -…).
5- أن يدعو لهم يومياً بظهر الغيب ويطلب منهم الدعاء له باستمرار.
6- أن يحذر إِفشاء خصوصياتهم.
7- أن يصل ودِّهما بعد وفاتهما فضلاً عن حياتهما.
المصادر:
- سيد قطب: في ظلال القرآن.
- عبد الله العقيل: بر الوالدين.
- يحيى بن شرف النووي: رياض الصالحين.