الاهتمام بتربية الجانب الخلقي من السمات الأساسية للتربية الإسلامية؛ كيف لا وقد أوضح رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أن العلة من بعثته إتمامُ مكارم ، فقال صلى الله عليه وسلم: ” إنَّما بعثتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ” رواه الإمام مالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه. وخلق الوفاء ومنه الوفاء بالوعد أحد خلقين جعلهما الإسلام ركيزتين في الشخصية الإسلامية، كما جاء في الحديث: “المؤمنُ يطبعُ على الخلالِ كلِّها إِلّا الخيانةَ والكذبَ”. قال الألباني: صحيح على شرط الشيخين. والله عز وجل يحب الأوفياء من عباده، وما أهلك القرى الظالمة إِلا بعد أن قال في أهلها: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفَاسِقِينَ} [الأعراف:102].
مفهوم الوفاء بالوعد
في اللغة: وَفَى الشيء يفي وفاءً: تم.
ووَفَى فلان نذره: أدّاه، ووفّى بعهده: عمل به.
ويقال هذا الشيء لا يفي بذلك أي يقصر عنه، ووفَى بالوعد والعهد: وفّى (المعجم الوجيز ص 676).
مشروعية الوفاء بالوعد: أكد الإِسلام على الوفاء بالعهد وشدد لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة، وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في القرآن الكريم والحديث سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس، عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد الدولة، وعهد الحاكم وعهد المحكوم. فقد تتابعت آيات القرآن تحض على الوفاء وتخوف من الغدر: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)﴾ [ الإِسراء: 34 ].
وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) ﴾ [لنحل: 91].
وقد بين الله عز وجل أن الغدر ينـزع الثقة ويثير الفوضى ويمزق الأواصر ويرد الأقوياء ضعافاً واهنين فقال: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) ﴾ [النحل: 92].
إِن الرجل قد يحل عقداً أبرمه ينتظر ربحاً أوفر من عقد آخر، وإِن الأمة قد تطرح معاهدة بينها وبين أمة أخرى جرياً وراء مصلحة أحظى لديها، والدين يكره أن تداس الفضائل في سوق المنفعة العاجلة ويكره أن تنطوي دخائل الناس على هذه النيات المغشوشة ويوجب الشرف على الفرد والجماعة حتى تصان العقود على الفقر والغنى وعلى النصر والهزيمة. ولذلك يقول الله بعد الأمر الجازم باحترام العهود: ﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ﴾ [ النحل 94 – 95 ].
والوفاء بالحق مع المؤمن بالإِسلام ومع الكافر به، فإِن الفضيلة لا تتجزأ فيكون المرء خسيساً مع قوم كريماً مع آخرين والمدار على موضوع العهد فما دام خيراً فإِقراره حتم مع كل فرد وفي كل حين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول: ((لو دعيت به في الإِسلام لأجبت)) وقال:(( أيما رجل أمّن رجلاً على دمه ثم قتله فأنا من القاتل بريء وإِن كان المقتول كافراً )) رواه بن حبان.
فإِذا أبرم المسلم عقداً فيجب أن يحترمه وإِذا أعطى عهداً فيجب أن يلتزمه، ومن الإِيمان أن يكون الرجل عند كلمته التي قالها فيعرف بين الناس بأن كلمته ميثاق غليظ، ولا عهد في عصيان ولا يمين في مأثم، وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير)) رواه مسلم، ولا يسوغ لامرئ الإِصرار على الوفاء بيمين الحنث فيها أفضل وفي الحديث (( لأن يَلِجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثمُ له عند الله تعالى من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه )) رواه البخاري )).
ومن ثم فلا تعهد إِلا بمعروف فإِذا وثّق الإِنسان عهداً بمعروف فليصرف همه في إِمضائه ما دامت فيه عين تطرف. ( خلق المسلم – الغزالي بتصرف ).
درجات العهود
إِن العهود التي يرتبط بها المسلم درجات فأعلاها مكانة وأقدسها ذماماً العهد الأعظم الذي بين العبد ورب العالمين. فإِن الله خلق الإِنسان بقدرته ورباه بنعمته وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقية وأن يعترف بها وألا تشرد به المغويات فيجهلها أو يجحدها: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)﴾ [ يس: 60- 61 ].
ووفاء الإِنسان بهذا العهد أساس كرامته في الدنيا وسعادته في الآخرة، ومن سوء الظن بالله أن توفّى له ثم تتوقع الشر منه: ﴿ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) ﴾ [ البقرة: 40 ].
يقول الأستاذ سعيد حوى: (( ولا يفي الإِنسان بهذا العهد حتى يعتقد علماً وعملاً أن الله وحده له حق الأمر والنهى والتحليل والتحريم فعنه يتلقى وله يطيع)) (جند الله ثقافة وأخلاقاً).
الإِسلام يبايع الوفود المقبلة عليه بتعاليم يتخيرها من بين التعاليم الكثيرة التي حفل بها الدين على حسب ما يرى من طاقتهم النفسية والعقلية، فعن عوف بن مالك قال:
((كنا عند النبي تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا وقلنا: نبايعك يا رسول الله. قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا، وأسر كلمة خفية قال: ولا تسألوا الناس شيئاً)).
قال عوف بن مالك: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً أن يناوله إِياه (رواه مسلم). فانظر إِلى الوفاء بالبيعة ودقة تنفيذها.
ومن الوفاء أن يذكر الرجل ماضيه الذاهب لينتفع به في حاضره ومستقبله، فإِن كان معسراً فأغناه الله، أو مريضاً فشفاه الله، فليس له أن يفصل بين أمسه ويومه بسور غليظ ثم يزعم أنه ما كان فقيراً أو مريضاً ويبني على غروره بحاضره مسلكاً كله فظاظة وجحود، هذا نوع من الغدر ينتهي بصاحبه إِلى النفاق: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) ﴾ [ التوبة75 – 78 ].
احترام العقود
الإِسلام يوصي باحترام العقود التي تسجل فيها الالتزامات وغيرها ويأمر بإِنفاذ الشروط التي تتضمنها وفي الحديث: ((المسلمون عند شروطهم)) رواه البخاري.
ولا شك أن انتشار الثقة في ميدان التجارة في شتى المعاملات الاقتصادية أساسه افتراض الوفاء في أي تعهد. ويجب أن تكون الشروط المكتوبة متفقة مع حدود الشريعة و إِلا فلا حرمة لها ولا يكلف المسلم بوفائها.
وقد منح الإِسلام عقد الزواج مزيداً من الرعاية، وفي الحديث: ((أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر، ليس في نفسه أن يؤدي إِليها حقها، خدعها فمات ولم يؤد إِليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان، و أيما رجل استدان ديناً لا يريد أن يؤدي إِلى صاحبه حقه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إِليه دينه لقي الله وهو سارق)) رواه الطبراني.
الوفاء بالدَّين
ومن الشئون التي اهتم الإِسلام بها قيمة الوفاء بالديون، فإِن سدادها من آكد الحقوق عند الله. وقد قطع الدين قطعاً عنيفاً وساوس الطمع التي تنتاب المدين وتغريه بالمطال أو إِرجاء القضاء. وأول ما شرعه الإِسلام في هذا أن حرم الاستدانة إِلا للحاجة القاهرة، فمن الورطات المخوفة أن يقترض المرء في أمور يمكن الاستغناء عنها. بل لقد روى أن ذلك من الآثام التي يلحقها القصاص: ((إِن الديّن يقتص من صاحبه يوم القيامة إِذا مات إِلا من تديّن من ثلاث خلال: الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين يتقوى به على عدو الله وعدوه، ورجل يموت عنده مسلم فلا يجد ما يكفن ويواريه إِلا بدين، ورجل خاف على نفسه العزوبة فينكح خشية على دينه، فإِن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة)) رواه ابن ماجه.
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يدعو الله بصاحب الديّن يوم القيامة حتى يوقف بين يديه فيقال: يا ابن آدم فيم أخذت هذا الديّن؟ وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يارب إِنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم ألبس ولم أضيع ولكن أتى عليَّ إِما حرقٌ وإِما سرقٌ وإِما وضيعة فيقول الله: صدق عبدي، أنا أحق من قضى عنك فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فيرجح حسناته على سيئاته فيدخل الجنة بفضل رحمته)) رواه احمد.
ويظهر من هذا أن الله يعذر من يضطر إِلى الدين لأزمات شداد ومن يعجز عن القضاء لمصائب جائحة، أما الذي تمر بنفسه شهوة طارئة ويضعف عن إِجابتها من ماله فيسارع إِلى الاقتراض من غيره غير ناظر إِلى عقباه ولا مهتم بطريقة الخلوص من دينه كما وصفته الآثار: سارق جريء.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إِتلافها أتلفه الله )) رواه البخاري.
وحتى لا يحاول أحد الفرار من أداء الحق المكتوب ولو بأداء عبادات أخرى رفيعة الأجر يروي الإِمام مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه ((قال رجل: يا رسول الله أرأيت إِن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إِن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال: كيف قلت؟ فأعاد. قال: نعم إِلا الدين فإِن جبريل أخبرني بذلك)).رواه مسلم.
ولما علمه العقلاء من خطر الديّن على آخرة المسلم ومنـزلته كانوا ينصحونه بالتخلص من قبل أن يقدم على أي مخاطرة قد تودي بحياته، وقد استهان المسلمون بالديون فاقترضوها لشهوات الغيّ في البطون والفروج واقترضوها من اليهود والنصارى بالربا الذي حرمه الله تحريماً باتاً.. ولا يزال الوفاء بالقروض مستعصياً ولولا سياط القانون لضاعت حقوق كثيرة.
الوفاء بالمواعيد والأوقات
﴿ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ ﴾ [ طه: 58 ].
فالفرد المسلم حريص على وقته وعلى أوقات الآخرين فهو دقيق في مواعيده لا يتقدم ولا يتأخر حتى لا يعطل الآخرين، فكم من أوقات ذهبت سدى، وكم من مصالح ضاعت، وكم من أضرار وقعت بسبب عدم الانضباط في الموعد، وكم من إِنجازات تمت وكم من مفاسد درئت بسبب الدقة والانضباط في الموعد.
الوفاء بالعهد يحتاج إِلى ذكر مطرد وعزم مشدد، فضعف الذاكرة وضعف العزيمة عائقان كثيفان عن الوفاء الواجب: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) ﴾ [ طه: 115 ] (خلق المسلم للشيخ محمد الغزالي بتصرف من ص 54:67 ).
واجبات عملية يتابَع فيها المتربي:
1- أن يكتب ما استطاع المطلوب منه الوفاء به.
2- أن يتخذ من أصحابه شاهداً ومذكراً له.
3- أن يستعين بالله عز وجل خير الشاهدين.
4- أن يعد برنامجاً خاصاً بالتزاماته على فترات دورية.
5- أن يكون للمحاسبة واقع عملي سواء محاسبة الواحد لنفسه أو استجابته لمحاسبة المربي.