تعد التربية الأخلاقية من الجوانب الأساسية في التربية الإسلامية، وعلى المربي أن يوليها اهتماما كبيرا، والتربية الأخلاقية الربانية هي من جوانب تميز الشخصية المسلمة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم (وفي رواية صالح) الأخلاق “. رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وإذا كان الإسلام قد وضع لنا الأهداف والمقاصد الأخلاقية العليا التي نتطلع إلى آفاقها بهمة وشوق فإنه لم يحرمنا من وسائل اكتسابها وإكسابها، ومن أهم هذه الوسائل التربية المستمرة، ولهذا جاء رسولنا الكريم معلما ومربيا، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. ومن أخلاق الإسلام خلق الحلم.
الحلم لغة واصطلاحا
الحلم لغةً: التأني والسكن عند الغضب أو المكروه مع القدرة والقوة، والحلم: الأناة وضبط النفس، والحلم: العقل، وفي القرآن الكريم ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا﴾ [ الطور: 32].
والحليم: اسم من أسماء الله الحسنى. قال الخطابي: هو ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل ولا عصيان عاصٍ. ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم؛ لأنه الصفح مع القدرة، المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة، ولكن جعل لكل شيء مقدارًا فهو منته إِليه.
وأضاف الغزالي: ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة إِلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45].
وصفة الحلم في الإِنسان دلالة كمال العقل وسيطرته على قوة الغضب وخضوعها للعقل.
فضل الحلم
على قدر ما يضبط المسلم نفسه ويكظم غيظه ويملك قوله ويتجاوز عن الهفوات تكون منـزلته عند الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء)) أخرجه الترمذي وأبو داود.
وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾ [سورة فصلت: 34 – 35] قال: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإِساءة، فإِذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم.
وقال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
درجات الاستثارة: تتفاوت درجات الناس في الثبات أمام المثيرات فمنهم من تستخفه التوافه فيستحمق على عجل. ومنهم من تستنفره الشدائد فيبقى على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة عقله، وهم في فيئهم يتفاوتون.
خطب النبي صلى الله عليه وسلم في الناس عصر يوم من الأيام، فكان فيما قاله وحفظه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (( ألا إنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا على طَبقاتٍ ( شَتَّى ، فمِنْهمْ مَنْ يُولَدُ مُؤمِنًا ، ويُحِيى مُؤمِنًا ، ويَموتُ مُؤمِنًا. ومِنهمْ مَنْ يُولَدُ كافِرًا ، ويُحيى كافِرًا ، ويَموتُ كافِرًا ومِنهمْ مَنْ يُولَدُ مُؤمِنًا ، ويُحيِى مُؤمِنًا ويَموتُ كافِرًا ومِنهمْ مَنْ يُولَدُ كافِرًا ، ويُحيِى كافِرًا ، ويَموتُ مُؤمِنًا ) ألا وإنَّ مِنهمْ بَطيءُ الغَضَبِ سَريعُ الفَيْءِ ، ومِنهمْ سَريعُ الغضبِ سريعُ الفيءِ ، فتِلكَ بِتلكَ ألا وإنَّ مِنهمْ سَريعُ الغضبِ بَطيءُ الفيءِ ألا وخيرُهمْ بَطيءُ الغضبِ سريعُ الفيءِ ( ألا ) وشَرُّهمْ سريعُ الغضبِ بطيءُ الفيءِ ( ألا وإنَّ مِنهمْ حَسَنَ القضاءِ سيِّئَ الطلَبِ فتِلكَ بِتلكَ ، ألا وإنَّ مِنهمْ السيِّئَ القضاءِ السيِّئَ الطلبِ ألا وخيرُهمْ الحسَنُ القضاءِ الحسَنُ الطلَبِ ألا وشرُّهمْ سيِّئُ القضاءِ سيِّئُ الطلبِ ). ألا وإنَّ الغضبَ جَمرةٌ في قلبِ ابنِ آدمَ ما رأيتُمْ إلى حُمْرَةِ عينيْهِ ، وانْتفاخِ أوْداجِهِ فمَنْ أحسنَ بِشيءٍ من ذلكَ ، فلْيَلْصَقْ بالأرضِ)) أي: فليبق مكانه وليجلس. (ضعّفه الألباني في ضعيف الترغيب).
نماذج عملية
– الرسول القدوة: المحفوظ من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه ما انتقم لنفسه قط إِلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله على المشركين والعنهم فقال: ((إِني إِنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً)) (رواه مسلم). ويأتي ابن عبد الله بن أبي إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الصفح عن أبيه فصفح، ثم طلب منه أن يكفن في قميصه فمنحه إِياه، ثم طلب منه أن يصلي عليه ويستغفر له فلم يرد الرسول الرقيق العفو هذا السؤال بل وقف أمام جثمان الطاعن في عرضه بالأمس يستدر له المغفرة، فنـزل قول الله تعالى: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) ﴾ [ التوبة: 80 ].
– الصديق رضي الله عنه: يستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلعن أبو بكر رضي الله عنه بعض رقيقه وقال: ((لا ينبغي للصدّيق أن يكون لعاناً)) رواه مسلم. وفي رواية ((لا يجتمع أن تكونوا لعانين وصدّيقين)) رواه الحاكم. فأعتق أبو بكر أولئك الرقيق كفارة عما بدر منه لهم، وجاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: لا أعود. ولما حلف رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح لكونه تكلم في واقعة الإِفك ونزل قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)﴾ [النور: 22]. فقال أبو بكر: بلى، إِني لأحب أن يغفر الله لي. فرجّع إِلى مسطح الذي كان يجري عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً)) متفق عليه.
– أشج عبد القيس: قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة)) رواه مسلم. ويقول الإِمام النووي في شرحه: وأما الحلم فهو العقل، وأما الأناة: فهي التثبت وترك العجلة. سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إِلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((تبايعون على أنفسكم وقومكم فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله إِنك لم تزاول الرجل عن شيء أشد عليه من دينه. نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم فمن اتبعنا فكان منا. ومن أبى قاتلناه. قال: صدقت، إِن فيك خصلتين… الحديث)). قال القاضي عياض: فالأناة: تربص حتى نظر في مصالحه ولم يعجل. والحلم: هو هذا القول الذي قاله يدل على صحة عقله وجودة نظره في العواقب، ولا يخالف هذا ما جاء في مسند أبي يعلى وغيره أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج إِن فيك خصلتين… الحديث. قال: يا رسول الله كانا فيّ أم حدثا، قال: بل قديم. قال: الحمد لله الذي جعلني على خصلتين يحبهما)).
كيف أُغلِّب الحلم؟
من هاج غيظه يحتاج إِلى كظمه ويحتاج في ذلك مجاهدة شديدة، ولكن إِذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتياداً فلا يهيج الغيظ، وإِن هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي. فعليه أن يبتلع غضبه فلا ينفجر وأن يقبض يده فلا تقتص وأن يجعل عفوه عن المسيء من شكر الله الذي أقدره على أن يأخذ بحقه إِذا شاء. وعليه اجتناب شعور العجز عن التشفي ويقدم عليه العفو والصفح. فإِن الغضب أو الغيظ إِذا كظم لعجزٍ عن التشفي في الحال يرجع إِلى الباطن فيحتقن فيه فيصير حقداً يتولد منه الحسد، فالحقد ثمرة الغضب، والحسد من نتائج الحقد.
واجبات عملية لاكتساب خلق الحلم
1- لا يعاجل من يغضب بالجزاء والقصاص.
2- لا يتعجل الحكم في الأمور حتى يتأنى أو يراجع.
3- يصفح وهو يقدر على الانتقام.
4- يدعو عند الكرب: (لا إلِه إِلا أنت الله العظيم الحليم، لا إِله إِلا أنت الله رب العرش العظيم، لا إِله إِلا أنت رب السماوات ورب الأراضين ورب العرش الكريم) رواه البخاري ومسلم.
5- ولطهارة الباطن نحو المسيء: لا يتمنى زوال نعمة عن أحد – لا يهجر ولا يصادم ولا ينقطع عن أحد – لا يشمت – لا يفشي سراً – ولا يسخر ولا يستهزئ ولا يؤذي – لا يمنع حقاً ويرد المظالم ويتطوع بالبشاشة والقيام بالحاجات وذكر الله والدعاء بظهر الغيب.
المراجع:
- ابن قدامة المقدسي: مختصر منهاج القاصدين.
- ابن منظور: لسان العرب.
- سعيد حوى: المستخلص في تزكية الأنفس.
- محمد الغزالي: خلق المسلم.
- محمد حسين: أسماء الله الحسنى.
- يحيى بن شرف الدين النووي: شرح صحيح مسلم.
- يوسف القرضاوي: أخلاق الإسلام.