كثيرة هي الكتب والمقالات والنظريات التي نُشرت بهدف توجيه الأهل والمربين إلى الأساليب والآليات المثلى لتكوين شخصية الطفل وبناء الدعائم والركائز التي تجعل من هذه الشخصية شخصية قوية سوية، إلا أن ما وجدناه في سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – يضيء الطريق ويرشد التائه ويمسك بيده ليصل به نحو تربية إسلامية مثلى، وبالتالي شخصية إسلامية متميزة ومن ثم جيلا إسلاميا بإذن الله، وهذه باقة من التوجيهات النبوية العطرة على نقدمها للمربين لتكون لهم زادًا في مشوار التربية الصحيحة القويمة بإذن الله.
إنشاء البناء الإيماني منذ الصغر
يقول الحبيب – صلى الله عليه وسلم -: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع) ، فسن السابعة وحتى الثانية عشر تقريبا يعدها الاختصاصيون السن التي تتشكل فيها القيم لدى الإنسان، ولكن وللأسف فإن الكثير من المربين لا يستثمرون هذه الفترة استثمارا جيدا بحجة أن الأبناء ما زالوا صغارا، فإذا دخلوا سن البلوغ أصبح من الصعوبة بمكان إقناعهم بأداء الصلاة أو ربما احتاج الأمر لأن يبذل المربي جهدا كبيرًا لذلك.
منح الطفل الحب والحنان والتواضع له
فمن المقومات الأساسية لبناء شخصية الطفل منحه الحب والحنان وإشباعه عاطفيًا ونفسيًا، والمربي الذي ينقصه الحنان والذي يبخل بالابتسامة ولا يعرف كيف يمسح على رأس الطفل أو يأخذه بين أحضانه، لا يصلح للتربية والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: (ليسَ منّا من لَم يَرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا)، وقد قبَّل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الحسن والحسين وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا قط. فنظر إليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: (من لا يَرْحَم لا يُرْحَم)، وهذا الهدي النبوي يدل على حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يظهر المربي أمام من في عنقه أمانة التربية بمظهر الرحمة، بل إن المربي الناجح هو الذي يتصابى للصغير فينزل إلى مستواه ويلاعبه ويمازحه ولا يتكبر عليه ولا يطرده من مجلسه، فقد كانت الجارية الصغيرة تأخذ بيد النبي – صلى الله عليه وسلم – فتنطلق به في طرقات المدينة فلا يمنعها، ويركب الحسن والحسين على ظهره الشريف فلا يمنعهما، يأكل معهما ويعلمهما آداب الطعام، وهذا لا ينافي الهيبة والوقار بل يزيدها، بما يلاقي المربي من أبنائه حينما يكبرون ليجد أمامه ثمرة تعبه ثمرة لذيذة من أبناء وبنات ليس بينه وبينهم حاجز نفسي، يصارحونه بمشاكلهم وما يدور في عالمهم وما يشغلهم فيسهل بذلك عليه حل مشاكلهم.
بناء الثقة بأنفسهم
إن الأطفال لهم مشاعر وأحاسيس ورغبات وأهواء.. والنبي – صلى الله عليه وسلم – بأسلوبه الرائع ملك أحاسيس الأطفال فكانت كلماته تقع مباشرة في قلوبهم، حيث كان – صلى الله عليه وسلم – يُنزِل الصغار منزلة رفيعة ويحترمهم ويشعرهم بذلك ويغرس فيهم صفات الرجولة مما يعزز ثقتهم بأنفسهم، فكان يقول لابن عباس- رضي الله عنه – وهو راكب خلفه على دابته:
(يا غلامُ، ألا أُعلِّمُك كَلماتٍ؟ احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استَعنتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعَت على أن ينفَعوك بشيءٍ لم ينفَعوك إلّا بشيءٍ قد كتَبه اللهُ لك، ولو اجتمَعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍٍ لم يضُرُّوك إلّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ علَيك؛ رُفِعَت الأقلامُ، وجَفَّت الصُّحُفُ.)، لقد تعامل معه – صلى الله عليه وسلم – كما يتعامل مع الرجال، فهذا التصرف يشعره بالأهمية والاحترام من جهة، ومن جهة وأخرى ينمي شعور الثقة بالنفس.
حثهم على التفكير
من الأساليب الحكيمة التي انتهجها الرسول – صلى الله عليه وسلم – في تعليم أصحابه وتربيتهم أسلوب التشويق الذي يحمل السامع على والتدبر والتأمل، وهذا الأسلوب من مميزاته أن المربي لا يقدم المعلومات مباشرة، بل عن طريق السؤال والجواب لجذب انتباه الأطفال وتشغيل فكرهم إلى معرفة الإجابة، وهذا ما فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – مع صحابته عندما سألهم: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟) فأخذ الصحابة يتحدثون عن شجر البوادي والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يؤيدهم وكان من بينهم عبد الله بن عمر وهو ابن عشر سنين قال: فوقع في نفسي أنها النخلة ولكني استحييت أن أقول وأنا صغير وفي الحضور كبار الصحابة.
ولما انتهى المجلس أخبر عبد الله أباه عمر رضي الله عنهما، فقال عمر: لو قلت ذلك لكان أحب إلي من حمر النعم. ومن هذا الأسلوب نلمس جانبا تربويا مهما، وهو اكتشاف مواهب الصغار، فهذا ابن عمر: الذي كان موهوبا في صغره أصبح من أفقه الصحابة في كبره.
تنمية إبداعاتهم
وأما الإبداعات وتنمية المواهب عند الأطفال فلها النصيب الوافر من التوجيهات النبوية، فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستخرج مكنونات وذخائر أصحابه الكرام، كلٌّ على قدر طاقته واستعداده وميوله، فلولا تربية الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما ظهر صدق الصديق، ولا عدل الفاروق، ولا حياء عثمان، ولا شجاعة علي، ولا حكمة أبي الدرداء رضوان الله عليهم أجمعين. فها هو – صلى الله عليه وسلم – يرعى موهبة الأطفال ويحملهم المسؤوليات كل حسب طاقته؛ فعلي ينام في فراشه ليلة الهجرة، وأسامة بن زيد يتولى جيشا فيه أبو بكر وعثمان جنود، ويثق في قوة حفظ زيد بن ثابت فيأمره بتعلم العبرانية والسريانية فيتعلمهما في أقل من سبعة عشر يومًا.
غرس القيم النبيلة
ومن التوجيهات النبوية الكريمة في تربية الأبناء، غرس القيم الفاضلة في نفوسهم عن طريق القدوة، فالأهل في نظر الطفل هم المثل الأعلى يقلدهم في سلوكهم وأقوالهم.. فالولد مهما كان استعداده للخير كبيرا ومهما كانت فطرته نقية فإنه لا يستجيب لأصول التربية الفاضلة إذا لم يكن المربي في قمة الأخلاق الفاضلة والمثل العليا.
فها هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسأل تلك المرأة التي كانت تنادي على ابنها وتقول له: تعال أُعْطِكَ، يسألها ماذا أردت أن تعطيه، فتقول تمرا، فيقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ( أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة) لأن الطفل في هذا الأسلوب يتعلم من أمه الكذب وعدم الوفاء بالعهد.
حفظ الأسرار
عن عبد الله بن جعفر- رضي الله عنه – قال: أردفني رسول الله – صلى الله عليه وسلم -ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثًا لا أحدث به أحدا من الناس.. ولا شك أن ائتمان النبي – صلى الله عليه وسلم – الطفل على سره يبني جسور الثقة في نفسه فيشعر بأهميته وأهمية ما يحمله من أسرار فيحفظ السر كما حفظه أنس- رضي الله عنه – عندما أرسله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتأخر عن أمه فقالت له ما حبسك؟ أي ما أخرك؟ فقال: إنها سر.. فقالت: لا تخبرن بسر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحدًا ، وأخفى أنس السر حتى عن أمه.
كيف يدخلون على الأهل
قال أنس رضي الله عنه: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهلك، بل يعلمهم – صلى الله عليه وسلم – ضوابط التسليم، فيقول: يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير.
مواساتهم والتخفيف عنهم
ومن هديه – صلى الله عليه وسلم – في التربية المداعبة والتعليم بطريق اللعب كما فعل مع ذاك الطفل الصغير الذي كان يلعب بعصفور يقال له النغير؛ فمات العصفور فحزن الطفل؛ عليه فأراد النبي أن يبعد عنه الحزن فمازحه بقوله: (يا أبا عمير ما فعل النغير)، وذلك من أجل التخفيف عن هذا الصغير الذي فقد عصفوره.
نعم هكذا كان منهجه – صلى الله عليه وسلم – في تربية الأطفال، وهذا غيض من فيض ولا يمكننا حصر المنهاج النبوي التربوي في هذه العجالة، ولكن يمكننا القول أن من ثمار هذه التربية الفذة أن نشأ جيل مثالي حقا في إيمانه وتفكيره وأخلاقه ومعاملاته.
عدم لومهم وتوبيخهم
وهناك أمر تربوي آخر نستقيه من معاملته – صلى الله عليه وسلم – مع الأطفال، أنه ما كان يكثر من اللوم والعتاب على تصرفات الأطفال فهذا أنس- رضي الله عنه – يخدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر سنين ويقول: (ما كان يقول لي لشيء لِمَ فعلته ولا لشيء لم أفعله لِمَ لَمْ تفعله)، الأمر الذي زرع في نفس الطفل (أنس) دقة الملاحظة وروح الحياء بحيث لاحظ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا السلوك العظيم.
العدل بين الأبناء
أثر عن أنس- رضي الله عنه – أن رجلا كان عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، وجاءت بنت له فأجلسها بين يديه فقال النبي – صلى الله عليه وسلم: (ألا سويت بينهما).. بل كان – صلى الله عليه وسلم – يوصي بالبنات ويبين منزلتهن في الإسلام فيقول- صلى الله عليه وسلم -: (لا تكرهوا البنات فإنهن المؤنسات الغاليات).