تعتبر التربية الإسلامية أن التمسك بالأخلاق الفاضلة أساس لبناء الفرد وصلاح المجتمع، والإصلاح النفسي هو أساس الإصلاح العام الذي ينشده الإسلام، فالنفس المختلة تثير الفوضى في أحكم النظم، والنفس الكريمة تحسن المسير وسط الأنواء والأعاصير، وصدق الله القائل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11].
والجانب الخلقي الرباني يعتبر من أهم ما تتمايز به التربية الإسلامية عن التربية الغربية التي ركزت جل اهتمامها على وسائل الحياة وأهملت الغايات والمقاصد، واستهدفت المواطن المنتج أكثر من المواطن الصالح المصلح، مما أوقع هذه المجتمعات في أزمة أخلاقية تتحمل مسؤوليتها التربية الحديثة، وعندما اقتنع الغرب بأن يُعمل عقله في تحديد التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان الغربي وقع في مشكلة عدم اتفاقهم على تلك الأخلاق في تحقيق المنفعة، الأمر الذي جعل القيم الأخلاقية تختلف عندهم من بلد إلى بلد ومن مجتمع إلى آخر وجعل تصور طريقة تدريسها أمرًا ليس في متناول الجميع (ونفصل الحديث في هذه النقطة في موضوع قادم إن شاء الله).
والإسلام ينظر إلى النفس على أنها فطرة طيبة ترمي إلى الخير، ولها نزعات طائشة تزين لها الشر، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس 7، 8] والإسلام جاء ليحترم الفطرة الخالصة ويكبح الأهواء الجامحة، وأمر بالعبادات لتدعيم الفطرة وترويض الهوى، ومجتمع بلا عقيدة هو مجتمع بلا أخلاق، فالخلق هو الدين كله وهو الدنيا كلها، وإنما تنهض الأمم بفضل رجال ملكوا نفوسا قوية وعزائم صادقة وأخلاقا حميدة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في كل خلق حسن؛ فقد كان دائم البشر، سهل الطبع، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا عتاب ولا مداح، لم يسأله أحد شيئا ورده خائبا.
وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم الغاية الأولى من بعثته فقال: “إنَّما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ”. وعندما سئلت السيدة عائشة عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: ” كان خُلُقُه القُرآنَ “.
ومن الأمور التي تهدف إليها فرائض الإسلام وتكاليفه أن يتعود المسلم أن يحيا بأخلاق صحيحة متمسكا بها مهما تغيرت الظروف، فالصلاة “تَنْهَى عَن الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَر”، والزكاة “تطهرهم وتزكيهم بها”، والصوم “إنما الصيام من اللغو والرفث” .. فالعبادات هي مدارج الكمال المنشود فإذا لم يستفد منها المرء ما يزكي نفسه فقد هوى.
والله عز وجل أثنى على نبيه بحسن الخلق فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وأمره بمحاسن الأخلاق، والبر حسن الخلق وهو أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، وهو أكثر ما يدخل الناس الجنة، والخلق القوي هو الضمان الخالد لكل حضارة.
تعريف الأخلاق
أولًا: التعريف اللغوي: الأخلاق جمع خلق وهو (الطبع) أي الصفة التي جبل الإنسان عليها، وهو (العادة) أي الصفة التي اكتسبها الإنسان بإرادته، وهو أيضا (السجية) وهي كل ما صار للإنسان عادة سواء أكان مطبوعا أو مكتسبا، وكذلك من معانيه المروءة والدين.
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
هناك تعريفات كثيرة لعلم الأخلاق خلاصتها أنه: (علم يبحث في الفضائل وكيفية اكتسابها، والرذائل وكيفية اجتنابها، ويوضح المقياس الذي تقاس به أعمال الإنسان الإرادية، مع تحديد مسئولية الفاعل وجزائه، وغايته تحقيق السعادة والأمن النفسي في الدنيا والآخرة).
وهناك ارتباط وثيق بين الأخلاق والإيمان، وأي تقصير في أحدهما يؤثر على الآخر: “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا”.
الطابع الشخصي للمسئولية الأخلاقية
المسئولية الأخلاقية والدينية مسئولية شخصية بحتة. قال تعالى: “مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)” الإسراء. ويتضح من هذا أنه لا يمكن أن يحدث في مجال الثواب والعقاب أي تحويل أو مشاركة أو التباس، وعلى ضوء ذلك تم حل قضية خطيئة آدم ومزاعم النصارى حولها، وكذلك فالإنسان مسئول عن كل مبادرة حسنة أو سيئة يكون لها آثار تتجاوز حدودها أو نتائجها المباشرة، وفي الحديث: “من سنَّ سنةً حسنةً فله أجرُها ما عملِ بها في حياتِه، وبعد مماتِه حتى تُترَكَ، ومن سنَّ سنةً سيئةً فعليه إثمُها حتى تُترَكَ، ومن مات مُرابطًا جرى عليه عملُ المرابطِ حتى يُبعثَ يومَ القيامةِ”. وكذلك نحن مسئولون عن تصرفات غيرنا حين نتركهم يسيئون دون أن نمنعهم. قال تعالى: “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)” المائدة.
وحول موضوع الشفاعة: ليست الشفاعة تدخلا خارجيا يتغير مصير المشفوع له بناء عليه، فهذا المعنى من صميم الوثنية العربية وقد صوبه القرآن الكريم. قال تعالى: ” وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)” الرعد. والمفهوم الإسلامي للشفاعة هو: (أن الشفيع لا يسمح لنفسه بالتدخل من تلقاء نفسه، ولا يقترح التدخل، وإنما هو الله الذي بيده الأمر وهو الذي يأذن بالكلام، والشفيع لا يتدخل إلا من أجل من يرتضي الله قبوله، والشفيع لا يستند إلى جاهه وإنما يتوسل ببعض حسنات المشفوع له) فالشفاعة تسبغ شرفا مزدوجا للشافع والمشفوع له وهي ليست دائما موفقة، كما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: “أنا فَرَطُكم على الحَوضِ، وليُختلَجَنَّ رِجالٌ دوني، فأقولُ: يا ربِّ، أصحابي! فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدري ما أحدَثوا بعدَك”.
النية وأثرها في العمل
أمر آخر إلى جانب المعرفة يحدد مسئوليتنا عن العمل وهو الإرادة كعنصر تكويني شخصي، والعمل الإرادي الذي انعقدت عليه النية هو وحده الذي يستتبع المسئولية الأخلاقية، وكذلك من الضروري أن يكون العمل الإرادي متصورا في ذهن صاحبه وبنفس وجهة النظر التي تصورها عنه المشرع، يقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:225]، فالعمل الإرادي الذي انعقدت عليه النية هو وحده الذي يستتبع المسئولية الأخلاقية.
والخلاصة أن العمل المنوط بالمسئولية هو العمل الذي تكون فيه النية كاملة وأن يتناوله الفاعل من نفس الجانب الذي من أجله تقررت الإجازة أو التحريم أو الوجوب، فالنية شرط ضروري للمسئولية وهي أحد مكونات الضمير الأخلاقي الثلاثة: (المعرفة والإرادة والعمل).
أسس المسئولية الأخلاقية
يعلمنا القرآن أن أحدا لن يحاسب على أفعاله ما لم يكن قد علم بالأحكام مسبقا وهذه الأحكام مسجلة في قلوبنا وضمائرنا، ولا خلاف على هذه المسئولية الشاملة التي تستند إلى هذا الإلزام الفطري، غير أن الخلاف قائم حول حدود هذا العلم.
وفيما يتعلق بالمسئولية الاجتماعية يقرر الإسلام أنه لا عذر لأحد بالجهل في دار الإسلام، وقد قيد الفقهاء هذا المبدأ بحيث ينطبق على المسلمين بالميلاد الذين يعيشون في مجتمع يمارس واجباته الدينية، ويطبق على القواعد العامة لا التفصيلات التي لا يدركها غير المختصين، أما فيما يخص المسئولية الأخلاقية والدينية فإنها لا تقرر إلا حسب حالة الضمير الفعلية بشرط ألا يزيغ هذا الضمير عن الهدى مختارا، أما في حالة النسيان فقد عفا الله عن المخالفة.
والخلاصة أن المسئولية لا تتقرر ولا تجد مبررها في الإسلام إلا بشروط: الأول: أن تذاع شريعة الواجب، الثاني: أن يعرفها كل ذي علاقة بها، الثالث: أن تكون حاضرة في ذهنه وقت إنجازه العمل.
الحرية
وهي الشرط الرابع من شروط المسئولية، وقد أثارت الحرية منذ القدم صراعا بين مذهبين؛ حول كونها وهما أم أن الإنسان يمتلك ميزة الاختيار الحر، وقد انتقل هذا الاختلاف إلى تراثنا الإسلامي أيضا.
وحول المسئولية الأخلاقية من وجهة نظر الطرفين؛ يراها دعاة الحتمية غير موجودة عند الإنسان بينما يؤكد خصومهم أنها موجودة في كل مكان فيه قرار منعقد عليه النية، مهما تكن درجة إكراه الطبيعة المادية أو الاجتماعية أو النفسية حتى وإن بدا هذا الإكراه في ظاهره غير قابل للمقاومة.
وما يهمنا في الجانب الأخلاقي الطريقة التي يتصور بها الإنسان عمله؛ نيته وقصده، فبمجرد أن نلجأ إلى تبني القرار واعتماد تنفيذه نصبح متضامنين مع فاعله الحقيقي فإذا لم نكن السبب الأخلاقي للعمل في ذاته جوهرا وصفة فنحن هذا السبب من حيث تكييف هذه الصفة، ونرى القرآن الكريم يعلن مسئوليتنا أمام الله في نفس الآية التي تبدو فيها الإرادة الإنسانية تابعة للإرادة الإلهية تبعية كاملة. قال تعالى: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)” النحل. وهكذا رأينا أن الشروط اللازمة والكافية لقيام المسئولية أمام الله وأمام أنفسنا هي أن يكون العمل شخصيا إراديا بوعي كامل وعن معرفة بالشرع ودون إكراه.
المراجع:
- إيمان عبد المؤمن سعد الدين: الأخلاق في الإسلام.. النظرية والتطبيق.
- محمد الغزالي: خلق المسلم.
- محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن.