السؤال
ابنتي في الصف الثاني الابتدائي، تعاني من مشكلة، تقول لي: “يا ماما، أنا أريد أن أكون دائمًا متفوقة بنسبة 100%”، يعني إذا كانت تحفظ القرآن وأخطأت في خطأ واحد، تظل تبكي، أو إذا وجدت من هو أكثر تفوقًا منها؛ تحزن وتتوتر جدًا. فأشعر دائما أنها تريد المثالية الدائمة
الأمر الثاني، والذي أعتبره أخطر مما سبق، يأتي عليها وقت تكون فيه في قمة العصبية وتقول لي: (أنا أريد أن أعض أحدًا أو أضرب أي شخص أو أقتل أحدًا)! لا أعرف لماذا يأتي لها هذا الإحساس!
وبالإضافة إلى ما سبق، فهي تقول لي: (أنا أريد أن أكون ملكة، والناس جميعًا يعرفونني).
الرد
السائلة الكريمة، أهلا بكِ ضيفةً على موقع المنتدى الإسلامي العالمي للتربية وصفحاته على وسائل التواصل.
من المؤكد أنكِ سمعتِ عن الكمالية، وهي السعي إلى المثالية في جميع الأشياء، فكون ابنتكِ تريد أن تكون 100% في كل حياتها، وكونها تبكي حينما تخطئ، وكونها تكره أن يسبقها أحد، وكونها تريد أن تكون ملكة، كل هذا مؤشر على وجود الكمالية عندها بشكل أو آخر، وهو أمر يعاني منه الكثير خصوصًا في الدول العربية.
الكمالية يتشربها الأطفال منا؛ طريقة تربيتنا لهم عليها عامل كبير؛ كيف يرانا الأطفال؟ هل نحن الكبار رحماء مع أنفسنا في أهدافنا؟ هل نتقبل الخطأ والتقصير والأداء غير الممتاز في شؤون حياتنا؟ هل نسمح لأنفسنا نحن الكبار بأخذ قسط من الراحة أثناء إنجاز المهمات أو بعدها، أم يعلو صوت تأنيب الضمير لدينا؟ هل نتقبل أنصاف الحلول؟ هل نؤجل الأمور لأننا لن نستطيع تقديم شيء مبهر؟ هل نعترف أمام الأطفال بمحدوديتنا، وتقصيرنا، وأنه من الطبيعي أن نخطئ؟ هل نضع معايير عالية، وتوقعات غير واقعية من أطفالنا؟ نريدهم مهذبين تمامًا، أذكياء جدًا، منضبطين للغاية، متعلمين فوق الممتاز!
نعم ننشد في أنفسنا وأبنائنا معايير غاية في الارتفاع بلا رحمة لأنفسنا ولهم، غير آخذين في الاعتبار محدودية قدراتنا حتى وإن تميزنا؛ فالقصور طبع في البشر، وكما يقولون “الكمال لله وحده”، فما أوتينا من مهارة حتمًا سيعترينا القصور، فنحن بشر!
إذًا المنشأ بدايته أنفسنا وتأثيره يمتد على أطفالنا بوعي أو بدون وعي، ويستمر سلسال الكمالية التي يظنها البعض أمرًا جيدًا، ويفهمها خطأً على أنها إتقان العمل، نعم، إتقان العمل عبادة، “إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ”، لكن ليست هذه هي الكمالية؛ فإتقان العمل يستوجب اعترافنا ببشريتنا، وتوكلنا على الله، لا توكلنا على مهاراتنا، كما يستلزم وضع أهداف معقولة، وأهداف صغيرة، أو تجزئة الأهداف الكبيرة إلى أهداف صغيرة حتى نشعر بالإنجاز وننتقل من مهمة إلى مهمة برضا وسلاسة.
فلو وضعتِ هدفًا مثل إتقان اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، فلا نصيغ الهدف هكذا فقط، فالأشخاص المصابون بداء الكمالية عند حصولهم على درجات دون المتوقع في أول اختبار، ربما لا يكملون طريقهم نحو الهدف.
بينما إن جزأناه إلى أهداف صغيرة، كإجادة التحدث، إجادة الاستماع، إجادة الكتابة، إجادة القراءة، ونترجم الإجادة هنا إلى درجات واقعية فمثلًا يكون من المرضي في البداية الحصول على علامات مثل 7/10 وليس 10/10، حتى لا نشعر بالإحباط الذي ينتهي عند أغلب الكماليين بتوقف السعي، وهو الوجه القبيح للكمالية: إما الدرجة النهائية أو لا سعي.
فتجد أغلب المتصفين بالكمالية لديهم مشكلة حقيقية في الإنجاز، فإما أن أكون على أكمل وجه أو لن أعمل؛ كما أن لديهم مشكلة حقيقية في تقدير الذات، فيرى قيمة نفسه فيما أنجز، فإذا لم ينجز انخفض تقدير الذات لديه؛ التفكير الخالي من المنطقة الرمادية، فإما أبيض أو أسود؛ لديهم نقد للذات عالٍ جدًا؛ يعانون من القلق والتوتر الشديدين، وهو ما يترجم في حالة ابنتكِ بأنها تريد أن تضرب أحدهم وخلاف ذلك؛ يصبحون أشخاصًا حساسين ويعانون من قلة الأصدقاء لأن الجميع دون المستوى في وجهة نظرهم؛ يعانون من التفكير الزائد، “ظل يفكر ويفكر” فعطل العمل من فرط التفكير؛ لا يعترفون بإنجاز مهمة تمت على وجه السرعة، فيشك في جودتها لأنه تعود أن يتعب جدًا على الأشياء، فيتعجب كيف تمت هكذا بسهولة؟ فيفكر أنه بالتأكيد ثمة نقص حادث؛ وفي الأغلب لا يتمتع هؤلاء الأشخاص بالتفويض، فلديهم شك في قدرات الآخرين وهذا أيضًا مما يعطلهم في إنجاز المهمات، فواقعيًا لن يستطيع الفرد إتمام كل المهام بنفسه.
إذًا؛ هناك وجه حسن بعض الشيء للكمالية إذا ما ترجم لإتقان العمل، نعرف أنه وجه حسن كلما اقتربنا من أهدافنا، والوجه الآخر السلبي لها قد وضح فيما قدمنا من بعض مظاهره في الفقرة السابقة.
السؤال الآن: لماذا مع كل هذه العيوب يسعى الأشخاص للكمالية؟
الإجابة ببساطة “سحر المدح“، وهو ما يبرز بشدة في المدارس، فتجد المدرسين يقدرون بشدة الطالب ذا الدرجات النهائية، والطالب الذي لا تحتوي قطعة الإملاء لديه على أخطاء كتابية، واللوحة المرسومة بإتقان شديد فلا أثر لممحاة أو ظل قلم رصاص، بل ربما تكون مظاهر الإتقان الشديد هذه دليل على مساعدة أحدهم له؛ فيغفل المعلم عن التعليق على ذلك، ويظل يمدح في جمال الخط والكراسة، فيتولد داخل الطفل شعور بالحاجة إلى المزيد من كلمات الإطراء هذه، والحاجة إلى التقدير هي من الحاجات الأساسية لدى البشر.
في المقابل يرى الطفل التعليق على لوحة زميله المتميزة بحسب سنه، تعليقًا باهتًا، ويسمع تأنيبًا من المدرس للطالب الدائم التفوق، كيف وقد حصل اليوم على 9/10، فيغذي لديه الشعور الخاطئ أن 10/10 هي الجلابة للمدح، ودونها سيستمع إلى قدح، فيهلك نفسه حتى يظل في هذا الموضع وهذا المقام، وربما قد يتصرف تصرفات غير أخلاقية كالغش والكذب والخداع للحصول على النجمة، والتقدير العالي.
فما الحل إذًا؟!
البداية عندنا نحن الكبار
- نرحم أنفسنا حين نخطئ، فيتعلم الأطفال من ذلك أنه من الطبيعي أن نخطئ، بل ربما نخطئ في التسميع عن قصد بما لا يخل بالمعنى، ونترك أبناءنا يصححون لنا ونقابل ذلك بعدم التوتر، فبدورهم ستجدهم يخطئون ويقبلون.
- أن يكون التركيز على ما تحسَّن الطفل فيه لا على ما نقص في العمل؛ بمعنى آخر، يكون التركيز على الجهد وليس النتيجة، فحينما تطلبين من ابنتك ترتيب الغرفة، مثلًا، نتذكر أنه في الأغلب الأعم يماطل كثير من الأبناء في ذلك، وعليه، فحينما نتابع المهمة علينا أن نمدح ما تم إنجازه، ونطلب إتمام المتبقي بدلًا من أن نعلق على الناقص فقط؛ فامدحي أنها رتبت السرير والمكتب، وتبقى لمّ الألعاب وترتيب الأغراض على الأرض؛ فذكر التقصير فقط سيجعلها تحبط ويتأكد لديها مفهوم الأبيض والأسود، فلا مناطق رمادية في الحياة، فإما أو، ولا مكان للوسط في الأمور.
- يجب أن نُسمع أبناءنا أنه لا أحد مثالي، كل ابن آدم خطّاء، ولا نتوقع منكم أن تكونوا مثاليين، بل إن الأخطاء فرص للتعلم، فحينما تخطئ وبالتأكيد ستفعل ذلك، لا نقابل الخطأ باللوم، بل نقول إنها فرصة لتعلم شيء جديد، ولزيادة خبراتنا في الحياة.
- الابتعاد عن الأسلوب الصارم في التربية، ومقابله الأسلوب الذي يتسم بالحزم مع الحنان، الأمر يحتاج إلى تذكر أهدافنا في الحياة، والتحلي بالصبر وعدم مقارنة أبنائنا بغيرهم من الأطفال.
- تعديل مفهوم الخطأ لديهم، فكثير من الأطفال إذا لم ينجحوا في عمل شيء يوصمون أنفسهم بالفشل فيدبدبون في الأرض ويقولون: “أنا فاشل!”، والصحيح أن نعلمهم أنه فشل مرة، فالفشل هنا مؤقت، يختلف الأمر في أن يَصِمَ نفسه بالفشل، فهذا الأسلوب سيجعله يسوف حتى لا يقع في شعور أنه فاشل، عوديها على قول “محاولة فاشلة/تجربة تعلمنا منها”، المرة القادمة سأنجح بإذن الله.
- علينا أن نعود الأبناء أنه من الطبيعي أن نحصل على قسط من الراحة، فالمتصفون بالكمالية تجد أن لديهم جلدَ ذات في أوقات الاسترخاء والإجازات، فقد اعتادوا على ربط قيمتهم بالإنجار والإنتاج، فتصحيح هذا المفهوم يبدأ من تصرفات الكبار، فتقدير يوم الإجازة وعدم ملئه بجدول المهمات هو أمر ضروري في إيجاد قدوة عملية.
- لا بد أن نعلم الأبناء معنى “تفويض الآخر” في إنجاز المهمات وأن نكون قدوة لهم في ذلك، وهنا ستظهر قيمة الإحسان وتتجلى في المنتج النهائي، فمهما احترف شخص في عمل ما، ستقع منه تفصيلة رغمًا عنه، خصوصًا في الأهداف الكبيرة، بينما تفويض آخرين في المهمات سيكون الناتج الكلي مُرضيًا وإن أتى بالنقص، فيكفي أن أحدهم لم يصل إلى حد الإنهاك حتى يحصل على 100% (فالأشخاص أهم من الأشياء).
نفعلها كثيرًا نحن الأمهات، فنقوم بترتيب المنزل على أكمل وجه بمفردنا قبل العيد، فيأتي الأطفال يريدوننا أن نلعب معهم، النتيجة أن طاقتنا كلها أهدرناها في الوصول إلى الكمالية في التنظيم والترتيب، بل الأسوأ من ذلك، أن نمنع الأطفال أنفسهم من حقهم في اللعب حتى لا يضيع جهدنا هباء؛ فهل إذا أتممنا العمل بجهود مشتركة وبنتيجة معقولة لنتفرغ للأعمال الأخرى، ألن يكون ذلك في مصلحة الأبناء أكثر وأكثر؟
إذًا؛ البداية منا نحن الكبار، وبحسب ما نفعل يكون أبناؤنا، وبمجرد أن نتحسن ونغير طريقتنا ستنضبط بوصلة الأبناء تلقائيًا.
فارفعي شعارًا مختلفًا في التربية، عماده:
- نعم للخطأ وألف ألف مرحب به.
- الإنسان أهم من الأشياء.
- التركيز على الأهداف الصغيرة، وتقسيم الكبير منها إلى أهداف صغيرة.
- التركيز على المجهود لا النتيجة.
- مدح التصرف لا مدح الشخص.
- القبول بالنقص والفشل وعدم وصم النفس أو الطفل بأنه فاشل.
- قبول أبنائنا في جميع أحوالهم، فلا يرتدون ثوبًا ليس من ثيابهم حتى ينالوا التقدير.
- وأولاً وآخرًا الاستعانة بالله، فنحن ما إلا وسيلة في حياة أبنائنا، والله وحده يصنعهم على عينه، فرفقًا بهم وبأنفسنا، وما كان من أخطاء في الماضي أدت إلى هذه النتيجة، فكوني على يقين أنه بمجرد النية في التغيير يفتح الله لك شتى السبل.
ومن المهم أن نذكرك أن مرحلة إدراك موطن الخلل بقدر ما تنطوي على صعوبة في التصديق بقدر ما يكون معها الأمل أننا وضعنا أيدينا على موطن الخلل، فلا داعي للإزعاج، ولا داعي لوصم ابنتنا وتكرار كلمة الكمالية على مسامعها، فيكفي أن تشتغلي على تعديل المفهوم في نفسك إن وجد، وفيها من غير كثير كلام، فيصلح الله ما بين يديكِ بإذنه تعالى.