فضل العشر الأواخر من رمضان
لا تزالُ قوافلُ العابدين الطامعين في العفوِ تسيرُ
قد حَمِيَ السباقُ وجَدَّ المسيرُ
قَرُبَ انقضاءُ ثُلُثَيِ الطريقِ
واقتربتْ نهايتُه
وكعادةِ كلِّ سباقٍ
يصيرُ أشدَّهُ آخرُهُ
والعبرةُ بالخواتيمِ
فمعَ البداياتِ يكثرُ المقبلون
ويَبِينُ مع الأيامِ الساقطون على جَنْبَيِ الطريق
ويبقى هؤلاءِ الخُلّصُ الذين ثبَتوا للنهايةِ
ليست غايتُهم كسباقِ العَدْوِ بلوغَ خطِّ النهايةِ
وإنما بلوغَ عفوِ ربِّ الأربابِ
والفوزَ بالعتقِ ودخولَ الجنّاتِ
وتهذيبَ النّفْسِ وتقييدَ الشهواتِ
وتحريًا ليلةً هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ
فهلموا وشمروا لهذه العشرِ المباركات
عشرٍ مفضّلاتٍ داخلَ شهرٍ فضيل
واجعلوا من هدْيِ النبيِّ في الثلثِ الأخيرِ من رمضانَ دليلًا
فبعدَ عشرين يومًا يخالطُهم نومٌ
يبدأُ عشرُ الاجتهادِ والتشمير
كان صلى اللهُ عليه وسلم يُحيِي ليلَ العشرِ الأواخرِ من رمضان
وما أحيا رسولُ اللهِ ليلةً كاملةً
إلا في رمضان
يُحيِيها بالقيامِ والذكرِ والقرآنِ
وما كان يُحييها منفردًا
وإنما اعتادَ أنْ يُوقظَ فيها أهلَه
حرصًا على عدمِ فواتِ فضلِ هذه الأيام
(ألا تقومان فتصليان)
هكذا كان حَثُّه فاطمةَ وعليًّا لإحياءِ هذه العشر
ما فات كان فيه رسولُ اللهِ مقبلًا
في الوقتِ الذي كان فيه مُدبرًا مُنقطعًا عن كلِّ الشهوات
وصفت أمُّ المؤمنين عائشةُ حالَه بأنَّه
(إذا دخلَ العشرُ شدَّ رسولُ اللهِ المئزَرَ- وهو الإزار-)
أي اعتزلَ زوجاتِه
شمَّرَ واجتَهدَ
هجرَ النومَ
عكفَ على العبادةِ
فما تركَ رسولُ اللهِ الاعتكافَ إلا أنْ يكون خارجًا لجهادٍ
ظلَّ على هذه الحالِ حتى قُبضَ
يقولُ الإمامُ الزهريُّ
(عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكافَ مع أنَّ النبيَّ ما تركَه منذُ قَدِمَ المدينةَ حتى قبضَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ)
ولمّا كان العامُ الذي قُبِضَ فيه
اعتكفَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ عشرين يومًا
لما علمَ منِ انقضاءِ أجلِه في هذا العام
فأحبَّ أن يستكثرَ من الخيرِ
مُعلمًا أمتَه الاجتهادَ إذا ما بلغوا أقصى الأعمالَ
والاعتكافُ إنما يقطعُ عن فضولِ كلِّ شيءٍ
فضولِ الصحبةِ، فضولِ النومِ، وفضولِ الكلامِ
فتقلُّ علائِقُكَ وتزدادُ خفةً
ويزيدُ قلبُك للهِ تقربًا
فاحرصْ عليه في كلِّ العشرِ
فإن لمْ يكنْ، ففي لياليها الوتريةِ
وإن لم يكنْ كلَّ الليلِ فجزءًا منه
وإن لم تستطع، فلا يفوتَنَّكَ الاعتكافُ بالنهارِ
كنْ دؤوبًا .. حتى تبلغَ ليلةَ القدرِ
الليلةَ التي يُفرقُ فيها كلِّ أمرٍ حكيمٍ
حين تقدَّرُ فيها مقاديرُ الخلائقِ للعامِ
تُنقلُ من اللوحِ المحفوظِ إلى الكَتَبَةِ
فتبين للملائكة
الليلةَ التي هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ
سُميتْ بالقدْرِ لعُلُوِّ قدْرِها ومكانتِها
ولِعِظَمِ أجرِ المُؤمنِ القائمِ فيها
فماذا بعدَ مغفرةِ كلِّ ما فات من الذنوبِ في ليلةٍ واحدة!
قال مُعلمُ الخُلُقِ الخيرَ:
(من قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه)
الليلةَ التي نزلَ فيها القرآنُ العظيمُ
من اللوحِ المحفوظِ إلى بيتِ العزةِ من السماءِ الدنيا
إن كنتَ لا تدركُ عِظَمَها
فَاتْلُ مِرارًا: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.. إلى أن تدرِكَها
الليلةَ التي تتهيأُ فيها الأرضُ لزوارِ السماء
يتنزلُ فيها سيدُ الملائكةِ جبريلُ- عليه السلامُ- مع غيرِه من الملائكةِ
فتعُمُّ السكينةُ والرحمةُ ويكثُرُ الخيرُ
قال الله تعالى: {تتَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ}
فانظر كيف تحبُّ أن يكونَ حالُك
حين يتنزلُ الملائكةُ العابدون وسط أهلِ الأرضِ
الليلةَ التي فيها من البركةِ ما قالَ اللهُ عنها:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}
وفيها من السلامِ ما أخبرَ به ربُّ العزةِ فقال:
(سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ
حيثُ يَسْلَمُ فيها عبادُ اللهِ من عذابِه حين يقومونها
من خسرَ قيامَها محرومٌ، كما وصفَه رسولُ الله:
(من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ)
هي ليلةٌ خيرُ ما يُقالُ فيها:
(اللهم إنك عفوٌّ كريمٌ تحبُ العفوَ فاعفُ عنا)
يتحراها المؤمنُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ
فقد قالَ خيرُ من ذَكرَ اسمَ ربِّه فصلى:
(تَحَرَّوْا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ)
(لتاسعةٍ تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى)
رُفِعَ العلمُ بها لما رَأَى رسولُ اللهِ من تشاحنِ رجلين من المسلمين
فلا تشاحنوا ولا تنازعوا، فهذا شُؤمٌ يرفعُ الخيرَ
بل جِدّوا العزمَ كما فعلَ سلفُنا الصالحُ
كانَ الإمامُ قتادةُ يختمُ القرآنَ كلَّ سبعِ ليالٍ
وفي رمضانَ كلَّ ثلاثٍ
أما في هذه العشرِ فكانَ يختمُه كلَّ ليلةٍ
كانوا يُعلقونَ آمالَهم على عفوِ اللهِ وتطهيرِه إياهم
فكان بعضُهم يغتسلُ كلَّ ليلةٍ من ليالي العشر
لتَكْمُلَ بذلك طهارتُه
كانوا طامعين في تجديدِ عهودِهم مع اللهِ
فكانَ بعضُهم يلبَسُ ثوبًا جديدًا في هذه الليالي العشر
كانوا يوقظون أهليهم تأسيًا برسولِ الله
حتى إنَّ ابنَ عباسٍ كان ينضحُ في وجهِ أهلِه الماءَ في الليالي الوتريةِ
وانتبهتْ امرأةُ حبيبٍ العَجَمِيِّ ليلةً وهو نائمٌ
فأنبهتْهُ للسَّحَرِ قائلةً:
قد ذهبَ الليلُ، وجاء النهارُ
وبين يديْكَ طريقٌ بعيدٌ، وزادٌ قليل
وقوافلُ الصالحين قد سارتْ أمامَنا
ونحنُ قد بقينا
فيا راقدًا بالليلِ كم ترقدُ …… قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذْ من الليلِ وأوقاتِه …… وِرْدًا إذا ما هَجَعَ الرُّقَّدُ
من نامَ حتى ينقضي ليلُه …… لم يبلغِ المنزلَ أو يجْهَدُ
قُلْ لذوي الألبابِ أهلِ التقى …… قنطرةُ الحشرِ لكم موعدُ