الأسرة هي الخلية الأساسية في المجتمع، وهي بمثابة المحضن التربوي المتدفق الذي لا ينضب في حياة أفرادها، ومن هنا فإن الحلقات الأسرية ضرورة اجتماعية تؤصل التعاون والتفاهم والتراحم بين الأفراد بهدف استمرارية الحياة بشكل آمن ومطمئن.
وتجمع الأسرة بانتظام يَحمل الكثير من الانعكاسات النفسية الإيجابية على الأفراد، ويعد من أنجح الوسائل التربوية، التي يتربى عليها الجميع، ففيها التقارب الروحي، والاطمئنان النفسي، والتلاحم الأسري، ومبادلة المشاعر الصافية، والحب الخالي من الأسباب.
مفهوم الحلقات الأسرية
يعني مفهوم الحلقات الأسرية أو العائلية: اجتماع الجماعة الواحدة بعيدًا عن مشاغل الحياة، لمناقشة أو مُدارسة بعض الجوانب التي تخص الأسرة أو أحد أفرادها بهدف غرس مفهوم المسؤولية في وجدان الأبناء ومشاركتهم الرأي، أو تعليمهم بعض أمور دينهم وشؤون حياتهم.
وتزداد مهمة الأسرة وعملها يومًا بعد يومٍ في عصر العولمة وتهميش سلطات الأسرة والمدرسة والمجتمع والإغراء بالتمرد على الأعراف وتوسيع دوائر الحرية الفردية.
دوافع عقد الجلسات الأسرية وأهميتها
تأتي أهمية انعقاد الجلسات الأسرية والعائلية في وقت تغيّرت فيه ملامح الحياة بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي بما أصبح يهدد حياة الأفراد وتجمعاتهم الأسرية حيث أصبح يفتقدها كثير من الناس في خِضَم الانشغال بمشكلات الحياة والمصالح الدنيوية، وتناثر المساكن وابتعادها، إضافة إلى الابتعاد بالعكوف على الهواتف والأجهزة الحديثة، فنرى المجتمعين في المجلس بالأجساد كلٌ منهم مطأطئ رأسه على جهازه، وفكره وعقله يجول حول العالم.
وأسوأ من ذلك أن يتفرق أهل البيت الواحد كل منهم في حجرته وعلى جهازه، ولا يكادون يخرجون إلا للطعام، بعد تكرار النداء والجهاز لا يفارق الكف، يأكل بيد وبالأخرى يقلب الصفحات وهو أبكم أصم يمد يده للطعام وبصره في شاشته لا يتكلم من شدة اندماجه وشرود ذهنه، حتى أصبح واقعًا أليمًا تعيش فيه معظم الأسر من رب البيت لأصغر عضو فيها بما ينذر بتفكك الأسر وانهيار قيم المجتمع(1).
وتعد اجتماعات الأسرة إحدى أهم أساليب التربية الإيجابية فلا يوجد أهم وأفضل من اجتماع العائلة بشكل دائم، نظرًا لفوائدها الكثيرة، ومنها:
- تزيد من استشعار نعمة الأسرة، وترابط أفرادها، والدفء العائلي.
- تزيد من قوة علاقة أفراد الأسرة ببعضهم والتراحم والتلاحم وزيادة الحب والعاطفة بينهم.
- تهيئة جو أفضل وأقل توترًا، يستطيع فيه أفراد الأسرة أن يشاركوا الرأي بحرية، ويتحاورون من قلوبهم.
- تُساعد على تعلم واكتساب بعض العادات الصحية والتربوية الصحيحة من خلال الممارسة والمناقشة وعرض القضايا التي تواجه الفرد.
- وتزيد أهمية هذه الاجتماعات عندما يواجه أحد أفرادها مشكلة ما، فعندها يكون للاجتماع فائدة أكبر.
- يُعد فرصة للآباء والأمهات بمتابعة أولادهم من كثب، وملاحظة كل تغيير يطرأ على حالتهم النفسية، كما يتيح فرصة للآباء والأمهات بإظهار اهتمامهم ودعمهم لأبنائهم، وبخاصة في ظل الفتن التي تعج بها الحياة.
- في أجواء الجلسات العائلية تنتقل الخبرات عبر الأجيال، وتُصحح المفاهيم الخاطئة التي قد يلتقطها الأولاد، وتُلبَّى حاجاتُهم المُلحة، وتُقدم لهم التوعية في ظل المتغيرات المتسرعة.
- تساعد كثيرًا على اجتياز الإحباطات التي قد يتعرض لها أفراد الأسرة أو أحد أفرادها حينما يطرح مشكلته ويجري تعامل الجميع معها بشكل من الود والحب حتى يصلوا لحلول مشتركة(2).
آثار التفكك الأسري
وكما أن الحلقات الأسرية لها أهمية وضرورة اجتماعية، فإنه التفرق والتفكك الأسري يؤدي إلى العديد من الآثار السلبية على جميع أفراد الأسرة، وبخاصة الأطفال، ومن ذلك:
- يؤثر التفكك الأسري في العديد من القيم الحسنة الموجودة في المجتمع، كما يؤثر على مفاهيم المودة والرحمة والتعاون والمسامحة ومساعدة الآخرين.
- يُولّد إحباطًا شديدًا في نفس الفرد، ما يجعله يُوجّه اللوم للمجتمع؛ لعدم مساعدته على وقف الظروف التي أدت لتفكك أسرته كما يدفعه للتمرد على قيم المجتمع.
- ويُؤدي إلى ضعف شعور الأبناء بالأمان والاستقرار داخل الأسرة، كونهم لا يجدون مَن يجلس معهم ويرشدهم أو يصحح لهم أخطاءهم ويُوجههم إلى الطريق الصواب.
- كما يزيد من الحساسية المفرطة عند الأطفال، فيدفعهم إلى الانطوائية والأنانية(3).
الحوار الأسري في حياة النبي
إن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قدوتنا في كل شيء، فقد ترك نموذجًا عمليًا للتعامل مع جميع المواقف الحياتية ومنها الاجتماعات الأسرية حيث كان فيها مثالًا للزوج والأب.
وقد كان الرسول الكريم يتحاور مع زوجاته ويستمع لهن، وقد أفرد القرآن الكريم جزءًا من هذه الحوارات، سيما في سورة التحريم حين قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3].
وفي قصته مع ابنته فاطمة حينما جاءت تطلب منه خادمًا يعينها على مشاغل البيت، فردها مردًا جميلًا وأرشدها إلى ما هو خير لها في دنياها وآخرتها، وأيضًا ما رواه أنس بن مالك بقوله: “بلغَ صفيَّةَ أنَّ حفصةَ قالت: بنتُ يهودِيٍّ؛ فبكت، فدخلَ عليها النَّبيُّ- صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وهيَ تبكي، فقالَ: ما يبكيكِ؟ قالتْ: قالتْ لي حفصةُ: إنِّي بنتُ يهوديٍّ؛ فقالَ النَّبيُّ- صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: وإنَّكِ لابنةُ نَبِيٍّ وإنَّ عمَّكِ لنبيٌّ وإنَّكِ لتحتَ نبيٍّ ففيمَ تفخرُ عليكِ! ثمَّ قالَ: اتَّقي اللَّهَ يا حفصةُ” (رواه الترمذي).
وفي الحديث النبوي أن أحد الصحابة ذكر للنبي- صلى الله عليه وسلم-: “يا رسولَ اللَّهِ إنَّا نأكلُ ولا نَشبعُ قالَ: فلعلَّكُم تأكُلونَ متفرِّقينَ؟ قالوا: نعَم، قالَ: فاجتَمعوا على طعامِكُم، واذكُروا اسمَ اللَّهِ علَيهِ، يبارَكْ لَكُم فيهِ” (صحيح ابن ماجه، حديث حسن).
ويقول ابن عباس- رضي الله عنهما-: “بت عند خالتي ميمونة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- فتحدث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع أهله ساعة ثم رقد…” (البخاري).
واجتماع الأسرة بانتظام يحمل الكثير من الانعكاسات النفسية الإيجابية على الأفراد، ومن فوائدها أنها تجعل الأسرة تدرك اهتمامات الأب، ومشاغله وطرق تفكيره، وهذه الجلسات فرصة ثمينة لترسيخ القيم النبيلة، وربط الأبناء والبنات بالعادات والتقاليد الأصيلة، وتعليمهم مكارم الأخلاق والآداب، فقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستثمرها في التوجيه والتهذيب، والتعليم والتأديب، فيقول- صلى الله عليه وسلم- لغلام يأكل معه: “يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك”(4).
صور الجلسات العائلية
من المهم في الحلقات الأسرية الاستمرارية والديمومة فلا تقتصر على جلسة أو جلستين فحسب، مع تنوعها دون الوقوف على صورة واحدة قد تصيب أفراد الأسرة بالملل ومحاولة الفكاك من هذه الجلسات ومن صورها:
- الاجتماع على القرآن والعلم: وهي جلسة يجب أن يجتمع فيها جميع أفراد الأسرة من صغرهم ليتعلموا شيئًا من القرآن وآدابه وبعضًا من العلوم الشرعية والإجابة عن تساؤلات الأولاد التي تجول بخاطرهم.
- الجلسة على الطعام: وهي الأمور الاعتيادية التي يجب أن يستغلها الأب والأم ويحرصان على جمع أطفالها عليها واحترام مواعيدها، وبث الطمأنينة والحب في نفوسهم وإطعامهم بأيديهما كتعبير عن الحب وعدم السماح لكل فرد في الأسرة بالأكل منفردًا.
- الاجتماع على المناسبات: وهي أمور محببة للصغير والكبير كالأعياد أو نجاح الأبناء أو غيرها من المناسبات السعيدة التي يحرص الجميع على الاجتماع عليها.
- الرحلات والتنزه: فهي أمور تساعد على تجديد حيوية العلاقة بين الأسرة ومراقبة سلوكيات أبنائهم في الأماكن العامة.
- استغلال الموقف: وهي من المناسبات المهمة التي يستطيع الوالدين غرس آليات تربوية وتصحيح مفاهيم في نفوس أبنائهم.
- الجلسة بين الزوجين فقط بهدف تقوية العلاقات بين الزوجين، وكسر الحواجز والروتين اليومي الممل، والحديث والمصارحة والمكاشفة عن المشكلات والهموم، والتخطيط المالي والمستقبلي لأفراد الأسرة(5).
أسس وقواعد جلسة الأسرة
وحتى تستمر الحلقات الأسرية والعائلية، فلا بُد من وضع أسس وقواعد يلتزم بها الجميع، ومنها:
- تخصيص وقت محدد ومقدس، ويفضل أن يكون يوم العطلة مثل يوم الجمعة.
- أن تكون الجلسة فيها دفء ومحبة وتعبير عن مشاعر الحب والحنان للأولاد.
- تعليم الأولاد مهارات قيادية وحياتية من خلال كتابة بعض الفقرات، أو الحديث عن موضوع محدد والتعبير عن رأيهم بكل وضوح وشفافية.
- عمل جدول أسبوعي لقائمة المهام ومتابعتها.
- التعرف إلى قدرات الأبناء، وميولهم، ورغباتهم، وإعطاء كل واحد منهم ما يناسبه.
- إطلاع الأبناء على البرنامج بتفاصيله، والاستماع إلى آرائهم، ويمكن كتابة عقد بين الأب والأبناء بالاتفاق على ما فيه، ثم التوقيع بعد ذلك من جميع أطراف الأسرة، فالخطة الناجحة هي التي يتبناها الجميع، ويتحمسون لتنفيذها.
- تغيير مكان المنزل كالذهاب إلى البحر أو الحديقة أو السفر وغيرها من الأماكن التي تكون متنفسًا للأبناء والزوجين على حد سواء.
- ليكن شعار الجميع داخل المنزل التعاون، وليتحقق هذا فلا بُد من توزيع الأدوار داخل البيت، وإشراك الأبناء في هذا التعاون.
- الابتعاد عن النقد المباشر لتصرفات الأبناء، والاكتفاء فقط بالتلميح لا التصريح(6).
معينات على الجلسات العائلية
ويجب على الوالدين وضع أهداف قبل عقد الحلقات الأسرية والاستشعار بمدى المسؤولية في إقامتها، ولتحقيق ذلك لا بُد من:
- الإخلاص في تربية الأبناء، فإن تربيتهم عبادة وحتى يكونوا صالحين ونافعين وبذرات خير للمجتمع.
- الدعاء للأولاد دائمًا بالصلاح والهداية: فارفع يديك في مواطن الدعاء أن يصلح الله- عز وجل- أولادك وأن يجعلهم قرة أعين لك في هذه الحياة.
- كن قدوة في داخل بيتك، فابدأ بنفسك فأصلحها يصلح الله لك رعيتك فإنهم إن سمعوا منك ما يناقض فعلك يقع الخلل ويعظم الزلل ويصبح الدين شعارات براقة عندهم وكلمات جوفاء ليس لها في حياتهم أثر ولا في واقعهم عمل.
- الرفق نعمة عظيمة، فهو يفعل في النفوس ما لا تفعله القسوة والغلظة.
- سعة البال وعدم الاستعجال، وطول النفس في التربية، فالتدرج والبدء بالأهم فالأهم، وعدم استعجال النتائج، هو الطريق الصواب لتربية أبنائك.
- تعلم الثناء على أولادك، واشكرهم على حسن صنيعهم.
- قبل أن تُطالب بحقوقك، تأكد أنك تقوم بواجباتك، وادرس خصائص المراحل العمرية، وطبيعة ما يناسب كل مرحلة من الناحية العملية(7).
وهناك العديد من العوامل التي تجعل الأسرة قوية وناجحة، منها التعلم الذي تستطيع الأسرة من خلاله تعليم أفرادها القيم ومقومات الحياة، وكذلك الولاء والإخلاص، حيث الارتباط الأسري بين جميع مكونات الأسرة الواحدة ويكون لدى كل فرد فيهم ولاء وارتباط بين بعضهم البعض ما يحافظ عليها أمام أي عدوان من الغير، أما الحب فهو قلب العائلة النابض بحيث يستشعر كل فرد معاني الحب للآخر، والقيادة دورها بث المعاني والأسس التربوية ومتابعة سلوكيات كل فرد في الأسرة (8).
وبالنظر إلى فوائد الحلقات الأسريّة، وفي الوقت نفسه الانتباه إلى التفكك الأسري الناتج عن أسباب عديدة منها إهمال تلك الحلقات، نجد أن الدافع لإقامة مثل هذه الجلسات قوي وضروري، سيما في ظل حياة يحيطها تقدم علمي وتكنولوجي سيطر على كثير من الناس وجعلهم في انشغال دائم عن الاجتماعات الأسرية الحقيقة، حتى أن المجتمعين في بيت واحد بالأجساد كلٌ منهم مطأطئ رأسه على جهازه، وفكره وعقله يجول في عالم آخر ليس ذا صلة بعالم مَن حوله.
المصادر والمراجع:
- د. محمد بن غيث غيث: .
- خيرية هنداوي: ، 23 مايو 2020.
- التفكك الأُسري، أسبابه وآثاره وحلوله: 9 أغسطس 2017.
- الرهواني محمد: ، 13 نوفمبر 2016.
- عبد الله السند: ( التعلم )، 11 سبتمبر 2013.
- محمد عزام: أهمية الجلسة العائلية الأسبوعية، 25 يوليو 2020.
- علي الزباني: قيمة التربية الأسرية:وصايا وتوجيهات.
- تقوية أواصر العائلة.