الحبّ من أقوى أدوات التأثير والتغيير، بل هو أرقى أساليب التواصل الإنسَاني الذي يحظى بقبول من الناس جميعًا، لذا فإن التربية بالحب أسلوب لا يختلفُ على تقديره والاعتراف به اثنان، فهو من رصيد الفطرةِ، الذي يأبى التحريف والتشويه.
والحب هو إكسير الحياة الذي لولاه لكانت الحياة جحيمًا لا يُطاق، إذ يحل البغض محله فتكثر العداوات وتنتشر، ويعم الخراب. ولأن للحب دورًا بارز في التربية، سنبيِّن أهميته ووسائل التربية به وثماره على المُربِّي والمربَّى.
مفهوم التربية بالحب
الحب في اللغة نقيض البغض، والحب: الوداد والمحبة، وكذا الحِبُّ بالكسر. وقال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول المحبة هي: “ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرًا وجهرًا ثم علمك بتقصيرك في حبه”، فالحب حاجة تتكون من عنصرين من الصعب الفصل بينهما: الرغبة في الود من الآخرين، والرغبة في الحصول على الحنو، والحنان منهم.
وأما محبة الله للعبد فتعني: رحمة العبد واللطف به، كما تعني: إرادة إكرامه، واستعماله في الطاعة، وصونه عن المعاصي، وتوفيقه في فعل الخيرات.
لذا فإن أسلوب التربية بالحب الذي جاء في القرآن الكريم، عبارة عن إخبار الله- عز وجل- عباده المؤمنين، بحبه لهم، أو تذكيرهم بحبهم لهم، أو الاشارة إلى ما يُحبون من الأشياء، أو تذكيرهم بإنعامه عليهم بحب الناس لهم؛ وذلك بقصد استمالة قلوبهم، وتثبيتهم على ممارسة الأفعال الحسنة الموجبة لمودته لهم، والعفو عنهم، والمغفرة لهم، وتحقيق الاستقامة في حياتهم الدنيا، والسعادة في الدنيا والآخرة.
التربية بالحب في القرآن والسنة
ولقد أكد المنهج الإسلامي متمثًلا في مصدريه- القرآن والسنة- أهمية هذا الأسلوب في التربية، لإخراج أجيال نافعة لنفسها وأمتها، فالقرآن الكريم أشار إلى هذا الأسلوب في العديد من الآيات، منها ما يؤكد إخبار الله- عز وجل- بحبه لأصناف من الناس ذَكَرَهُم بأفعالهم وسماتهم، بقصد تعزيز السلوك الإيجابي الصادر عنهم، مثال ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134).
يقول صاحب الظلال: “وحب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله- سبحانه – بصفاته كما وصف نفسه، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها.. أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي، الذي يعرف من هو الله، من هو صانع هذا الكون الهائل، وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير! من هو في عظمته! ومن هو في قدرته! ومن هو في تفرده! ومن هو في ملكوته! من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب.. والعبد من صنع يديه- سبحانه- وهو الجليل العظيم، الحي الدائم، الأزلي الأبدي، الأول والآخر والظاهر والباطن”.
وفي موضع آخر يذكر المولى- تبارك وتعالى- المؤمنين بحبهم له- جل شأنه-، لحثهم على الوفاء بما يترتب عليه من سلوك حسن، فيقول تعالى: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31).
ووضع ابن القيم الجوزية معيارًا لمحبة العبد لله- سبحانه وتعالى- بقوله: “وهي أن تهب: إرادتك، وعزمك، ونفسك، ومالك، ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبًا في مرضاته ومَحَابِّهِ”. فحقيقة المحبة لله تعالى حركة نفس المحب إلى محبوبه، فالمحبة حركة بلا سكون، واكتمال المحبة هو: العبودية، والذل والخضوع والطاعة للمحبوب.
ومن استقراء آيات القرآن، نجد إخبار الله- سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين بأنه سيحدث لهم في قلوب الناس مودة؛ لإيمانهم والتزامهم العمل الصالح، فيقول- جل شأنه-: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًا} (مريم: 96)، فالله- سبحانه وتعالى- سيُحدث للمؤمنين الذين يفعلون الخير في القلوب مودة يزرعها لهم من غير تودد منهم، ولا تعرض للأسباب التي توجب الود ويكسب بها الناس مودات القلوب.
وجاء في الحديث القدسي- فيما يرويه الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن رب العزة-: “إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فقالَ: إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، قالَ: فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماءِ فيَقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، قالَ ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ، وإذا أبْغَضَ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فيَقولُ: إنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضْهُ، قالَ فيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في أهْلِ السَّماءِ إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلانًا فأبْغِضُوهُ، قالَ: فيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ له البَغْضاءُ في الأرْضِ” (مسلم).
وقد التزم النبي- صلى الله عليه وسلم- هذا الأسلوب طوال حياته، وشجع أصحابه- رضوان الله عليهم- على الإفصاح عن حبهم للآخرين؛ تقديرًا منه- صلى الله عليه وسلم- لأثر ذلك في إدامة المودة بين المسلمين، وإحكام العلاقة الطيبة فيما بينهم، ونلمس ذلك من خلال ما رواه أنس بن مالك- رضي الله عنه-، حينما قال: كنت جالسًا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إذ مر رجل فقال رجل من القوم: يا رسول الله إني لأحب هذا الرجل، قال: “هل أعلمته ذلك؟” قال: لا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “قم فأعلمه” قال: فقام إليه فقال: يا هذا والله إني لأحبك في الله، قال: أحبك الذي أحببتني له. (أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد).
ولا شك أن الحب أصل أصيل في هدي النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو حديث الروح، ورسالة القلب إلى القلب في التربية والإصلاح. يقول أسامة بن زيد- رضي الله عنه-: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ثم يضمهما ثم يقول: “اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا”، وفي رواية: “اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا” (البخاري).
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب أصحابَه إذ جاء الحسن والحسين يمشيان ويعثران فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال: “صَدَقَ اللَّهُ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)، نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا” (صحيح الترمذي)، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمازح الصغار ويتواضع لهم، ويراعي خصائصهم؛ قال لأحدهم: “يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ”، وقال لآخر: “يَا أَبَا عُمَيْرُ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟”.
وظهر حب النبي لمن يربيهم في كثير من المواقف، فقد أظهر أبلغ معاني الترحيب والحفاوة، فيما روته السيدة عائشة- رضي الله عنها-، إذ قالت: “أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “مَرْحَبًا بِابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ” (البخاري).
بل يختلط الحب بصدق البسمة وحنان اللمسة ودفء الكلمة، فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: “كنتُ خلفَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: “يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهِ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهِ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ” (صحيح الترمذي).
وسائل تربية الأبناء بالحب
وتتعدد وسائل التربية بالحب فلا تقتصر على التقبيل دون الكلمة أو اللمس دون النظرة، ومن الممكن حصر أبرز هذه الوسائل في النقاط التالي:
1- كلمة الحب: فلا بد من نطق كلمة الحب أمام الأبناء، لأن الصور التي يرسمها الطفل في ذهنه عن نفسه هي أحد نتائج الكلام الذي يسمعه، وكأنّ الكلمة هي ريشة رسّام إمّا أن يرسمها بالأسود أو يرسمها بألوان جميلة، فالكلمات التي نريد أن نقولها لأطفالنا إمّا أن تكون خيّرة وإلاّ فلا. وبعض الآباء يكون كلامه لأبنائه حطٌّ من القيمة، تشنيع، استهزاء بخلقة الله، فينتج عن هذا لدى الأبناء انطواء، عدوانية، مخاوف، وغير ذلك من معاني سلبية.
2- نظرة الحب: فعلى الآباء والمربين النظر بحب وابتسامة للطفل، مع الإفصاح بالحب له أكثر من مرة في اليوم الواحد.
3- لقمة الحب: ويكون ذلك أثناء اجتماع الأسرة على سفرة واحدة، إذ يستغل الأب هذا الموقف ليضع بعض اللقيمات في أفواه أطفاله، مع ملاحظة أنّ المراهقين ومن هم في سن الخامس والسادس الابتدائي فما فوق يشعرون أنّ هذا الأمر غير مقبول، فإذا أبى الابن أن تضع اللقمة في فمه فلتضعها في ملعقته أو في صحنه أمامه، وينبغي أن يضعها وينظر إليه نظرة حب مع ابتسامة وكلمة جميلة.
4- لمسة الحب: فليس من الحكمة أنه إذا أتى الأب ليحدث ابنه أن يكون بعيدًا عنه، بل يُفضّل أن يكون بجانبه وأن تكون يد الأب على كتف ابنه، ولنتذكر الأثر: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يلصق ركبتيه بركبة محدّثه وكان يضع يديه على فخذيْ محدثه ويقبل عليه بكله”.
5- دثار الحب: ليفعل هذا الأب أو الأم كل ليلة. إذا نام الابن فاذهب إليه أيها الأب وقبّله، وسيحس هو بك بسبب لحيتك التي داعبت وجهه فإذا فتح عينًا وأبقى الأخرى مغمضة وقال مثلاً: (لقد جئت يا أبي!)، فقل له: (نعم حبيبي) وغطِّه بلحافه، في هذا المشهد سيكون الابن في مرحلة اللاوعي أي بين اليقظة والمنام، وسيترسخ هذا المشهد في عقله وعندما يصحو من الغد سيتذكر أنّ أباه أتاه بالأمس وفعل وفعل، بهذا الفعل ستقرب المسافة بين الآباء والأبناء.
6- ضمة الحب: لا تبخلوا على أولادكم بهذه الضمة، فالحاجة إلى الضمة كالحاجة إلى الطعام والشراب والهواء كلما أخذتَ منه فستظلُ محتاجًا له.
7- قبلة الحب: قبّل الرسول- صلى الله عليه وسلم- أحد سبطيه إمّا الحسن أو الحسين، فرآه الأقرع بن حابس فقال: أتقبلون صبيانكم؟! والله إنّ لي عشرة من الولد ما قبلتُ واحدًا منهم! فقال له رسول الله: «أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك».
8- بسمة الحب: وهي من أهم وسائل غرس الحب في الأبناء، فهي كالماء الذي تنمو به نبتة الحب من داخل القلوب.
ثمار تربية الأبناء بحب
لا شّك أن التربية بالحب تُعطّي نتائج وثمار مُرضية للأبوين وتمنح الأبناء صفات وخصال إيجابية تتمثل في تنمية مهارة التواصل الاجتماعي، والتعود على الاحترام، والالتزام بالنظام، وتنمية روح المبادرة والإقدام، والراحة النفسية، والشعور بالطمأنينية، والاستقرار، ويمكن أن نجمل أبرز ثمار هذا الأسلوب التربوي في الآتي:
- راحة للقلب من المتاعب: فعاطفة الحبّ بصورة عامّة هي حالة منَ الانسجام النفسيّ، والاطمئنان الداخليّ، الذي يضفيه الإنسان على ما حوله، فيجعله يؤدي المطلوب منه بحيويّة وإيجابيّة.
- الحبُّ يجعلُ العملَ مُتعَة نفسيّة وعقليّة، لا محنة وبلاء، خصوصًا بالنسبة للأطفال، فهو يرقى بهم إلى درجة عالية من الاطمئنان والأمل.
- الحبّ ثروةٌ لك لا تنضب، ورصيدٌ لا ينقُصُ: فعندما يبذر المربّي الحب يفتح لنفسه رصيداً لا يُسرق، ولا ينتقصُ، بل يزيد مع الأيّام وينمو، من حيث لا يحتسب ولا يدري، فالقلوب التي أحبّت، وكان معها مواقف لن تنسى.
- تغيير التفكير للأفضل: فكثيراً ما يتّخذ بعض المتعلّمين موقفاً من التعلّم عامّة، أو من تعلّم بعض العلوم، لسبب من الأسباب، وربّما كان أهمّها موقف بعض المعلّمين منه أو سلوكه معه، وعندما يتهيّأ له المعلّم المحبّ، يغيّر له تفكيره وأسلوبه وموقفه؛ فيقبل على العلم بعد إدبار، ويحبّ المادّة التي كان يبغضها أشدّ البغض، ويكيّف حياته وسلوكه وَفق ما يرضي معلّمه المحبوب.
- حلّ المشكلات: سيما إن كانت بسيطة، فالأب أو المربي يمكنه حل المشكلات التي يتعرض لها الأبناء بكل سهولة، إذا كان حبل الحب ممدودًا.
- اختصار طريق التربية والتعليم: فهو يجعل المتربي على استعداد دائم للتلقي والانسجام مع المربي وفهم أوامره ونصائحه دون جهد أو ضياع وقت في الإقناع.
- تحقيق الطمأنينة لدى المتربي: فالناجحون هم الذين يمنحون الحبّ دائمًا، لأن ما لم يتحقّق نجاحه بالحبّ، فهو مستعصٍ على النجاح في أغلب الأحوال.
- اكتشاف المبدعين: فالحبّ يجعل الطفل أو الناشئ يقبل بكلّيّته على العلم، ويستجيب غاية الاستجابة لمعلّمه، ويبذل قصاري جهده في التعلّم، حبًّا بالعلم، وإرضاءً لمعلّمه، فتتفتّح مواهبه، ويظهر إبداعه، وما كان ذلك ليكون لولا حبّه لمعلّمه.
إن أسلوب التربية بالحب هو الطريقة المُثلى، والوسيلة الناجحة في تربية وتنشئة الأبناء، لأنه ملموس الثمار، فلا بد من تنمية حبّ الآباء لأبنائهم حتى ينشأوا على حب الوالدين فيكون تبادل الحب سببًا في استمرار ترابط الأسرة ودوام الاحترام والرعاية من الجانبين.
والطفل يجيد فكّ رموز لغة الحب التي يتلقاها من الوالدين بل ومن المحيطين به حتى إنه يشعر بمن يكرهه، فإذا اقترب منه يبكي، والانضباط في التربية والمختلط بمشاعر الحب الإيجابية الحازمة من أفضل الأسس التربوية السليمة، فتربية الأطفال انطلاقًا من مبدأ الحب والحنان المقترن بالحزم، تخلق أطفالًا أكثر نجاحًا في حياتهم المستقبلية.
المصادر والمراجع:
- ابن قيم الجوزية: روضة المحبين ونزهة المشتاقين، 1/408.
- سيد قطب: في ظلال القرآن، تفسير سورة المائدة، الآية 54.
- ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين، 3/9.
- د. ميسرة طاهر: التربية بالحب، ص 9-12.
- التربية بالحبّ