يمثل الجانب الوجداني أحد أهم الجوانب في تشكيل سلوك الفرد، حيث لا قيمة للجانب المعرفي أو المهاري دون هذا الجانب، فما قيمة المعارف و المهارات إذا كانت في معزل عن القيم والاتجاهات؟ وإذا كان المجال المعرفي يتناول العمليات العقلية والنشاط الفكري للإنسان، والمجال المهاري يتناول الجوانب المرتبطة بالعمل والمهارات اليدوية والأدوات والأجهزة وكيفية استخدامها، فإن المجال الوجداني يتناول الاتجاهات والميول والقيم، وفي هذا المقال نتحدث عن الاتجاهات وأثرها في تشكيل السلوك، على أن نتبع هذا المقال بعون الله تعالى بمجموعة من المقالات تتناول: أنواع الاتجاهات ومكوناتها وخصائصها ووسائل قياسها وطرق تعديلها.
مفهوم الاتجاهات وعلاقتها بالسلوك الإنساني
تحتل دراسة الاتجاهات مكانا بارزا في مجال الدراسات النفسية والاجتماعية وفي كثير من المجالات التطبيقية الأخرى، وذلك لأهميتها الكبيرة في تفسير والتنبؤ بالسلوك المستقبلي للفرد والجماعة أيضا، وتمثل الاتجاهات العوامل المؤثرة في مشاعر الفرد الوجدانية واستعداداته، حيث يقوم بتوجيه سلوكه على نحو معين في البيئة التي يعيش فيها، ويقصد بالمشاعر الوجدانية ما يتصل بأحاسيس الفرد وما يصاحب ذلك من سلوك، وتراكم الاتجاهات لدى المرء تجعل الانتظام في سلوك معين والاستقرار عليه أمرا ممكنا.
مفهوم الاتجاهات
تتباين وجهات نظر كثيرة من علماء النفس وعلماء الاجتماع حول مفهوم الاتجاه وتعريفه، ويمكن تفسير هذا التباين في دلالات المفهوم بالنظر إلى تعدد العلوم التي ينتمي إليها هذا المفهوم، فالاتجاهات هي المحور الأساسي لعلم النفس الاجتماعي، وكذلك لها مكان الصدارة في علم النفس السلوكي، وأهميتها البارزة في علوم التربية لا تنكر، هذا إلى جانب كثير من فروع العلوم التطبيقية الأخرى.
أول من استخدم مفهوم الاتجاهات هو (هربرت سبنسر) ، حيث قال في كتابه “المبادئ الأولى” عام 1862م: “إن وصولنا إلى أحكام صحيحة في المسائل الجدلية يعتمد إلى حد كبير على الاتجاه الذهني الذي نحمله أثناء إصغائنا إلى هذا الجدل أو الاشتراك فيها”، ويعتبر جوردن ألبورت من أوائل المهتمين بمفهوم الاتجاهات، حيث عرف الاتجاه بأنه: “حالة من التهيؤ والتأهب العقلي العصبي التي تنظمها الخبرة وتوجه استجابات الفرد نحو عناصر البيئة”، وقد أوضح أيضا أن حالة التأهب هذه قد تكون قصيرة المدى أي لحظية أو تكون بعيدة المدى تستمر لزمن طويلة، ويعرفه (ليفين) بأنه ذو بنية وجدانية تعمل في تفاعل مستمر لتحديد السلوكيات التالية، ويعرف مصطفى سويف الاتجاه بأنه: “الحالة الوجدانية القائمة وراء رأي الشخص أو اعتقاده فيما يتعلق بموضوع معين من حيث رفضه لهذا الموضوع أو قبوله ودرجة هذا الرفض أو القبول”.
وتتخذ الاتجاهات شكل الرغبة في بناء المعنى ذي الطابع الشخصي للمعرفة والمعايير والقيم التي تحتويها اتجاهات نفسية معينة، وبعد ظهورها في نشاط معين، والاتجاهات النفسية تفصح عن نفسها عندما يواجه شخص ما موضوعات مماثلة ذات مغزى، وتحدد سلوكه في مواقف عديدة متشابهة، وتصبح هذه الاتجاهات النفسية المرتبطة بالمعنى اتجاهات نفسية معممة لتتحول بعد ذلك إلى سمة من سمات الشخصية.
علاقة الاتجاهات بالسلوك الإنساني
تؤكد الدراسات الحديثة أن الاتجاهات تستطيع التأثير بقوة على السلوك الظاهر، بل لم تعد العلاقة بين اتجاهات الأشخاص وسلوكهم خاضعة للسؤال التقليدي الذي ركزت عليه الدراسات السابقة المبكرة وهو: هل هناك علاقة بين الاتجاه والسلوك؟
فالدراسات الحديثة بدأت تطرح أسئلة دقيقة للغاية، تدور هذه الأسئلة حول ما يلي:
نوع الاتجاهات والسلوك المدروس، طرق القياس، طبيعة العلاقة بين الاتجاهات والسلوك، عوامل الشخصية.
وقد تعددت النظريات التي حاولت معالجة هذا الموضوع عبر تقديم نماذج نظرية تفسر شبكة المتغيرات التي تؤثر على العلاقة بين الاتجاه والسلوك. ومن أحدث هذه النماذج الذي حازت قبولا واسعا بين الباحثين من خلال تطبيقها في دراسة سلوكيات متنوعة من بينها السلوكيات البيئية، “نظرية السلوك المخطط”.
معايير طرق قياس الاتجاهات:
بينت دراسات عدة أن قوة علاقة الاتجاه بالسلوك تزداد إذا روعيت عوامل وشروط أو معايير منهجية تتعلق بطريقة قياس الاتجاه ومن هذه المعايير:
معيار الفعل المتردد:
فقد يحدد هذا المعيار أن التنبؤ بسلوك الأفراد بناءً على درجات اتجاهاتهم يتطلب تحليلا مسبقا لأشكال السلوك المراد التنبؤ به. واستخدام معايير سلوكية متعددة يزيد درجة الارتباط بين درجات الأفراد على مقياس الاتجاهات البيئية وسلوكهم الفعلي في المستقبل.
معیار تناسب القياس:
عندما يختلف مستوى قياس الاتجاه عن مستوى قياس السلوك تضعف العلاقة بينهما، أي يضعف التنبؤ بسلوك الأفراد من درجاتهم على مقياس الاتجاه.
وقد بينت الدراسات أهمية خصائص الاتجاه المدروس في تحديد قوة علاقته بالسلوك وهناك عوامل تتعلق بطبيعة الاتجاه المدروس وبنائه وأهمها: الاتساق العاطفي الذهني، وسهولة استدعاء الاتجاه، وقوة الاتجاه.
الاتساق العاطفي الذهني:
فإذا انخفضت درجة الاتساق بين المكونين الذهني (الفكري) والعاطفي (الوجداني) في الاتجاه فإن درجات الأفراد على مقياس الاتجاه لهذا الاتجاه لن تتنبأ بسلوكهم.
سهولة استدعاء الاتجاه:
فقد بينت الدراسات أن سهولة استدعاء الاتجاه ذهنيا تقوي علاقته بالسلوك نحو موضوعه. وبينت أيضا أن الاتجاه الذي يعبر عنه بدرجة عالية من التكرار يرتبط بالسلوك بدرجة أقوى من الاتجاه الذي يعبر عنه بدرجة منخفضة من التكرار، وسرعة التعبير عن الاتجاه مؤشر لسهولة استدعائه وتكرار التعبير عنه يزيد من سهولة استدعائه.
قوة الاتجاه:
يقصد بقوة الاتجاه قوة ارتباط الموضوع بالتقييم في الذاكرة أي درجة ارتباط موضوع الاتجاه بتقييمه في ذاكرة الفرد وكلما زادت القوة زادت سهولة الاستدعاء ومن ثم زادت علاقته بالسلوك.
كما أن قوة الارتباط بين موضوع أو هدف الاتجاه ومكونات الاتجاه المعرفية والوجدانية والسلوكية وكلما ازدادت هذه الروابط قوة أصبحت علاقة الاتجاهات بالسلوك لصيقة. وقد أظهرت بعض الدراسات أن الاتجاهات المتكونة من خلال الخبرة المباشرة بموضوع الاتجاه ترتبط بعلاقة أكثر قوة بالسلوك الظاهر وذلك بالمقارنة بالاتجاهات المتكونة بأسلوب آخر. وقد يكمن السبب في التأثير الأكبر للاتجاهات القوية على السلوك بالمقارنة بالاتجاهات الضعيفة في قدرتنا على التذكر فالاتجاهات التي نستطيع تذكرها يمكنها أن توجه سلوكنا.
ومن خلال تأثیر عوامل الشخصية على علاقة الاتجاه بالسلوك فقد أوضح بعض علماء الشخصية أن الأفراد يختلفون من حيث قوة العلاقة بين اتجاهاتهم وسلوكهم، أي أن علاقة الاتجاه بالسلوك تقوى عند بعض الأفراد وتنخفض عند بعضهم، ومن أهم عوامل الشخصية التي تؤثر على هذه العلاقات هي درجة الفرد في رصد الذات ووعي الذات الخاصة. فالأفراد الذين لديهم درجة عالية في رصد الذات يتأثر سلوكهم بالمعلومات المعرفية وردود أفعال الآخرين لسلوكهم أكثر من تأثره بحالاتهم الداخلية واتجاهاتهم. ولذلك فإن العلاقة بين اتجاهاتهم وسلوكهم علاقة منخفضة. وعلى العكس من ذلك الأفراد الذين لديهم درجة منخفضة في رصد الذات فسلوكهم غالبا يعكس حالاتهم الداخلية واتجاهاتهم، كذلك فإن هناك علاقة قوية نسبيا بين اتجاهاتهم وسلوكهم مقارنة بمن لديهم مستوى مرتفع في رصد الذات (رصد الذات هو مصطلح يقصد به قدرة الفرد على ضبط سلوكه بما يلائم مختلف المواقف الاجتماعية ويجعله يتمتع بدرجة عالية من القبول في محيطه الاجتماعي، وأول من استخدم هذا المصطلح هو عالم النفس الأمريكي مارك سنايدر).
نوعية الاتجاه:
تعتبر نوعية الاتجاه أيضا من المحددات الهامة لعلاقة الاتجاه بالسلوك، حيث يرتبط بدرجة تركيز الاتجاه على موضوع معين للاتجاه في مقابل الاتجاهات العامة، وارتفاع نوعية الاتجاه وارتباطه بموضوع محدد يقوي العلاقة بينه وبين السلوك الظاهر.
مدى اتصال الاتجاه بحياة الفرد:
أي درجة تأثير مكونات الاتجاه السلوكية على حياة الفرد، وكلما ازدادت هذه الصلة قويت العلاقة بين الاتجاه والسلوك.
وفي ظل ما سبق يتبين أن مسألة العلاقة بين الاتجاه المقاس والسلوك الفعلي ليس مسألة بسيطة، وإنما هي مسألة متشعبة إذ يعد كل من معيار الفعل المتردد، ومعیار تناسب القياس من حيث الاتساق العاطفي الذهني للاتجاه، وسهولة استدعائه، وكذا قوة الاتجاه، وارتباطه بموضوع محدد، وكونه وثيق الصلة بحياة الفرد.
المصادر:
جابر عبد الحميد: دراسات نفسية في الشخصية العربية.
محمد سلامة آدم: مفهوم الاتجاه في العلوم النفسية والاجتماعية.
مصطفى سويف: مقدمة لعلم النفس الاجتماعي.