الإعراض عن الجاهلين أمر قرآني، وجه الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم إليه، ونحن بالتبعية، وفي ذلك والجهد المبذول في الدعوة إلى الله أو في شتى مناحي الحياة، فليس كل الناس سواء في الجدارة بالحديث والنقاش ومحاولات الإقناع، وفي ذلك فائدة لطيفة ومهمة، إذ كما يتخيّر الإنسان كلامه؛ فإن عليه تخير أوقات الكلام، ومن سيتوجه إليهم به، ومن جميل ما يُروى عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قوله: «ليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حَضَرَ أهلُه، وليس كل ما حَضَرَ أهلُهُ حان وقته، وليس كل ما حان وقته صَحَّ قوله».
ثقافة الإعراض عن الجاهلين في القرآن
كان من أوائل التوجيهات القرآنية للنبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الذين يُغلبون لغة السخرية والاستهزاء على لغة العقل والمنطق قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ومدح القرآن عباد الرحمن بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} (الفرقان)، ويقول تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} (الأنعام).
فهذه أوامر إلهية صريحة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه بأن يعرضوا عن الذين يخوضون في آيات الله ولا يقعدوا معهم إلا إذا تحدثوا في حديث آخر.
وقد تعددت الأقوال فيمن نزلت فيهم الآية فمن قائل أنها في أهل الأهواء من المسلمين، ومن قال: إنها في المشركين فقط، وأرى أن تشمل كل من يخوض في آيات الله، سواء كانوا مشركين أو منتسبين للإسلام من أهل الأهواء، أو ملحدين، أو غير ذلك.. المهم الأفعال وليس شخص القائمين بالأفعال.
الفرق بين الإعراض عن الجاهلين ووجوب تبليغ العلم
نلاحظ في القرآن توجيهات بوجوب تبليغ الدعوة وعدم كتمان العلم مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة: 67)، وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب: 39)، ومن هذا القبيل توجد آيات كثيرة في الحث على تبليغ العلم وعدم كتمانه، وفي المقابل نجد آيات كثيرة في الإعراض وعدم الجلوس مع الجاهلين، مثل قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (النجم: 29)، تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 89)، وهنا نلاحظ أن هناك مساران يدعو إليهما القرآن بالنسبة لعرض الدعوة والرسالة، مسار الدعوة والتبليغ وعدم كتمان العلم، ومسار الإعراض وعدم الجلوس مع الجاهلين، والمسارين غير متناقضين، والآيات غير متعارضة مع بعضها؛ إذ لكل مسار أفراده المقصودين به.
فحيث يرد الأمر بوجوب التبليغ لمن غلب على الظن أن ينفعه البلاغ: ” فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ} (الأعلى: 9)، أو لمن جاء يطلب البيان: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران: 187).
أما الآيات التي معنا فهي تنهى عن الجلوس مع من يخوضون في آيات الله والإعراض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، والخوض في حقيقته الدخول في الماء والمرور مشيا أو سباحة، أو لت الدقيق باللبن، ويستعار لمرور الإبل في السراب، ووميض البرق في السحاب، ويطلق على الاندفاع في الحديث والاسترسال فيه، وبالمعنى العامي (التهريج واللخبطة والعك) في الكلام دون هدف واضح سوى السخرية والاستهزاء، وقد فسر أيضا بعض السلف الخوض في الآيات بالمراء والجدل والخصومة فيها اتباعا للأهواء، وعلى كلٍّ؛ فالخائضون في آيات الله سواء بقصد السخرية والاستهزاء أو بقصد المراء والجدل واتباع الهوى، أيا كان أشخاصهم مسلمين أو غير مسلمين هم قوم لا يريدون المعرفة والبيان حتى يعطوْها، ولا يقصدون الوصول الحق حتي يبين لهم؛ بل قوم مرضى القلوب ولهم قناعات مسبقة في الضلال، ويقصدون بالحديث السخرية والاستهزاء من المؤمنين والقدح فيهم واحتقارهم وإهانتهم، وإيذائهم نفسيا وتحطيمهم معنويا، فهؤلاء وجهنا الله بكيفية التعامل معهم وهو الإعراض عنهم واعتزالهم.
مظاهر الإعراض عن الجاهلين
الإعراض عن الجاهلين يقتضي عدم المشاركة معهم فيما يخوضون فيه بأي صورة سواء عبر صفحات التواصل الاجتماعي أو الرسائل البريدية وغيرها أو اللقاءات المباشرة معهم أو البرامج الاذاعية أو التلفزيونية حتى لو تأول البعض بأنه انتصار للدعوة ومواجهة المنحرفين إذ أنهم قوم قد أسفروا عن وجوههم وأفصحوا عن غايتهم من الحديث فيصبح مشاركتهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم، وإغراء لهم بالتمادي فيه، بل يمكن أن يصل إلي أن يكون رضاء به ومشاركة فيه، والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر، لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر، وفي التأويل لنصرة الدعوة استدراج للوقوع في المخالفة الصريحة للآية، ولا يعقل أن يقعد المؤمن باختياره مع المستهزئين بآيات الله في حال استهزائهم بآيات الله، وتكذيبهم بها، وطعنهم فيها أيا كان المبرر، ومن الخطوات العملية نحو الإعراض عن الجاهلين:
- محاصرة ومقاطعة السفهاء والمستهزئين، بعدم مجالستهم والدخول معهم في حوارات أو مناقشات نعلم مسبقا أنها لن تثنيهم عما هم فيه.
- عدم مشاركة أفعالهم وأقوالهم في صفحات التواصل الاجتماعي حتى لو كانت بقصد الرد عليهم ونكتفي بالإشارة فقط إلى الأقوال دون الأشخاص على طريقة: (ما بال أقوام)؛ حتى لا نساهم في تعزيز مكانتهم في المجتمع.
- الحرص على عدم التواجد معهم وعدم الدخول في نواديهم وجمعياتهم وأحزابهم.
من فوائد الإعراض عن الجاهلين
ومن فوائد وثمار الإعراض عن الجاهلين والسفهاء الذين يقصدون من الحديث في قضايا الإيمان والدعوة التفكه والسخرية والاستهزاء بالحق وأهله لا شك أنه يحقق سلامة للصحة النفسية للمؤمنين وعدم شحنها بالضغائن والإحن التي تعطلهم عن وظيفتهم الأساسية في الدعوة إلى الخير فتضيق رقعة الخلاف والنزاع بين الناس واتساع مساحة التسامح وصفاء النفوس، وتجنيب المؤمنين كثيراً من المتاعب والمصائب، ومشاكل الأرق والفكر وشرود الذهن، لأن الالتفات إلى أقوال السفهاء وإعطائها وزناً أكثر مما يستحقها قد يؤرق الأذهان ويثير الأحقاد والضغائن والأثقال النفسية، فحين يفكر العاقل في استهزاء السفهاء والحمقى وسفاسفهم البذيئة، قد تسبب له انتكاسه في الطريق وتصيبه بالإحباط وتعوقه عن دوره الحقيقي وتحول بينه وبين ما ينفع الناس فالأولى الانشغال بما ينفع الناس فذلك هو الذي يمكث في الأرض وهو خير وأبقى.