ورد في التقرير الرقمي العالمي لشهر يناير 2021، الصادر عن شركتي “هوتسويت” و”وي آر سوشل”، أن أكثر من أربعة مليارات شخص حول العالم يستخدمون الآن وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يمثل (53.6%) من عدد سكان الكوكب وأكثر من (90%) من مستخدمي الإنترنت في العالم، وذكر التقرير أن ما يقرب من مليوني شخص ينضمون إلى قائمة المستخدمين الجدد يوميا، ويقضي المستخدم العادي الآن ما يقرب من 15% من حياته اليقظة في استخدام المنصات الاجتماعية.
وهذا الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي جعلها تفرض نفسها بقوة كمصدر مهم لصناعة وتشكيل الرأي العام وتكوين الاتجاهات لدى قطاعات عريضة في المجتمع، وكما أن لمواقع التواصل الاجتماعي إيجابيات كثيرة كانت سببا في تحقيقها هذا الانتشار الواسع؛ حيث أنها تعطي مجالا للأفراد للتعبير عن آرائهم واتجاهاتهم بحرية، وتحقق مستوى مرتفعًا من الوجود الاجتماعي الافتراضي بين الأفراد عن طريق المحادثات والحوارات والنقاشات، وتسهل إيصال المعلومات بسرعة وبطرق عرض متعددة (بوست- صورة- فيديو- خبر…الخ)؛ فإن لها على الجانب الآخر الكثير من التأثيرات السلبية؛ حيث يتم استغلالها في كثير من الأحيان في نشر الأكاذيب والفساد والرذيلة، وتجاوز الحدود الأخلاقية والدينية والثقافية للمجتمعات، إلى جانب إهدارها أوقاتًا كثيرة كان يمكن أن تستغل في أنشطة وجهود هادفة، وكذلك استخدامها في نشر الشائعات والدعاية السلبية حول الشخصيات والكيانات، والقيام بأنشطة هدامة تهدد سلامة الأفراد وتماسك المجتمعات.
مواقع التواصل وموثوقية المعلومة
أمران يحددان الإجابة على هذا السؤال: محتوى المنشور ومصدره؛
أما ما يتعلق بمحتوى المنشور فيجب أن نفرق بين المصطلحات الآتية: البيانات والمعلومات والمعرفة والحكمة، وهو ما يوضحه ما يطلق عليه في مجال إدارة المعرفة ب (هرم المعرفة).
وهو من الأمور الهامة التي يجب أن نكون على دراية بها وبخاصة عند استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وقام منظرو المدرسة التقليدية للمعرفة بوضع تصور لهرم المعرفة، يبدأ هذا الهرم من قاعدته السفلية البيانات التي تمثل قاعدة الهرم ثم المعلومات ثم الخبرة ثم الحكمة التي بدورها تشكل رأس الهرم.
البيانات: وهي عناصر من الحقيقة ما زالت تفتقر إلى المعنى العام، فهي ترمز إلى الأشياء والحقائق والأفكار والآراء والأحداث والعمليات التي تعبر عن المواقف والأفعال أو تصف هدفا أو ظاهرة أو واقعا معينا، والبيانات تمثل المادة الأولية للحصول على المعلومات وهي تجمع من مصادر متنوعة.
المعلومات: هي البيانات التي خضعت للمعالجة والتحليل والتفسير، ويجب أن تتصف المعلومات بالكفاية والموضوعية وعدم التحيز وإمكانية التحقق من سلامتها.
المعرفة: وهي خلاصة البيانات والمعلومات ويمكن التعبير عنها بأنها حصيلة ما يمتلكه فرد أو مؤسسة أو مجتمع من علم وثقافة.
الحكمة: وهي تمثل ذروة الهرم المعرفي بمواجهة أعقد العمليات التي يمارسها العقل البشري لتقطير المعرفة إلى حكمة مصفاة وتجاوز المتاح من المعرفة وخرق السائد منها وزعزعة الراسخ من أجل آفاق معرفية جديدة وكسر القيود واقتناص الفرص التي تؤدي إلى أفضل النتائج المتمثلة بالإبداع والاستغلال الأمثل للموارد والوصول إلى أفضل النتائج بأقل التكاليف واختصار الأزمان والمسافات.
ومن الضروري معرفته هو أن غالب ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن تصنيفه أنه مجرد بيانات لا ترقى للمستويات الأعلى، ولا ترقى إلى درجة المعلومة المحققة، ولا تكفي للحكم على المواقف والأمور المختلفة، إلا ما ندر منها.
وفيما يتعلق بمصدر المعلومة وهو من العوامل الهامة التي تحدد مصداقية ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فيمكن تقسيم مصادر المعلومات إلى ثلاثة أقسام:
مصادر رسمية ومصادر مجهولة ومصادر مشبوهة أو فاقدة المصداقية، أما ما ينشر على الحسابات الموثقة للمصادر الرسمية فإنه يصلح كمصدر للمعلومة وغالبا لا يكون هناك آثار سلبية لمشاركتها، وأما ما ينشر على حسابات غير موثقة أو مصادر غير رسمية فإن احتمالات الصدق والكذب فيه متساوية، وأما ما ينشر على الحسابات المشبوهة أو فاقدة المصداقية فلا يعتبر، والإعراض عن مجرد مطالعتها أولى فإن الاستماع إلى الكاذب منهي عنه، قال تعالى في معرض الحديث عن المنافقين: “{.. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]” وهو أيضا من صفات اليهود، قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42].
“إعادة النشر” ومسئولية الكلمة
للكلمة في الإسلام مسئوليتها وخطرها في الخير والشر كليهما؛ فالإيمان كلمة والكفر كلمة، وهل يكب الناس على وجوههم في النار يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم؟! روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ”. والكلمة الآن أكثر خطرا منها في الماضي فقد يتكلم المرء بالكلمة وبعد ثوان يكون قد سمعها أو شاهدها الملايين من الناس، وغني عن التبيان أن إعادة مشاركة “بوست” أو “تويته” على أحد منصات التواصل الاجتماعي ينطبق عليه ما ينطبق على الكلمة التي تخرج من الفم، بل من الممكن ان يكون لذلك أثر أكبر وانتشار أوسع ، وإعادة النشر أو ما يعرف بالـ (share) على مواقع التواصل مشاركة في الأجر إن كان ما يشاركه خيرا أو في الإثم إن كان ما يشاركه غير ذلك؛ روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كَفى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ” ، وجاء في شرح هذا الحديث: (يَكْفي المرءَ مِن أسبابِ الوُقوعِ في الكَذِبِ أنْ يتكلَّمَ ويُخْبِرَ بكُلِّ ما سَمِعَهُ دُونَ تَمْحيصٍ أو تَثبُّتٍ؛ لأنَّ الإنسانَ يَسْمعُ في العادَةِ الصِّدقَ والكَذِبَ، فإذا حدَّثَ بكلِّ ما سَمِع فقد أَخْبَرَ بكلامٍ فيه بعضُ الكَذِبِ؛ لإخبارِه بما لم يَكُن، حتّى وإنْ لم يتعمَّدِ الكَذِبَ؛ لأنَّ الكَذِبَ في الحقيقةِ هو الإخبارُ عن الشِّيء بخلافِ حَقِيقتِه، وهذه دَعوةٌ نَبويَّةٌ إلى التَّحرِّي في الإخبارِ، وعدم نَقْلِ كُلِّ ما يُقالُ دُونَ تَمحيصٍ).
وقفة مع حادثة الإفك
يقول الأستاذ سيد قطب في تفسيره لآيات حادث الإفك: خطوتان غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير، وخطوة التثبت بالبينة والدليل، ولولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم بسبب ذلك، قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درسا قاسيا، فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه وعذابه، فهي فعلة تستحق العذاب العظيم، العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول – صلى الله عليه وسلم – وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيرا، والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة، والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل حافل بالقلق والقلقلة والحيرة بلا يقين! ولكن فضل الله أدرك الجماعة الناشئة، ورحمته شملت المخطئين، بعد الدرس الأليم.
وكما يعلم الجميع أن من قام بالكذب في تلك الواقعة هو شخص واحد في البداية، وكل من سقطوا في الفتنة بعد ذلك لم يكن لهم دور سوى “النقل” أو “الشير” بتعبير وممارسات اليوم، فلا تظن أنك إن لم تقم بالكذب أو اختلاق الإفك، فإنك بذلك قد نجوت، بل إن النقل في حد ذاته هو داء عضال، وهو الأخطر على المجتمعات وتماسكها. فالناظر بعين البصر والبصيرة إلى الآيات القرآنية التي تعاملت مع تلك القضية، يجدها تركز وتعطي أولوية التوجيه لجرم “النقل” وليس لجرم “الكذبة الأولى” ، والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام واختلت فيها المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول:
إذ تلقونه بألسنتكم .. لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إمعان نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرءوس، ولا تتدبره القلوب! وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم .. بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم، إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول.. وتحسبونه هينا .. وهو عند الله عظيم .. وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء.
مواقع التواصل والإساءة للأشخاص والهيئات
يعرف القذف بأنه إسناد وقائع أو أمور محددة لو صحت لوجب احتقار من أسندت إليه ومعاقبته قانونيا، وتعد جرائم القذف أو التشهير من جرائم الكلمة التي تمس بالشرف ولابد في هذه الجريمة من نسبة أمر محدد ومعين إلى الغير من شأنه أن يوجب احتقاره والمعاقبة عليه فيما لو كان هذا الفعل صحيحا. والحكم يختلف باختلاف الزمان والمكان وحال المشهر به فقد يتأذى شخص بما لا يتأذى به غيره.
ويعرف شيخ الإسلام ابن تيمية السب بقوله: “السب بأنه الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحوه”.
وقد حرص الإسلام على حماية الشرف والاعتبار ومنع سب الآخرين بغير حق، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب:58]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ”. وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ مِن أربى الربا الاستطالةَ في عِرضِ المسلِمِ بغيرِ حَقٍّ”. ومعنى الاستطالة في عرضه احتقاره والترفع عليه والوقيعة فيه وذكره بما يؤذيه أو يكرهه. ومما سبق يمكن القول بأنه: يحرم شرعا سب المسلم أو شتمه أو ازدراؤه أو تنقصه عبر المواقع والمنتديات الإلكترونية مثلما يحرم سبه وشتمه باللسان بإجماع الأمة.
شائعات مواقع التواصل وكيف نتعامل معها؟
الشائعة هي رواية مصطنعة عن شخص أو جماعة أو دولة يتم تداولها إعلاميا أو شفهيا وهي مطروحة لكي يصدقها الجمهور دون أن تتضمن مصادرها ودون أن تقدم دلائل مؤكدة على كونها واقعية وبعضها يشتمل على نواة من الحقيقة لكن معظمها مختلق، ودوافعها إما أن تكون نفسية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وأهدافها غالبا سلبية.
وهذه علامات نستطيع بها اكتشاف الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي:
- غرابة الأخبار وعدم معقوليتها.
- غياب مصدر الخبر أو المعلومة، أو نقلها ونسبها لمصدر خاطئ.
- أن يكون الحساب الذي يشيع هذا المنشور غير رسمي أو باسم مستعار.
- الانفراد بالخبر في حساب بعينه دون الحسابات الإخبارية الموثوقة الأخرى.
- وجود التحيز المسبق وعدم حيادية الكاتب أو ناشر المعلومة، ويتضح هذا من تتبع منهجية و طريقة صياغة الخبر أو استخدام ألفاظ تحتوي على إساءة ممنهجة ومتكررة لطرف ما.
ويمكن أن نواجه انتشار الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي باتباع التوصيات التالية:
- عدم ترديد أو مشاركة الأخبار مجهولة المصدر أو مشاركتها (كما أوضحنا سابقا).
- معرفة كيفية التمييز بين الأخبار والشائعات، وعدم التساهل في الانسياق خلف نشر ما هو غير ثابت وغير مفيد للدعوة وللأمة.
- تطبيق قاعدة (على رسلكما؛ إنها صفية)، وذلك في توضيح وإزالة الشبهات متى كان ذلك متاحا.
- إعداد قائمة سوداء بالمنصات أو الحسابات التي تبين أنها تنشر الشائعات.
- التروي في نشر الأخبار أو تبنيها حتى التبين من مصادر الرسمية المعتمدة.
- في حال ثبوت معلومة معينة، فليس من المناسب من الناحية الشرعية أن يتطوع الجميع بإصدار الأحكام وإنزال العقوبات، فحتى ذلك له ضوابطه الشرعية وأدواته الفقهية التي لا يمتلكها كل الناس.
وفي الختام كانت هذه جملة من الضوابط والتوصيات يجب الانتباه إليها ومراعاتها من قبل أي مسلم ملتزم، فضلا عن كل مصلح أو داعية أو مربٍ أثناء التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة مع التطور المذهل والسيولة الكبيرة التي نشهدها في وسائط نقل المعلومة التي سهلت نقلها بلا تبعة، ونشر الشائعة بلا رقيب.
المراجع:
- ابن تيمية: الصارم المسلول على شاتم الرسول.
- إيمان محمد سلامة: الجريمة الإعلامية في الفقه الإسلامي.
- خالد الحشاش: الاقتصاد المعرفي الثروة المستدامة.
- رضا عبد الواحد أمين: مواقع التواصل الاجتماعي والشائعات.
- سيد قطب: في ظلال القرآن.
- يحيى بن شرف النووي: شرح النووي على صحيح مسلم.
- محمد عثمان الخشت: الشائعات وكلام الناس.
- مترجم عن التقرير الرقمي العالمي لشهر يناير 2021 :
https://datareportal.com/reports/digital-2021-global-overview-report - الموقع الرسمي لمؤسسة الدرر السنية: https://www.dorar.net/hadith/sharh/26725