ابتُلي العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري بتفتكُكٍ وانقلابات على الحكم، إضافة إلى الزحف الأممي والغزو التّتري، وقد عاش في تلك الفترة الحالكة ابن الحاج العبدري وغيره من العلماء المسلمين الأجلاء الذين لمسوا الداء ووصفوا العلاج، فسَاهموا بدورهم في إحياء الحركة العلمية وتصحيح الخلل الذي أصاب ميدان التعليم، رغم ما وصلت إليه الدولة الإسلامية من تفكك، ثم انهيار الخلافة.
ولقد رأى الباحث الدكتور خالد محمد يوسف التويم – جامعة أم القرى، أنّ “العبدري” وهو العالم، والفقيه، والمربي الناقد، كان له أفكاره التربوية الخاصة، التي فصّلها في كتابٍ بعنوان (المدخل)، وهو ما استند إليه في بحثه عن تلك الشخصية الفذة.
من هو ابن الحاج العبدري؟
هو أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري الفاسي المعروف باسم ابن الحاج العبدري وهو أحد جهابذة المتصوفين وأحد أعلام المذهب المالكي، وقد عُرف عنه الانقطاع عن الدنيا والزهد والصلاح، وهو صاحب التصانيف الجليلة، ضرب فيه من العلم بالسهم المديد، من أبرز آثاره كتاب المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على كثير من البدع المحدثة والعوائد المنتحلة.
وُلد “العبدري” خلال الفترة من 1250 إلى 1256م، في قبيلة عبد الدار بفاس في المغرب، وقد كان من وجهاء المالكية، وأصبح قاضيًا خبيرًا فقيهًا بمذهب مالك، ولما نزل مصر، صحب الشيخ أبا محمد بن أبي حمزة، وسمع من علمائها، وحدّث بها، وفيها توفي عام 1336م، عن عُمر ناهز 80 عامًا.
تلقى الفقه عن أبي إسحاق الطماطي، وعنه أخذ الشيخ عبد الله المنوفي والشيخ خليل وغيرهما، وله تصانيف كثيرة منها: (المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على كثير من البدع المحدثة والعوائد المنتحلة)، وهو كتاب جمع فيه علما غزيرا، قال عنه ابن حجر: “كثير الفوائد كشف فيه معايب وبدع يفصلها الناس ويستاهلون فيها”، وله كتاب “شموس الأنوار” و”كنوز” وغيرها من الكتب.
أفكار ابن الحاج العبدري التربوية
نثر ابن الحاج العبدري أفكاره التربوية في أرجاء كتابه (المدخل) الذي بوّبته تلك الدراسة على النحو التالي:
أولا: آداب المعلم
- إصلاح النية.
- الإخلاص في العمل.
- أن يعمل المعلم بما يعلم.
- على المعلم المحافظة على وقاره.
- الصبر على أذى التلاميذ.
- ألا يسير التلاميذ خلفه.
وعلى صعيد آخر يُحذر ابن الحاج من ظاهرة انتشرت في عصره وهي تفاخر بعض المعلمين والفقهاء على الناس، ومحبة العلو عليهم وهذا داء دفين متفرع من الكبر، فيقول: “وينبغي له – أيضا- أن يحتفظ على نفسه من مشي الناس معه، ومن خلفه ومن وطأ عقبه، وتقديمهم نعله واتكائه على أحد، إلا لضرورة شرعية فإن هذا كله مثارة من الكبر والخيلاء وقوة النفس غالبا وإن كان في نفسه متواضعا”.
ثانيا: واجبات المعلم
- المساواة بين المتعلمين (تكافؤ الفرص)، بأن يتولى تعليم الجميع بنفسه: فقد ظهر في عصر ابن الحاج استعانة المعلمين بمَن يساعدهم في مهمة التعليم ببعض التلاميذ النجباء ولكن التلميذ غير مؤهل للتدريس بعد.
- أن يهتم المعلم بحاجات الطفل: وقد نبه ابن الحاج كثيرا على ضرورة مراعاة حاجات الطفل، ومنها:
أ- اهتمامه بتغذية الطفل.
ب- مراعاة حاجة التلميذ إلى اللعب والاستجمام للترويح عن النفس.
د- تشويق التلاميذ للتعليم عن طريق الحفلات المدرسية وتزويق الألواح.
طرائق التدريس ووسائل التأديب
وتعرضت الدراسة التي إلى الآراء التي اعتقد بها ابن الحاج العبدري في مجال طرائق التدريس ووسائل التدريب، وهي كالتالي:
أولًا، طرائق التدريس:
- حل ألفاظ الكتاب أولا ثم تفريع المسألة.
- التدرج في الشرح ومراعاة الفروق الفردية.
- التعليم الجماعي.
ثانيًا، وسائل التأديب:
1- تعديل السلوك، وبناء السلوك عند ابن الحاج قائم على تعزيز السلوك المرغوب فيه وإطفاء السلوك غير المرغوب فيه، وهو بذلك من أوائل الذين دعوا إلى هندسة السلوك والتربية، قال: “ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود؛ فينبغي أن يكرم ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحيان مرة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر أنه يتصور أنّ أحدُا يتحاشى عن مثله، سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه، فإن إظهار ذلك ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة بعد ذلك، فإن عاد ثانيًا فينبغي أن يعاقب سرًّا”.
2- الأصل في معاملة المعلم للتلاميذ الرحمة والشفقة والرفق.
3- مراعاة تباين الطلاب في تقلبهم للأساليب التربوية.
4- التدرج في العقوبات: فرُبّ صبي يكفيه عبوسة وجهه عليه، وآخر لا يرتدع إلا بالكلام الغليظ والتهديد، وآخر لا ينزجر إلا بالضرب والإهانة، كل على قدر حاله، وقد جاء أن الصلاة لا يضرب عليها إلا لعشر فما سواها أحرى”.
5- ضوابط التأديب:
أ- لا يجوز الضرب للطالب الذي لم يبلغ العشر من العمر.
ب- لا يزيد على ثلاثة ضربات إن أمكن، وإن احتاج إلى مزيدٍ من الأدب فلا يتجاوز العشر.
ج- أن لا يكون السوط بمثل ما يضرب به في الحدود والتعزير.
د- المعلم ضامن لما قد يصيب الطفل من ضرر جراء الأدب إن زاد عن عشر.
هـ- تحذير المعلمين من المبالغة في الضرب أو استخدام آلات مؤلمة في الضرب.
و- لا يجوز للمعلم شتم التلاميذ.
ز- ينبغي على المعلم ألا يؤدب وهو غضبان.
ح- تكرار العقوبة يفقدها قيمتها.
ابن الحاج والمرأة
واهتم بن الحاج العبدري بتعليم المرأة، وشدد على ذلك كثيرًا، وفي الوقت نفسه رفض التعليم في المدارس الأجنبية لجميع الأولاد، حيث قال:
- ينبغي على الرّجل أن يهتم بتعليم أهله.
- ويحق للمرأة الخروج بغير إذن زوجها إن منعها من التعليم.
- وقال إن التعليم إجباري للمرأة.
- ولو طلبت المرأة حقّها في أمر دينها من زوجها ورفعته إلى الحاكم وطالبته بالتعليم لأمر دينها؛ لوجب على الحاكم جبره على ذلك كما يجبره على حقوقها الدنيوية؛ إذ إن حقوق الدين أولى.
- وحذّر ابن الحاج من المدارس الأجنبية، أو ما عرف في عصره بكتاتيب النصارى.
ورغم ذلك سجِّل ابن الحاج اعتراضه – بطريقة تربوية- على اتِّباع بعض النساء عادات اليهود اليومية، فيقول: “إنهنَّ لا يشترين فيه – أي: يوم السبت – السمكَ، ولا يأكلنه، ولا يُدخلنه بيوتهن، وهذه خَصْلة من خصال اليهود، وكثيرٌ منهن لا يدخلن فيه الحمام، ولا يشترين فيه الصابون، ولا السدر، ولا الأشنان، ولا يغسلن فيه الثياب، وهذه كلُّها من خصال اليهود”.
وقد رفض – أيضًا- اتباع بعض النساء عادات النصارى، فمنها أنهنَّ: “لا يعملن في ليلة الأحد ولا في يومه شغلًا”.
ولم يترك بدع العوامِّ تمرُّ بلا نقد؛ فتناول عاداتهم في الفأل والطِّيَرة وغيرهما، ثم يُورد ردَّه على اعتقاد البعض في أنه إذا دخل الحمام أربعين أربعاء يُوسَّع له في رزقه، فردَّ بأن هذا يُخالف صحيحَ الدين الإسلامي الحنيف، وما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم-، ثم يعود ليرفض عادة النساء في الاحتفال بعاشوراء، حيث تخرج بعضهن إلى الجامع العتيق بمصر متبرجات وفي كامل زينتهن وكشف بعض أبدانهن.
المصادر:
- خير الدين الزركلي: الأعلام، 7/35.
- ابن فرحون: الديباج المذهب، ص ٣٢٧.
- ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة، ٤/٢٣٧.
- محمد مخلوف: شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، ص ٢١٨.
- جلال الدين السيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، ص ٩٧.