السؤال
ابني يبلغ من العمر سنتان ونصف، تعرض لرؤية عنف أسري من الأب للأم وأصبح يخاف من الأب بعدها لفترة، ومع أي صوت عالٍ أصبح يخاف بشدة، وأصبحت نوبات الغضب أصعب بعدها، وصار يستيقظ من النوم مذعورًا، كيف لي أن أساعده في تخطي ما حدث، وهل الانفصال يؤثر عليه؟ وكيف أجعله في حال أفضل إذا حدث انفصال؟
الرد
ابنتنا الكريمة: أهلا بكِ ضيفة كريمة في موقع المنتدى الإسلامي العالمي للتربية، وعلى صفحاته في مختلف وسائل التواصل.
يُسِيئُنا تعرضكِ لعنف من زوجك، ونشعر بالأسى من الأزواج الذين لا يملكون أنفسهم حين الغضب، ولا يلتزمون بقول الله- تعالى-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ} (النساء: 19)، ولا يتبعون وصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قال: “استوصوا بالنساء خيرًا”.
ونحن إذ لم نستمع لرواية الزوج كي نعرف ما يستثير حفيظته، نسألكِ هل قمتِ بمحاولة فهم أسباب غضبه؟ ولماذا تطور الأمر لهذا العنف؟
لا لوم عليك ابنتنا الكريمة، لكن قبل أن نساعدك في تخطي أثر ما حدث على ولدك؛ نجتهد أن نعينك على أن تحيي حياة طيبة مع زوجك، وألا يتكرر الأمر مرة ثانية، حتى لا تصلي لمرحلة التفكير في الانفصال.
أكثر الزيجات- مع الأسف- ينقصها الفهم عن الآخر، وتعلم مهارات التواصل وحل المشكلات، بل الأكثر من ذلك، يصطحب الطرفان خبراتهم السابقة؛ التي استقوها من الأهل والمجتمع ويطبقونها على الطرف الآخر، سواءً كان هذا التطبيق واعيًا أو يخرج تلقائيًا مع أول خلاف.
فذكريات الطفولة، وطريقة التربية، والبيئة المحيطة، وسمات الشخصية، والبرمجة في اللاواعي = هي عوامل تساعد على حدوث العنف داخل الأسرة، ولا سبيل للتخلص من هذا العنف، إلا بإدراك ما هي المثيرات التي تتسبب في حدوثه؛ فإما نلجأ لمتخصص نتعلم منه كيفية التعامل مع الآخر، أو نطالع مقاطع مصورة أو بالقراءة.
ولا نعتبر أن ما حدث هو نهاية المطاف، الأصل في كثير من البيوت أن تكون المشاكل في قمتها في بداية الحياة الزوجية، حتى يفهم الزوجان عن بعضهم أكثر، ولا يكون ذلك إلا:
- بالحوار الهادئ بعيدًا عن أوقات الغضب.
- وصنع ذكريات طيبة في أوقات الإجازات والأعياد.
- واجتهاد كل طرف لإسعاد الآخر وتلبية حاجاته.
- وعدم رفع سقف التوقعات عن الآخر.
- والكثير من التغافل، فما زال التغافل من شيم الكرام؛ لأن الوقوف على كل هنة يوغر الصدر ويكدر العيش.
كما أنه من الأهمية بمكان أن تتعلمي ما هي حاجات زوجك التي إذا لم تُؤَدَّ تَنَغَّصَ العيش، كما عليك توضيح حاجاتك وأولوياتك واهتماماتك.
تناقشا فيما يثير حفيظتكم حتى يتجنب كل منكما إيذاء الآخر، فتنعموا بحياة مستقرة سعيدة، كما أراد الله للبيت المسلم أن يكون ملؤه المودة والرحمة والسكينة، لا التفكير في الانفصال.
يشترك جميع البشر في حاجات أساسية كالحاجة للطعام والشراب والمسكن والحاجة إلى الشعور بالأمان، والحاجة إلى التقدير. وكلما أشبعنا هذه الاحتياجات لدى من نحب، حصلنا على علاقات متزنة مستقرة. وكلما كان هناك تقصير أو إهمال يكون ذلك مدعاة لحدوث شجار يستتبعه عنف -لا قدر الله-.
كما نحتاج إلى وضع أسس للحفاظ على البيت. فشاركي زوجكِ في وضع أسس للعيش تعتمد على:
- احترام اختلاف الشخصيات.
- مناقشة ما يحب ويكره الآخر، ولكن يجب أن يكون النقاش حول ما إذا كان بإمكانك تلبية تلك الأمور أم لا.
- على الزوج ألا يجبر زوجته على فعل شيء في غير استطاعتها، فإن طلب من زوجته شيئًا وهي لا تقدر عليه، فليتلمس طاقتها وقدرتها على فعل المطلوب، وأن يطلب بطريقة تعينها على البذل والتضحية. وليترك لها الوقت حتى تعتاد على ما لم تعتد عليه، وليعِنها بالثناء عليها حين إتيانه، وغض الطرف عند نقصانه. هكذا تُصنع المودة، نبتغي بها وجه الله، نرضي الله في إرضائنا لأزواجنا، فيرضى الزوج عن زوجته بالتبعية.
- لا تناطح الزوجة زوجها وترد كلمة بكلمة، اتركي غضبه يهدأ ثم تفهمي أسبابه. ربما لو عرفتِ دوافعه لعذرتيه، وربما بل الأكيد أنه نادم على ما فعل، فأعينيه على الصفح والتجاوز، يجزيكِ الله خيرًا أن كنتِ من العافين عن الناس وأولى الناس بكِ زوجك.
أما بخصوص مشاهدة ابنكِ للحظات العنف هذه وسؤالكِ عن كيفية تخطيه ذلك، فنبشركِ أنه من نعم الله عليكِ في هذا الموقف أن الطفل قبل عمر الثالثة يُكَوّن الذاكرة بصعوبة شديدة، فجهازي (الحوفي والحصين)، الموجودان في المخ لا يكونان متطورين بشكل كامل حتى عمر 3 سنوات تقريبًا، وهذا جزء مهم في تخزين الذاكرة، كما أن لغة الطفل في هذا السن لا تساعده على وضع سياق للأحداث وتنسيقها. فعلميًا، ما رآه سينمحي بمرور الوقت، شريطة ألا يتكرر، وأن يعوضه الوالد بالاحتضان واللعب وإحضار الحلوى، فيزول الخوف المؤقت الناشئ من رؤية الطفل لما حدث.
أخبري زوجكِ بتأثر الطفل واختاري أسلوبًا مناسبًا حتى لا تتبادلوا الاتهامات بدلًا من متابعة مصلحة الطفل. ما حدث أن الطفل تكون لديه ارتباط شرطي برؤية والده وتذكر العنف، فالمطلوب من الوالد نفسه أن يغير هذا الارتباط الشرطي الخاطئ بارتباطات شرطية جديدة سعيدة. ذكريه بلطف أن هذا الطفل في مسئوليتكم شرعًا وأنتم محاسبون على سلامته النفسية والعقلية.
إن أجمل ما تهدين ولدكِ هو تعويضه بمشاهد أجمل تنسيه. اصنعي الود صناعة، وأتقني فيه؛ فيقينًا بين كل زوجين مساحة للمشاعر الطيبة والذكريات الجميلة بعد أن تتخطي هذا الموقف العنيف مع الزوج وذلك بتفهم الأسباب ووضع الحدود وأخذ العهود، وتوضيح أنكِ لن تسمحي بتكرار ما حدث، والاعتذار إن كنتِ سببًا ولو بشكل غير مباشر في وصوله إلى هذا المنحنى من الغضب، بعدها تجاوزي ما حدث، ولا تظلي أسيرة لهذا الموقف.
فكم كانت بدايات يشيب لها الولدان وهدى الله الزوجين وألف بين قلبيهما. وإذا ما أدركنا أن الطفل يستقي نظرته للعالم من خلالكم، ستدركون معًا أهمية إصلاح ما حدث. كما عليكم أن تدركوا أن تعرضه لهذا العنف مجددًا سيؤثر على:
- متانته النفسية.
- صورته عن العالم أنه مكان غير آمن.
- حجم الدماغ، مما يؤثر على معدلات نمو الطفل الطبيعية، فقامت دراسات بقياس حجم مخ الطفل المعنف في مقابل الطفل الآمن ووجد فرق في القياسات.
- تعامله مع الآخرين، فيختار العزلة حتى لا يتعرض للأذى.
- كلما كبر في بيئة غير آمنة، انخفضت ثقته بنفسه، ونظر لنفسه على أنه شخص غير محبوب، وأنه عديم القيمة.
بمجرد أن يستوعب الزوج آثار العنف على ولده، فحتمًا سيبحث في التغيير وعدم تكرار ما حدث. فرفع وعيكما بأدواركما التربوية أمر ضروري، وإحاطتكم بمجتمع متزن يشعر فيه الطفل بالأمان لهو أمر في غاية الأهمية. كما أن الاحتضان يشعر الطفل بالأمان، ولا تنسَ دور الأذكار في صرف الشيطان عن البيت، والدعاء بصلاح الزوج، وأن تقر عينكِ بولدكِ؛ أمورٌ أساسية في العلاج والإصلاح.
وليتذكر الرجال قول حبيبنا المصطفى ﷺ لأمنا عائشة: “ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه”. كما نذكرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الشَّديدُ بالصُّرَعةِ، إنَّما الشَّديدُ الذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضَبِ”.
فاتقوا الله في زوجاتكم فإنهن أسيرات عندكم. ونختم كلامنا بالجزء الآخر من سؤالكِ. نعم، الانفصال يؤثر على نفسية الطفل ونفسيتكِ أنتِ أيضًا، فاجعليه الحل الأخير بعد أن تستعيني بالله وتسعين لإصلاح حقيقي. وإذا سُدّت الأبواب في وجهكِ ولم يبقَ إلا قرار الانفصال، تكونين قد أخذتِ بجميع الأسباب، وبالتالي تتحملين تبعات مثل هذا القرار من إيجاد من يحل محل الأب، فالطفل بحاجة إلى وجود ذكر في حياته، فإن غاب الأب حل محله جد أو خال أو أخ.
ندعو الله أن يعينكِ على الإصلاح وأن يهدي لكِ زوجكِ، وأن تكونا عونًا لبعضكما البعض في الأخذ بيد طفلكما لحياة آمنة مستقرة سعيدة.