إنّ أفضل ما يُمكن أن يفعله المسلم بعد الوقوع في الذنب هو المبادرة بالتوبة واللجوء إلى الله – عز وجل- وطلب الغفران، لأنّ آثار المعصية لا يتحملها العبد، بل إن صلاح المسلم مع ربه، يكون بمقدار طهارة روحه، فكلما هجر الرجس وأحسن تطبيق العبودية لله واجتهد في ذلك، ازدادت السبيل وضوحًا، وعاين نتائج عمله، أما إذا آثر الحياة الدنيا ولبّى طلبات النفس الأمارة بالسوء، وارتكب المعاصي بغير توبة، فسيتحوّل بعضها إلى منغصات ذات انعكاسات سلبية على حياته.
وساق الباحث مختار محمد لوح، في دراسة له، أدلة نقلية ومواقف تاريخية تؤكد صحة هذه الأطروحة، حيث تطرّق إلى آثار روحية ومادية ذات صلة بمعاصي الفرد والمجتمع، نشير إلى بعضها، لتكون دليلا ومصباحًا يُنير طريق السالكين.
آثار المعصية على الروح والنفس
ومن أخطر آثار المعصية التي تمس الروح والنفس، حيث يكون القلب جاهزا ومهيئًا لاستقبال المعاصي واستضافتها، وذلك الخسران المحتم الذي ينتهي بإحباط العمل والعبادة، وزيادة المعاصي التي قد تؤدي إلى:
- الشرك بالله: فهو معصية نتائجها وخيمة، لأنها الخسران المحتم في الآخرة، حيث لا أمل لمن مات على الشرك في النجاة من عذاب النار، لأنه يصل الآخرة دون زاد، فإن كان طائعًا فقد حبطت طاعاته: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر: 65).
- الردة: وهي -أيضًا- من المعاصي المُحبطة للعبادات: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ …) (البقرة: 217).
- سوء الأدب تجاه النبي – صلى الله عليه وسلم-: وقد يكون إما برفع الصوت عند حضوره، وإنه لمعصية خافية لولا البيان القرآني الذي جعله يحبط الطاعات، سواء كان هذا الرفع في حضوره أو في غيابه، كتقديم كلام آخر على كلامه: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات: 2)، وإمّا بمحاجته كما حدث في القصة السابقة مع ذي الخويصرة التميمي.
وتتأثر النفس كما الروح من الذنوب والمعاصي، فتَخلد في سفاسف الأمور، وتظهر في الحالات التعسة التي تلحق بالمسلم همومًا وغمومًا، وأحلامًا مزعجة لا تكاد تفارقه ليلة، هذا الفتور الذي يصيبه في أكثر الأحايين بحيث يصبح هامدًا ذابلا في الطاعات، ذاك الكسل الذي يلازمه عند الصلاة، ذلك الحرمان من الإحساس بالقيم الإسلامية، هذا الافتقار إلى الربانية في معاملاته، والاحتساب المفقود لدى ممارسة الشعائر الدينية والأعمال العادية.
إنّ هذه الغفلة التي لازمته، الغفلة عن المراقبة والعجز عن الخشوع حتى إذا انتهى من الصلاة نسي السورة التي قرأها! يقرأ القرآن ولا يتجاوز شفتيه ولا يستطيع معاينة الحسنات الجزيلة ولا الشعور بالدرجات المرفوعة، ولا الخطايا المنحطة عند خطوات المسجد أو انتظار الصلاة، لا يذكر الله تعالى إلا قليلا، وإذا ذكره يومًا لا يحس بعظمة المذكور الذي شرفه بذكره، وذكره في ملأ أفضل.
ويحسن أن يسأل هذا المسلم لماذا تحوّل كذلك؟، ولا شك أنّ هذه حالات شقاء وتصرفات ذل تصدر من النفس، بسبب اتّباع الهوى الذي يجعل الفرد في أحوال مسكنة وندامة وحسرة لا تزول إلا بصدق الإنابة والتوبة النصوح، وإلا يظل مثل الذي: (… أخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ …) (الأعراف: 176).
وقد أمرنا الله – تبارك وتعالى- بمخالفة هوى النفس، فقال: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (النازعات: 40) فهو الهوى الذي ألجم عقل الإنسان وروحه وفكره. ومخالفة هذه المعصية – كما قال عنها سيد قطب رحمه الله-: هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان وكل معصية، وهو أساس البلوى وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى، فالجهل سهل علاجه، ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأجل لعلاجها.
آثار المعصية المالية
وتُصيب آثار المعصية جانبًا محسوسًا يشعر به الفرد ويظهر على المجتمع، وهو الجانب المالي والمادي، فكم نرى موظفًا يتقاضى راتبًا قياسيًّا لكنه يظل في ضنك من الحياة، لأنّ النفقات لا تغطي احتياجات أسرته من الغذاء والكساء والدواء، وقد يبني قصرًا أو بيتًا فاخرًا ثمّ يخر عليه السقف من فوقه، أو يشتري سيارة ذات طراز نادر، لكن لا يلبث أن تصطدم أو تُسرق أو تتعطل.
وقد يُصاب الإنسان بمرضٍ عضال يلزمه الفراش، ولا يستطيع الاستفادة من المال الذي جمعه وعدده، وربما تشتت الأسرة وتنتشر العداوة والبغضاء والإحن وسوء التفاهم بين الأبناء والآباء والأمهات، وتظهر الخصومات والاشتباكات، وتمتد آثار ذلك إلى الجيران والأصدقاء، بل إلى أماكن العمل أحيانًا.
كل هذه الآثار، إذا لاحظها المرء في حياته فليتهم نفسه، ولينظر إلى حاله، لعله يرى معصية ارتكبها لم يتب بعدها، هل تعامل مع البنوك الربوية بغير عذر؟ هل تأخّر أو غاب عن عمله دون حجة معقولة؟ هل قام بفساد إداري في كهرباء المؤسسة أو مياهها أو تهويتها أو هواتفها؟، هل استهلك بنزينها لأغراض شخصية بإيصال مختلق؟، هل سافر باسم المؤسسة وزاد المسافة في ورقة الانتقال رغبة في تعويضات أكثر؟، هل استهلك الميزانية التي بررها بفواتير وهمية؟: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الأنفال: 53).
ولا تنتهي آثار الذنوب عند الفرد، فالمجتمع يتجرع – أيضًا- من سمومها، فهناك كوارث مالية وبيئية جماعية كالأسواق والمحلات التجارية المحترقة، المجهولة أسباب حريقها والتي تذهب بملايين الدولارات وتحصد العديد من الأرواح، كما نجد الآفات الزراعية التي تتمثل في القحط المتكرر أو غزوات الجراد، بعد ما ظن أهلها أنهم قادرون عليها: { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ}.
والمدقق في هذه الأحداث يرى أنّ السبب الغالب يكمن في الزكوات المرفوضة، والحقوق المغصوبة وغيرها من المعاصي المسكوت عنها، فليس بدعًا إذن أن تتحول تلك المعاصي نارًا تُعذب صاحبها في الدنيا كما ستعذبه في الآخرة: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:35).
ويرجع المفكر الإسلامي محمد أحمد عبدالهادي رمضان، الكوارث إلى المعاصي والإعراض فيقول: “يمكننا رصد العديد من الملمات والزلازل والأحداث والسيول والفيضانات والانهيارات والتفجيرات البركانية الهائلة التي مست التجمعات البشرية، والتي ترجع- حسب العرض القرآني- إلى الإعراض عن اتباع ذكر الله، والاستهزاء بذاته سبحانه وتعالى وبرسالاته لأنبيائه، والنكوص عن الوفاء بعهد أبينا آدم عليه السلام الذي قطعه أمام ربه بعد أن تاب عليه، والإفساد والطغيان والظلم والاستكبار والعلو بغير الحق في الأرض، وليس له في القرآن تفسير غير هذا”.
وللتخلص من هذه الآثار، يتزود المسلمون بعزيمة الإقلاع عن الذنوب، لأنه: “إذا ظهرت العزيمة على ترك المعاصي، وجد القلب قوة على زجر النفس، ورفض ما عزمت عليه، فانقمعت النفس وذابت، وسكن غليان الشهوة، وماتت اللذة، وسكنت العروق، ودرست صورة تلك المعصية عن الصدر”.
الأدلة التاريخية على أثر المعاصي
ومَن ينظر في التاريخ الإسلامي على تعدد مراحله، يجد آثار المعصية واضحة، سواء في صدر الإسلام أو ما بعده من أحداث، وسنكتفي ببعضها فيما يأتي:
لمّا حاصر المسلمون بني قريظة ليالي عدة وأعياهم الحصار، طلبوا من الرسول – صلى الله عليه وسلم- أن يُرسل إليهم أبا لبابة، ليستشيروه “… وقالوا له: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده”.
أما أثر ذنب أبي لبابة – رضي الله عنه- فقد تمثّل في هذا الارتباط ست ليال حتى كانت زوجته هي التي تفكه ليتمكن من الوضوء والصلاة.
ونستدل بمعصية ذي الخويصرة التميمي الذي أساء الأدب مع الرسول بعد غزوة حنين، فقال عنه الرسول – صلى الله عليه وسلم-: “فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية .” إعلانا لحتمية ردته كأثر لمعصيته. هذا بالإضافة إلى معصية كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع الذين سمّاهم القرآن بالثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك.
أدلة نقلية
وهناك أدلة نقلية على أثر المعصية على الفرد والمجتمع، نذكر منها ما يلي: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30)، وقول الله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14﴾ (المطففين: 14).
يُعلّق الطبري على الآية الأولى: يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم فبما كسبت أيديكم، يقول: فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما أجرمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر”.
وعن الرّان المذكور في الآية الثانية، قال: عن أبي هريرة – رضي الله عنه-: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل منها، فإن عاد عادت حتى تعظم في قلبه، فذلك الران الذي قال الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ويقول ابن القيم، إنّ الصدى والران والطبع والقفل والختم من آثار الذنوب، وذلك أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب عليه الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعا وقفلاً وختما، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد، وبمثل هذا اتخذ الشيطان من البشر دعاة وجنودا.
المصادر:
- سيد قطب: في ظلال القرآن، (6 /3818).
- ابن القيم: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، 1/90.
- محمد أحمد عبد الهادي رمضان: الكوارث في القرآن الكريم
- أثر المعاصي على قلب العاصي