إنّ العلماء ورثة الأنبياء، ومنارات الأرض، وخيار الناس في كل مكان وزمان، لأنهم حُرّاس الشريعة والعلم؛ وهؤلاء مثل الشجرة الطيبة المثمرة التي ينهل الناس من ثمارها علما وأدبا وأخلاقا، وبغيابهم ينقص العلم وتُفتقد الأخلاق.
والعالم الشيخ مصطفى السباعي، اسم لا يجهله أحد في ربوع العالم الإسلامي، كونه شامة من شامات علماء الشّام وأحد مُجددي الإسلام بها ومقاومي الاستعمار الغربي والصهيوني، وقد كان له بصمات في التربية والدعوة إلى الله- تبارك وتعالى- فتأثر به كثير من الشباب وساروا على دربه.
نشأة مصطفى السباعي
ولد مصطفى السباعي في مدينة حمص السورية عام 1334هـ/ 1915م، ونشأ في أسرة علمية عريقة معروفة بالعلم والعلماء منذ مئات السنين، فوالده وأجداده كانوا يتولّون الخطابة في الجامع الكبير بحمص جيلًا بعد جيلٍ، وقد تأثر مصطفى بأبيه الشيخ حُسني السباعي الذي كانت له مواقف مُشرفة ضد الأعداء المستعمرين، حيث قاومهم بشخصه وجهده وماله وتشرب معاني الوطنية الإسلامية الحقيقية.
ليس ذلك فحسب، بل كان الشيخ حسني أحد محبي الخير ومؤسسي الجمعيات الخيرية الإسلامية والمشاريع الاجتماعية، مما كان له الأثر الكبير في نشأة ابنه مصطفى الذي تميز منذ نعومة أظفاره بالنباهة والذكاء وحب العلم، فحفظ القرآن وهو صبي، وتلقى ألوان العلوم الشرعية على يد والده، وكان يذهب معه إلى مجالس العلم، التي يحضرها علماء حمص.
وأنهى السباعي دراسته الأولية الشرعية في مدارس حمص عام 1930م، وكان الأول على زملائه، وفي عام 1932م سافر إلى مصر والتحق بالأزهر، وانتسب إلى قسم الفقه، ونال الإجازة من كلية أصول الدين بتفوق.
ولمّا عاد إلى حمص عمل بالتدريس عام 1944م، فدرّس مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية في ثانويات حمص، وشارك في تأسيس (الرابطة الدينية)، ثم انتقل إلى دمشق، فأسس (المعهد العربي الإسلامي)، وكان أولَ مديرٍ له، وشارك في تأسيس (جمعية شباب محمد صلى الله عليه وسلم) و(جمعية الشبان المسلمين)، وفي عام 1950م عُيّن السباعي أستاذًا في كلية الحقوق بالجامعة السورية.
ظلت حياته كلها شعلة من النشاط من أجل دينه وأمته حتى أصيب بشلل نصفي، ومن الغريب أن فترة مرضه على قسوتها وشدتها، كانت من أخصب أيام حياته، وأكثرها إنتاجًا من الناحية العلمية، يقول د. محمد أديب الصالح: “كان السباعي- رحمه الله- حريصًا كما علمت منه قبل وفاته بيوم واحد على كتابة مؤلفات ثلاثة هي: العلماء الأولياء، والعلماء المجاهدون، والعلماء الشهداء”.
تُوفّي يوم السبت 27 جمادى أول 1384هـ/ 3 أكتوبر 1964م بمدينة حمص، بعد حياة حافلة بالجهاد المتواصل، وقد شيعت جنازته في احتفال مهيب، وصُلّي عليه في الجامع الأموي بدمشق.
علاقة مصطفى السباعي بالإمام البنا والإخوان
حينما وصل مصطفى السباعي إلى مصر كانت دعوة الإخوان قد انتقلت إلى القاهرة وبدأت تسري وسط جموع الطلبة، فسمع السباعي عن كينونة هذه الحركة فاقترب منها وتعرف إلى مرشدها وأعجب بفكره وفهمه للإسلام فعاهده على العمل على نشر الإسلام بهذه الصورة الواضحة الصحيحة.
ولما عاد السباعي لسوريا عرف أن بعض العلماء السوريين الذين كانوا في مصر قد تعرفوا إلى دعوة الإخوان وحملها كل واحد منهم لمحافظته فسعى لتوحيد الجهود حتى تم ذلك بالفعل عام 1944م واختير أول مراقب عام للإخوان في ربوع سوريا(2).
ولم يكن السباعي طالب علم فحسب، بل فهم الإسلام بمفهومه الشامل الوسطي، نتيجة تربيته ومعرفته بالإمام حسن البنا، وشارك في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا، وكان يلقي الخطب ويقود المظاهرات في حمص وهو في السادسة عشرة من عُمره، وقبض عليه الفرنسيون واعتقلوه أول مرة عام 1931م بتهمة توزيع منشورات ضد السياسة الفرنسية.
وعام 1933م ذهب إلى مصر للدراسة الجامعية بالأزهر، وهناك شارك إخوانه المصريين عام1941م في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني كما أيد ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الإنجليز، فاعتقلته السلطات المصرية بأمر من الإنجليز مع مجموعة من زملائه، وبقوا في المعتقل قرابة ثلاثة أشهر، ثم نقلوا إلى معتقل (صرفند) بفلسطين حيث بقوا أربعة أشهر، ثم أطلق سراحهم بكفالة.
وحينما اندلعت حرب فلسطين لبس السباعي ملابس الحرب وقاد كتائب المجاهدين من قطنة إلى القدس عام 1949م غير أنه شاهد خيانة الحكام العرب بعينه، وحينما عاد سجّل كل ذلك في كتاب. وفي عام 1952م تقدم هو إخوانه بطلب إلى الحكومة السورية للسماح لهم بمشاركة إخوانهم المصريين في محاربة الإنجليز بقناة السويس، فما كان من رئيس الحكومة أديب الشيشكلي إلا أن أمر بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال السباعي وإخوانه وإلقائهم بالسجن، ثم أصدر أمرًا بفصله من الجامعة السورية وأبعده خارج سوريا إلى لبنان.
جهود السباعي التربوية والدعوية
وترك مصطفى السباعي رصيدًا كبيرًا في مجالي التربية والدعوة إلى الله- عز وجل- حيث عمل وإخوانه على إدخال مواد التربية الإسلامية إلى المناهج التعليمية، وسعى إلى إنشاء كلية الشريعة في الجامعة السورية، ثم شرع في إنشاء موسوعة الفقه الإسلامي التي أسهم فيها العلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي لتقديم الفقه في ثوب جديد، يعالج قضايا العصر ويحل مشكلاته على ضوء الكتاب والسنة وفقه السّلف الصالح، واجتهاد العلماء الذين يملكون وسائل الاجتهاد وأدواته.
ولما انتقل السباعي من حمص إلى دمشق للعمل في جامعتها، لم تمض سنوات حتى دخل معترك العمل السياسي وانتخب نائبا عن دمشق في برلمان 1949م، فكان الصدى الحقيقي المعبر لأماني الشعب وآلامه، والصوت المدوي الذي يصدع بالحق ولا يداري، ويقارع الباطل ولا يهادن، ويترفع عن المكاسب والمغانم ولا يساوم، فاتجهت إليه الأنظار والتفت حوله القلوب.
وانتخب السباعي نائبا لرئيس البرلمان السوري، وأصبح عضوا بارزا في لجنة الدستور، وكان أحد الأعضاء التسعة الذين وضعوا مسودة الدستور، وقاد معركة القرآن تحت قبة البرلمان، كما قاد المظاهرات في دمشق من أجل الدستور، وتمكن وإخوانه من استبعاد الطابع العلماني عن الدستور، وفرض الطابع الإسلامي على معظم أحكامه الأساسية سنة 1950م.
وفي عام1951م حضر السباعي المؤتمر الإسلامي العام، الذي انعقد في باكستان وحضرته وفود من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وفي عام 1953م عقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس وحضره ممثلو الإخوان المسلمين من جميع الأقطار، وكذا الجمعيات وممثلو الشعوب الإسلامية، وفي السنة نفسها زار السباعي مصر.
وفي عام 1954م عقد المؤتمر الإسلامي المسيحي في بحمدون بلبنان، وشارك فيه السباعي للرد على أعداء الإسلام من المستشرقين والصليبيين، كما حضر اجتماع لبنان الذي دعا إليه الأستاذ حسن الهضيبي- المرشد الثاني للإخوان المسلمين-، حيث ضم قادة الإخوان المسلمين في البلاد العربية.
وبعد عودة الهضيبي إلى مصر واعتقاله شكل الإخوان المسلمون في البلاد العربية مكتبا تنفيذيا تولى السباعي رئاسته، وفي عام 1955م، كما أسس مع إخوانه (مجلة الشهاب) الأسبوعية، ثم حصل على ترخيص إصدار مجلة (المسلمون) الشهرية.
وفي عام 1956م عقد المؤتمر الإسلامي بدمشق وفي السنة نفسها أوفدته الجامعة السورية إلى ديار الغرب لزيارة الجامعات الغربية والاطلاع على مناهج الدراسات الإسلامية فيها، واجتمع فيها بالمستشرقين وناقشهم في مؤلفاتهم عن الإسلام وكشف لهم أخطاءهم العلمية والتاريخية.
ونادى السباعي بالتكافل الاجتماعي لسد حاجات الفقراء واليتامى والمسنين والغارمين وأبناء السبيل، وكان يرى أن الدولة تنهض بكفالة هؤلاء، وأنشأ لجانا لجمع التبرعات والإعانات وتوزيعها على المحتاجين، وكوّن (اللجنة التعاونية) لجنة دائمة تسعى لتحقيق هذا الغرض.
وتبنى مفهوم الاشتراكية الإسلامية عندما كان عضوًا في الجمعية التأسيسية، ثم كوّن (الجبهة الاشتراكية الإسلامية) في البرلمان، منطلقا من أن الإصلاح والعدل الاجتماعيين يمثلان ركيزتين أساسيتين للفكر الإسلامي الذي يدعو إليه الإخوان المسلمون ويتبنونه.
وكان لتربية السباعي على يد والده وكثير من العلماء، واحتكاكه المبكر بجماعة الإخوان المسلمين والإمام البنا أثره في رؤيته لكثير من القضايا حيث لم ينظر إليها من ثقوب ضيقة بل نظر للجوانب الإيجابية التي تتوافق مع شريعة السماء، بحيث لم تبهره المظاهر، ولم يخدعه المخادعون والمنافقون والدجالون الذين يروجون للفنون الرخيصة.
يقول السباعي: “ليس صدفة ولا عن حسن نية أن توجه طاقات شبابنا وبناتنا إلى الرسم والرقص والغناء… إنها خطة استعمارية تنفذ من أموال الشعب على أيدي بعض الأغرار.. وليست هذه حملة على الفن بمعناه العلمي، ولكنها حملة على هذا الغناء المنحل، وعلى هذا الرقص الفاجر المثير، حين يطلق على هذا وذاك اسم (الفن) ويذهبون إلى تمجيده، والإشادة به، وتسليط الأضواء على كل ماجن مستهتر، استهواء لشبابنا وفتياتنا، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى استهوائهم بالبطولات في مختلف ميادينها”.
وقد كان السباعي أول من حمل لواء الدعوة إلى مناهضة الشيوعية في بلادنا بعد إطلاق سراحه من الاعتقال- خلال الحرب العالمية الثانية- في وقت كان الحلفاء الغربيون يتعاونون مع روسيا للقضاء على خطر هتلر، حتى كانت سفاراتهم هي التي تنقل النشرات الشيوعية وتوزعها على الناس بكل ما أوتيت من نفوذ، وكان رجال الدولة عندنا يحضرون احتفالات الشيوعيين، ويقفون عند سماع النشيد الشيوعي الرسمي، كما يقفون تماما عند النشيد السوري الرسمي.
ولم يكن السباعي ضيق الأفق، بل كان يفهم الإسلام كما جاء، لذا أولى المرأة اهتمامًا كبيرًا، وكان تقديره لأثرها في الحياة العامة والدعوة خاصة، عالياً، وقد قال: “لا بد للحركة الإسلامية المعاصرة من أن تشارك فيها المرأة”. فطالب بتعليمها.
وأصدر السباعي كتابه “من روائع حضارتنا” أبرز فيه أهم معالم الحضارة الإسلامية والأسس التي قامت عليها هذه الحضارة واختلفت فيها عن الحضارات الأخرى.
ومن الجهود الإيجابية في الرد على الاستشراق، كتابه القيم (المرأة بين الفقه والقانون) الذي أوضح فيه حقيقة موقف الإسلام من المرأة، وانتقد فيه وضع المرأة في الحضارات الأخرى وبخاصة الحضارة الغربية، وقد تناول موضوعات كثيرة تخص المرأة من أبرزها العلاقة بين المرأة والرجل وموقف تشريعات الإسلام من المرأة مقارنًا إياها بالتشريعات الغربية.
وزخرت المكتبة الإسلامية بثروةٍ ضخمةٍ وإنتاج متميز للسباعي، ومنها:
- هكذا علمتني الحياة (ثلاثة أجزاء).
- دروس في دعوة الإخوان المسلمين
- الصراع بين العقل والقلب
- شرح قانون الأحوال الشخصية (ثلاثة أجزاء)
- القلائد من فرائد الفرائد
- السيرة النبوية دروس وعبر.
- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي.
- المرأة بين الفقه والقانون
- اشتراكية الإسلام
- من روائع حضارتنا
- أخلاقنا الاجتماعية
- أحكام الصيام وفلسفته في ضوء القرآن والسنة
- دعوة الإسلام واقعية لا خيال
- الإخوان المسلمون في حرب فلسطين
- هذا هو الإسلام (جزءان)
- الدين والدولة في الإسلام
- المرونة والتطور في التشريع الإسلامي
- منهجنا في الإصلاح
- العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في التاريخ.
- عظماؤنا في التاريخ
- الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم
هكذا كانت حياة السباعي الذي قال عنه الشيخ القرضاوي: “كان الشيخ السباعي أحد الشخصيات الإسلامية النادرة في علمها وفكرها، وفي عواطفها ومشاعرها، وفي أخلاقها وسلوكها، وفي دعوتها وجهادها. كان خطيبًا وسياسيًّا يهز أعواد المنابر، ومحاضرًا يأسر سامعيه بعميق فكره، وجميل أسلوبه، ومؤلفًا متمكنًا يوثق أقواله بالأدلة العلمية، وزعيمًا شعبيًّا يقود الجماهير بكياسة وحكمة… وقائدًا إسلاميًّا يقود سفينة الدعوة بوعي وصبر وثبات”.
المصادر والمراجع:
- د. مصطفى السباعي.. العالم.. الداعية.. المجاهد، 2 نوفمبر 2003.
- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الكتاب الثالث، 2004م.
- عبد الله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، دار البشير، طنطا، مصر، الطبعة الثامنة، 2008.
- عبد الله الطنطاوي: مصطفى السباعي الداعية الرائد والعالم المجاهد، دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1422هـ – 2001م.
- مُصطفى السّباعي: هكذا علمتني الحياة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2014م.
- فتحي يكن: الموسوعة الحركية، دار البشير ـ عمان ـ الأردن ـ 1403هـ، 1982م.
- د.مازن بن صلاح مطبقاني: الشيخ المجاهد مصطفى السباعي رحمه الله تعالى أحد رواد دراسة الاستشراق في العالم الإسلامي، https://bit.ly/3S2I7Pj
- أيمن بهجت: د. مُصطفى السّباعي.. المجاهد الفقيه، إخوان اونلاين، 15 أكتوبر 2019، https://bit.ly/3EqAGy7
- محمد المجذوب: علماء ومفكرون عرفتهم، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، دار الاعتصام.
- إخوان ويكي: الدكتور مُصطفى السّباعي المراقب العام الأول للإخوان في سوريا، 11 فبراير 2014، https://bit.ly/3SOopI9