رفع الله سبحانه شأن أهل العلم كونهم ورثة الأنبياء الذين حملوا مشعل الرسالات من بعدهم، وهم حماة العقيدة والدين والأمناء على حياة الناس، ومنهم رفيق العظم أحد أعلام الفكر والتربية والإصلاح في القرن العشرين، حيث ترك بصمات في مجالات عدة وفق التصور الإسلامي الذي لم تخدعه المظاهر الخادعة سواء من الشرق أو الغرب.
وقد أخلص “العظم” لفكرة العروبة ذات التوجه الإسلامي إخلاصًا واضحًا ظل ملازمًا له حتى نهاية حياته عام 1925، وقد جسد هذا التوجه فى مجموعة أعمال فكرية مهمة منها: (البيان في أسباب التمدن والعمران)، و(البيان في كيفية انتشار الأديان)، و(أشهر مشاهير الإسلام).
نشأة رفيق العظم
في مدينة دمشق- عاصمة الخلافة الإسلامية الأموية آنفًا- وُلد رفيق محمود خليل العظم في أسرة عريقة عُرفت بالعلم والتربية، وهي أسرة آل العظم، ووالده الشاعر والأديب محمود العظم، حيث كانت ولادته عام 1284هـ/ الموافق 1867م.
لم يدفع به والده إلى المدارس الحكومة لعُقمها، لكن دفع به إلى شيوخ عصره يعلّمونه ويربونه، فأُغرم رفيق العظم مُنذ الصغر بالأدب والشعر وعلوم العربية من نحو وصرف وعلم المعاني، كما أخذ يدرس على يد كبار الأساتذة، أمثال: سليم البخاري، وطاهر الجزائري، وتوفيق الأيوبي، فتطبع بمثابرتهم العلمية وحبهم للبحث والدراسة.
وكان كثيرًا ما يُعاشر العلماء والأدباء والمتصوفة، ويطالع الكتب ودواوين الشعر لأجل التسلية، فكان بذلك شاعرًا ومؤلفًا في الأدب والتصوف، ما غرس في نفسه حب الإسلام والإعجاب بمبادئه التشريعية، وتاريخ السلف من صدور الصحابة والتابعين.
وبعد وفاة والده؛ أشرف أخوه على تعليمه، فأدخله مدرسة أجنبية بدمشق لتعلم اللغة الفرنسية بجانب العربية، كما تعلّم التركية، فثابر على البحث والاطلاع وأجاد الفرنسية والتركية.
يقول عنه الشيخ رشيد رضا: “كان رفيق ذكي الفؤاد ميالًا بفطرته إلى العلم والجد ومعالي الأمور، عزوفًا عن سفاسفها وصغائرها، وحُبب إليه البحث ومطالعة كتب الأدب والتاريخ، وكانت نزعته العلمية وكذا الاجتماعية إسلامية، حتى إن علماء الأقطار البعيدة الذين وصلت إليهم كتبه ورسائله بعد ذلك كانوا يظنون أنه من علماء الدين”.
ولمّا قامت الثورة العربية وتسلمت الحكومة الفيصلية مقاليد البلاد عاد “العظم” إلى سوريا زائرًا واختير في مجمعها اللغوي وعُرض عليه المناصب لكنه رفض وعاد إلى مصر بعدما ساءت صحته وأنهكه مرض الربو، وظل كذلك حتى رحل بعد صراع مع المرض- الذي لم يقعده عن مهامه الفكرية- يوم عرفة 9 ذي الحجة سنة 1343هـ الموافق 30 يونيو 1925م (1).
رفيق العظم والعمل السياسي
عاصر رفيق العظم كثيرًا من الأحداث التي شكلت شخصيته ودفعته بالتحرر عن الدولة العثمانية والدفاع عن الأوطان العربية، حيث اجتاحت جيوش الاستعمار البلاد الإسلامية، ووجهت سهامها إلى الدولة العثمانية حتى أنهكتها وأضعفتها، وبخاصة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى عام 1918م (2).
ونزع “العظم” إلى البحث في الاجتماع والتاريخ والأدب، وتعلق بالإصلاح وكتب فيه لما وجد من سوء أحوال العصر الإدارية والسياسية، فحمل على عاتقه الإصلاح الفكرى والسياسى في مجتمعه، وبلور أفكاره في نشاطه وكتبه، فاتصل بالسياسيين الأتراك الداعين لإصلاح أحوال الخلافة العثمانية ووضع دستورًا لها، فاقترب من العديد من الجمعيات السرية السياسية وساعده على ذلك معرفته القوية باللغة التركية، فكتب المقالات والكتب الداعية للإصلاح السياسي والمهاجمة للاستبداد والظلم.
استماله بعض السياسيين الأتراك إلى الاشتغال معهم في جمعياتهم السرية، فدخل أولًا في جمعية (الدستور) التي أسسها في الشام أسعد بك مدير البوليس فيها، ثم في جمعية (الاتحاد والترقي) قبل أن يكتشف أهدافها.
وحينما ضيقت عليه السلطات العثمانية؛ اضطر إلى أن يسافر لمصر، حيث التقى بكبار الكتاب والسياسيين في عصره أمثال مصطفى كامل، ومحمد فريد، الذين شجعوه على منهجه الإصلاحي السياسي والاجتماعي(3).
ولما هرب العظم إلى مصر عام 1894م اتصل بحلقة الإمام محمد عبده، وتعرف إلى كثيرٍ من السياسيين، وعمل على إذكاء جذوة التحرر القومي والعربي من خلال دعواته الإصلاحية التي جهر بها في مقالاته وكتبه، حيث فتحت الكثير من المجلات والصحف أبوابها مثل: “المقتطف” و”الهلال” و”المنار”.
ولم يقتصر جهوده على ذلك بل سعى مع صديقه الشيخ “رشيد رضا” في تكوين جمعية عربية سرية هدفها التأليف بين أمراء الجزيرة العربية لجمع شمل العرب وحفظ حقوقهم في الدولة العثمانية، وبخاصة بعدما رأى الهزيمة المنكرة للدولة العثمانية في حرب البلقان، حيث تزايدت احتمالات تقسيم بلاد الخلافة بين الإمبراطوريات الغربية.
وأنشأ جمعية الشورى العثمانية الحرة بمشاركة العديد من القادة والشخصيات العربية والتركية والجركسية والأرمن وأصدروا صحيفة خاصة بها، وكان يحرر القسم العربي فيها، وهي الجمعية التي اختلفت عن جمعية (الاتحاد والترقي) التي كانت ترتكز على العنصرية التركية في رفع الجنس الطوراني أما جمعية الشورى فكانت تهدف إلى حرية الشعوب كلها(4).
وأسس “العظم” حزب اللامركزية، للعمل على عدم انهيار الدول العربية بعد انهيار العاصمة الأستانة في براثن الغرب والعمل على الحفاظ على هذه الأقطار العربية.
يقول رشيد رضا: “إن حزب اللامركزية كان يراد به خدمة الدولة والبلاد العربية معا، وقد كنا نعتقد أن الدولة لا يمكن أن تعيش طويلًا إذا أصرت على شكل حكومتها المركزي، وتحكيم الترك في جميع شعوب الدولة، وكان العظم حريصًا على بقاء الدولة، وكان على هدى وبصيرة في ذلك”.
وأسس مع رفاقه حزب الاتحاد السوري الذي كان “العظيم” رئيسًا له، وكان فيه وفي غيره من التجمعات والأحزاب داعيًا إلى خدمة الدولة العثمانية والبلاد العربية عن طريق الإصلاح الداخلي لكل قُطر بأيدي نخبة صالحة من أبنائه يعملون على رفعته السياسية وإدارة شؤونه في ظل الخلافة العثمانية لئلا يصيب الأقطار العربية خطر الانهيار(5).
الخلافة العثمانية في فكر العظم
كان رفيق العظم ممن يرون في الخلافة العثمانية سبيلًا لرقي الإسلام ونهضة المسلمين وتربية الأجيال على الفضيلة، إذا تُركت مساوئها الأنانية، فرجعت عن حكم الفرد واستبداد السلطان، إلى حكم الشورى والخضوع للدستور وأخذت بوسائل التقدم الحضاري، جيشًا وتعليمًا وإصلاحًا، ورأى أن مجاهرة الخلافة بالانشقاق عليها والتحرش بها وهن في جسم الأمة الإسلامية، وهي كلها جسد واحد (6).
ودعا “العظم” إلى الوحدة العربية ومقاومة الاستبداد والظلم الذي كان منتشرًا في الدولة العثمانية، ومع ذلك لم ينسَ دينه والدفاع عنه، فهاجم طه حسين حينما شكك في القرنين الثاني والثالث من الدولة الإسلامية.
وطَرَقَ سمعه أن محاضرة علمية ألقيت بنادي المدارس العليا بالقاهرة تحدث فيها صاحبها عن التدوين في الإسلام حديثَ المنتقص، فإذا بالأستاذ “العظم” يُلقي محاضرة في المكان نفسه، ففنّد الرأي دُون أن يذكر أشخاصًا برفيع أخلاقه وتربيته الإسلامية القومية، وقد نشرت مجلة المنار محاضرته وكان لها صدى طيبًا في الأوساط العلمية.
وهاجم “العظم” فكرة اعتماد الدكتور طه حسين على أخبار القصاص في تصوير العصر الثاني والثالث للهجرة بأنه عصر شك ومجون، حين أشار إلى أنّ مثل هذه من كتب القصاص وضعت في ظرف أراد به الخلفاء صرف الناس عن أخبار الخلافة والسياسة، ومثل ألف ليلة وليلة وقصة عنترة العبسي وواضعها مجهول وأخبار الفتوحات.
وقد تنافس الرواة والقصّاصون في تدوين الأخبار ووضعها تارة مجموعة وتارة متفرقة في كتب الأدب كأخبار العشاق والشعراء والبخلاء والكرام وغير ذلك، فكان منها الغث والسمين ومنها الملفق والقريب من الصحة، وقد غالى بعض الإخباريين في إيراد أخبار المجون والتهتك والانغماس في الشهوات مغالاة تكاد تشهد على نفسها بالغلو والتلفيق لما فيها من العبث بالأخلاق والتجرد من كل معنى الأدب(7).
وكَرِهَ “العظم” الجمود الذي أصاب كثيرًا من العلماء والمفكرين الذين حصروا أنفسهم في قوالب جامدة بعيدة عن الاجتهاد والتطوير مع مراعاة الثوابت، فشن هجومًا ضاريًا على العلماء الذين أفتوا بحرمة الاجتهاد ودفعوا بالعقل إلى التحجر والتعبد بآثار السلف دون مناقشة ونقد، وخدّروا العامة بما شوّهوه من معاني الشريعة ونصوص الكتاب طمعًا في المنصب والثراء.
وقد تابع حملاته على الجامدين من العلماء في ثلاثة فصول متتالية، فتارة ينعى عليهم سوء الفهم للدين وانتحاءهم طريق الحشو والاستطراد في التأليف حتى تشعبت بقرائهم السبل فضلوا، وتارة يأسى على سكوتهم على البدع والخرافات وتعبدهم لأقوال السابقين من أمثالهم دون مناقشة.
أما اشتغالهم بمسائل الخلاف دون أبواب الائتلاف فمما طفح به الكيل إذ جعلوا الناس شيعًا وأقسامًا مهملين وظيفتهم الأولى، وهى الأخذ على أيدي الفجرة من الظالمين، وقد أتبع ذلك كله برسم طريقة الإصلاح العلمي إذ أوجب على أئمة الدين الخروج السّريع من دائرة التقليد، وكرر دعوته إلى الاجتهاد(8).
فكره التربوي والاجتماعي
في الوقت الذي رأى فيه بعض المصلحين أن الإصلاح يكون في السياسة وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني، رأى غيرهم أن أفضل وسيلة للإصلاح في التربية وكان على رأسهم الإمام محمد عبده، حيث تشكلت مدرسة آمنت بقيمة التربية والتعليم كأسلوب يضمن- ولو بعد حين- تحقيق الإصلاح، وكان من تلاميذ هذه المدرسة رفيق العظم الذي زخرت المكتبة العربية والإسلامية بالكثير من مؤلفاته، ومنها:
- تاريخ أشهر مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة. طبع مرارًا عام 1909م.
- كتاب (السوانح الفكرية في المباحث العلمية) وهو كتاب اجتماعي أدبي.
- كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية. طبع عام 1314 هـ.
- رسالة تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام. طبع عام 1318 هـ / 1900م.
- البيان في كيفية انتشار الأديان مطبعة الإسلام. طبع عام 1314 هـ
- الجامعة الإسلامية وأوروبا. طبع عام 1325هـ / 1908م.
- كتاب (تاريخ السياسة الإسلامية). مطبعة المنار، القاهرة 1925.
- كتاب (البيان في أسباب التمدن والعمران).
وله الكثير من المقالات في النواحي الاجتماعية والسياسية، نشرت في كبريات المجلات والجرائد، كما له خطب علمية ألفها في بعض المحافل العلمية والمدارس العالية، ونشر بعضها في المنار وبعضها في مجلة دار العلوم(9).
وركز “العظم” على الجانب الاجتماعي في الوقت الذي أهمله كثير من المفكرين في عصره، حيث كان جل اهتمامهم على النواحي السياسية والدينية والثقافية، إذ ربط “العظم” بين الاجتماع والسياسة والاقتصاد والدين، واهتم بالتحليل الاجتماعي وأثره في العملية الإصلاحية للمجتمعات، ويتجلى ذلك في بعض مؤلفاته مثل السوانح الفكرية في المباحث العلمية، والبيان في أسباب التمدن والعمران، وتنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام (10).
ومن هنا، نجد أن المفكر الكبير رفيق العظم ترك بصمات جلية في عالم التربية والسياسة والاجتماع في القرنين التاسع عشر والعشرين، في ظل أحداث غيّرت مجرى التاريخ، ومنها انهيار الخلافة الإسلامية وما تبعها من أزمات شتت جسد الأمة، وملكت الأعداء من بلاد المسلمين.
المصادر والمراجع:
- محمد رشيد رضا: رفيق العظم وفاته وترجمته، مجلة المنار، المجلد 26، المحرم 1344هـ، صـ88.
- د. سامي الدهان: قدماء ومعاصرون، دار المعارف، مصر، 1961، صـ 166- 172.
- خير الدين الزركلي: الأعلام، المجلد الثالث، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، طـ15، 2002، صـ30.
- مؤسسة هنداوي للتأليف والنشر: رفيق العظم.
- رشيد رضا: رفيق العظم، مرجع سابق.
- علي عيد: رفيق العظم دعا إلى خلافة مستنيرة، 1 أكتوبر 2006.
- مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: أضواء على التاريخ العربي المعاصر، المغرب، العدد 84.
- رفيق بك العظم : اقتراح على السادة العلماء في تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء، مجلة المنار 12 رمضان 1317هـ/ 13 يناير 1900م ، مجلد35 ص2.
- إخوان ويكي: رفيق العظم رجل الإصلاح السياسي والفكرى، 18 يناير 2021.
- رفيق العظم: البيان في التمدن وأسباب العمران، المطبعة الإسلامية، مصر، طـ1، 1304هـ، صـ4.