تعاني الأمة من انصراف القيادات الدعوية عن العمل التربوي، والاكتفاء بالدعوة العامة مع المجتمع، كالخطب والمحاضرات، والدروس المسجدية، وهذا ولا شك عمل مهم وضروري. لكن التوازن بين الأمرين (التربوي والدعوي) من مقاصد الشريعة، فكما يحتاج العمل للإسلام الدعوة العامة، فهو في حاجة إلى من يأخذ بأيدي الشباب، ويقوم على احتضانهم التربوي، ورعايتهم رعاية تسهم في تخريج جيل واعي الفكر والفهم، سليم العقيدة، صحيح العبادة، يقوم بواجبه تجاه دينه وأمته.
فالنخب بوصلة المجتمعات، هم الأعمق فكرًا، والأبصر بالرؤية الكلية للمشهد من زوايا تخصصهم وتميزهم، وتقصير النخب الدعوية والقيادات في استيعاب الشباب وتعهده بالرعاية والتربية يؤخر هدف الأمة في شهودها الحضاري.
الدعوة والتربية.. كفتا ميزان
منهج التغيير يبدأ بالنفس وبالقلب، إخباتًا ووجلًا، وبالجوارح خشوعًا وعملًا، وهو منهج ثابت لا يتغير، لأنه من صميم الإسلام والعمل له. حيث تقوم فيه الدعوة بجانب التربية حتى نجد الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم.
ولذا فالدعاة مطالبون بتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام، وإعادة الناس إلى الدين، وإلى اتباع العلماء، وإلى تصحيح كثير من المعاني العلمية والعملية، ورفع ما كان من ذل وهوان عن طريق الوصول إلى أفرادها المؤثرين، وكسب ثقتهم، ومن ثم إيصالهم إلى الدين الصحيح، وتحويلهم من أفراد لا قيمة لهم يعيشون على مُتع الحياة إلى دعاة مؤثرين، ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق التربية على معاني الإسلام الشاملة. فالدعوة إلى الله عز وجل من أفضل القربات إليه، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. وتنقسم الدعوة إلى:
- دعوة جماعية وتتمثل في الخطب والمواعظ والدروس.
- دعوة فردية وهي التي تهتم بتربية الفرد المسلم التربية السليمة مع المتابعة.
والناظر إلى واقع الدعاة إلى الله يجد أنهم في الغالب يقومون بنوع واحد من الدعوة – وهي الدعوة الجماعية – والقليل من يهتم بالدعوة الفردية التي هي في الواقع لا تقل أهمية عن الدعوة الجماعية، بل قد تكون أهم.
أسباب ضعف الموازنة بين التربية والدعوة العامة
إذا كان كثير من الدعاة يؤثر الدعوة العامة، والاختلاط بالجماهير عبر الكلمات المؤثرة، و خطب الوعظ، التي تلهب حماس المستمعين، فإنه يجب أن يكون لدينا دعاة على مستوى عالٍ في التربية والإعداد، لأن منظومة العمل لدين الله، وإيجاد المجتمع المسلم لا يمكن أن تكتمل إلا بالجمع بين الحسنيين. فجميع الدعاة والمصلحين يدركون قيمة التكامل والتوازن بين العمل الدعوي العام، والعمل التربوي الذي يهدف إلى إعداد الأجيال ورعايتهم، حتى تظل ديمومة الدعوة والإصلاح مستمرة.
لكن هناك بعض الأسباب التي قد تكون عاملًا في ضعف الموازنة بين الجانبين، ومنها:
- عقبات داخلية تنبع من واقع الدعاة ومفاهيمهم ومناهجهم وأساليبهم ووسائلهم وليس لغيرهم دخل فيها.
- عقبات خارجية تتمثل في المشكلات والعقبات التي تنبع من خارج الدعوة وتعوق عملية التربية والتعهد.
- عناية الدعاة بالأعمال العامة والمؤتمرات والندوات على حساب العناية بالجانب التربوي والمتابعة.
- الاهتمام بالوسائل على حساب الأهداف مما يجعل العمل للدعوة عبارة عن إتقان الكلمات وطريقة عرضها، دون الاهتمام بالأثر أو المردود التربوي الذي تخلفه هذه الوسائل.
- ضعف الجانب التربوي لدى كثير من الدعاة، يجعله غير قادر على القيام بأعباء التربية، حيث إن فاقد الشيء لا يعطيه.
- الانشغال بالمصالح الشخصية؛ يفقد العمل التربوي قيمته في عيون الناس ويضعفه.
- الانصراف عن مفهوم شمولية الدعوة، وقصر مفهومها على بعض عناصرها وجوانبها، ثم الإنكار على من عمل في جانب آخر، كمن يهتم بالعلم، ومن يهتم بالتبليغ، ومن يهتم بالسياسة، وغير ذلك.
- الغفلة عن السنن الربانية وعدم الاستفادة من أخطاء الآخرين، وأخذ العبرة والدروس من الدعوات السابقة.
- قلة الوعي وعدم البصيرة والجهل بواقع الدعوة والظروف المحيطة بها.
- مخالفة العلم للعمل، وقلة القدوات بسبب تسلل الأمراض إلى صفوف الدعاة.
- إهمال فقه الأولويات وضعف الموازنة بين المفاسد والمصالح والواجبات والإمكانات .
رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته
من مظاهر إعداد النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته، وتنمية شخصياتهم الدعوية القيادية اهتمامه بالشباب
والعمل على استيعاب العناصر الجديدة المؤمنة، وإعدادها للقيام بدورها في الدعوة، وإعطاء الفرصة لها كي تبرز وتنتج، فالشباب هم عماد كل دعوة إصلاحية، وباندفاعهم للتضحية والفداء تتقدم الدعوات سريعًا نحو النصر والغلبة.
ومن مظاهر عنايته صلى الله عليه وسلم بهم، تكليفهم بالأعمال المهمة الحساسة، كحمل راية القتال، ومن ذلك تسليمه راية الأنصار لقيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما بعد أخذها من أبيه، وكان حامل لواء قبيلة أشجع أحد الشبان وهو معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه، وكان في العشرينات من عمره حينذاك.
وقد تكون الشخصية صغيرة في السن، لكنه يروم فيها كبر المعاني ورجاحة العقل، فيعمل على تنميتها ورعايتها حتى تغدو ذات شأن، وتقوى وتعتد بإسلامها، وليعرف الآخرون أن الشخصية الإسلامية لا تقاس بالأعمار ولا بالأجسام بل بقوته وعزتها بإيمانها وإسلامها.
صور من تربية القيادات الدعوية للمدعوين
وفي عصرنا الحديث نجد صورًا كثيرة من رعاية القيادات الدعوية لأبنائها، ومن ذلك ما كان يفعله الإمام البنا مع أبناء دعوته، فقد اتسم البنا بعذوبة الحديث، حتى شهد بذلك أعداؤه قبل إخوانه، ولم يترك البنا مدينة أو قرية أو نجعًا حتى بلَغه ليدعوا الناس ويعرفهم بحقيقة دينهم.
لكنه اتسم بالتوازن بين العمل الدعوي والعمل التربوي، وهي من السمات التي حفظت كيان جماعة الإخوان المسلمين، وأعلت من أفرادها.
فمنذ أن كان في كلية دار العلوم وهو يخرج إلى المقاهي مع بعض رفاقه ليدعو الناس إلى سبيل الله، وهي المهمة التي بدأها في الإسماعيلية؛ حيث كان يخطب وينتظر من يهتم بحديثه، فبدأ الغيث بستة من العمال الذين بايعوه فحرص على تربيتهم، ثم حرص على وضع المناهج التربوية لأفراد جماعته بعد ذلك، سواء من خلال الكتائب التربوية أو المعسكرات والمعايشة، أو الأسر التربوية التي كانت تهتم بجميع شؤون الفرد.
ومما يذكره الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله- قوله: ذهبت مع الإمام الشهيد مرة إلى مدينة طوخ بالقليوبية، وكان الحفل حاشداً، والهتافات عالية.. وفي الطريق سألني فضيلته: ما رأيك في الحفل؟
قلت: إن الصخب شديد، والأصوات العالية لا تطمئنني كالطبل الأجوف.
قال: اسمع، نحن على قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم؛ كان يعرض نفسه على الناس في الأسواق، فلا يلقى إلا السخرية والإيذاء، فهلا نصبر على بطء الاستجابة، إننا لو خرجنا من هذه الآلاف بواحد فقط، فذلك خير من الدنيا وما فيها(5).
خطوات عملية لإحداث التوازن
إن التغيير المنشود للأمة يستلزم تربية أفرادها تربية صحيحة متكاملة ومتوازنة، والتربية تحتاج إلى استمرارية ممارسة معاني الإسلام من خلال جو تربوي تتم فيه المعايشة والتعاهد وبث الروح وضبط الفهم وتوجيه الجهد. ومن هذه الخطوات:
- فهم الإسلام بنظامه الشامل الذي لا يفرق بين جانب وآخر من جوانب الحياة، مع التحلي بالعلم النافع.
- الشعور بعظم المسؤولية التي تقع على عاتق الدعاة والمصلحين نحو شعوبهم، مع العناية بتنظيم الوقت بين العمل الدعوي العام والدعوة الفردية الخاصة.
- كلما ازدادت معرفة الإنسان بالشيء تغيرت معاملته له (فالمعاملة على قدر المعرفة)، وهو ما يجب أن يدركه الدعاة من قيمة وأهمية التوزان بين العمل الدعوي والتربوي.
- لابد للدعاة والعاملين للإسلام من أن يبدأوا مع أنفسهم، فتتمثل فيهم معاني الإسلام التي يريدون أن يربوا الناس عليها.
- بذل الجهد في رعاية الشباب خاصة، بتعهدهم وتوجيههم وتربيتهم تربية متوازنة ومتكاملة، حتى يكونوا القاطرة التي تضمن سلامة سير المجتمع إلى مرضاة الله تعالى، دون إبطاء أو إهمال.
إن حاجة المجتمع شديدة إلى تعهد ورعاية أبنائه، كما هو بحاجة إلى الدعوة العامة، وليس كل شخص لديه الإمكانات التي تعينه على الجمع بين هاتين المهمتين، لكن الوعي بأهمية التربية وتوجيه الدعاة والمربين ليقوموا بدورهم في هذه السبيل ودعمها بكل الوسائل، واجب دعوي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.
المصادر والمراجع:
- الدعوة الفردية وأهميتها في تربية الأجيال. عقيل بن محمد بن زيد المقطري.3 مايو 1992.
- انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية. وليد الرفاعي. 4 يناير 2021.
- أصول الدعوة. عبد الكريم زيدان. مؤسسة الرسالة، بيروت، طـ9، 2001.
- التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. د. خالد سعد النجار.
- مائة موقف من حياة المرشدين لجماعة الإخوان المسلمين. محمد عبد الحليم حامد. دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1993م.
- التوازن التربوي وأھمیته لكل مسلم . مجدي الهلالي. دار السراج الطبعة: الأولى، 1430 هـ – 2009م.
- إعداد النبي صلى الله عليه وسلم لشخصيات صحابته الدعوية. د. هند بنت مصطفى شريفي. 18 سبتمبر 2014.