إن من أعظم العقبات في طريق الدعوة والدعاة وجود الفرق الضالة الهالكة التي تسببت في انهزامات متتالية للأمة الإسلامية ومزقت كيانها الداخلي، وقد بدأت بالتشكيك في السنة خلال مرحلة مبكرة من التاريخ الإسلامي؛ فلم يمر أكثر من أربعين سنة على وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم- إلاَّ وقد ظهرت تلك الفرق بأطياف وأشكال متعدِّدة، وارتبط ظهورها بالسياسة ارتباطًا وثيقًا؛ ما يدل على رغبتهم في تحقيق مصالح خاصة لهم لم يحصلوا عليها فانقلبوا وانقضُّوا على ولاة الأمر يُناصبونهم العداء.
وارتبطت هذه الفِرق بالفلسفات القديمة؛ مثل الفارسية واليونانية، وتأثَّرت بها وبأفكارها ومبادئها؛ فحاولت خائبة نقلها أو الجمع بينها في أصولها وبين الدين الإسلامي؛ لذا وجدنا أنَّ معظم هذه الفِرق انتشرت في البلاد التي كانت تحت حكم الفرس والروم.
الإسلام يحذر من الفرق الضالة
وحذر الإسلام من الفرق الضالة الهالكة، فقال تعالى في محكم تنزيله: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء:١١٥].
وذمّ الله سبحانه التفرق والاختلاف في الدين، ونهى عن جميع الطرق والأسباب المؤدية إليه، وبيّن سوء عاقبته؛ فقال- عز وجل-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 105 – 107].
وقال تعالى: (ِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159]، فالمسلمون دينهم واحد، ويجب أن يكونوا أمة واحدة؛ كما قال تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 52، 53].
وأوصى الله جميع الأمم بإقامة الدين الذي أنزله على أنبيائه، وعدم التفرق فيه، وبيَّن أن التفرق وقع من الناس مع وجود العلم بسبب البغي والظلم؛ قال الله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [الشورى: 13، 14].
وأخبرنا النبي- صلى الله عليه وسلم- عن هذا الخطر الداهم، وجعله السبب الأعظم الذي يقوِّض وحدة الأمة وكيانها، فعن ثوبان- رضضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:”إنَّ اللهَ زوَى لي الأرضَ فرأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها فإنَّ أُمَّتي سيبلُغُ مُلْكُها ما زوَى لي منها وأُعطِيتُ الكَنزَيْنِ: الأحمرَ والأبيضَ فإنِّي سأَلْتُ ربِّي لِأُمَّتي ألَّا يُهلِكَها بسَنةٍ عامَّةٍ وألَّا يُسلِّطَ عليهم عدوًّا مِن سوى أنفسِهم فيَستبيحَ بَيْضَتَهم فإنَّ ربِّي قال: يا مُحمَّدُ إنِّي إذا قضَيْتُ قضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ وإنِّي أُعطيكَ لِأُمَّتِكَ ألَّا أُهلِكَهم بسَنةٍ عامَّةٍ وألَّا أُسلِّطَ عليهم عدوًّا مِن سوى أنفسِهم فيستبيحَ بَيْضَتَهم ولوِ اجتَمَع عليهم مِن أقطارِها أو قال: مَنْ بَيْنَ أقطارِها حتَّى يكونَ بعضُهم يُهلِكُ بعضًا ويَسبي بعضُهم بعضًا).
قال: قال رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- : “إنَّما أخافُ على أُمَّتي مِن الأئمَّةِ المُضلِّينَ وإذا وُضِع السَّيفُ في أُمَّتي لَمْ يُرفَعْ عنها إلى يومِ القيامةِ ولا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يلحَقَ قبائلُ مِن أُمَّتي بالمُشرِكينَ وحتَّى تُعبَدَ الأوثانُ وإنَّه سيكونُ في أُمَّتي ثلاثونَ كذَّابونَ كلُّهم يزعُمُ أنَّه نَبيٌّ وإنِّي خاتَمُ النَّبيِّينَ لا نَبيَّ بعدي ولنْ تزالَ طائفةٌ مِن أُمَّتي على الحقِّ ظاهرينَ لا يضُرُّهم مَن يخذُلُهم حتَّى يأتيَ أمرُ اللهِ” (صحيح ابن حبان).
ولقد كشفت السنة جوانب كثيرة من مستقبل الأمة من باب الإخبار والتحذير وبيان الداء والدواء ، وهذا فتح من الغيب أكرم الله تعالى به نبيه- صلى الله عليه وسلم- زيادة في الأعذار للأمة والإشفاق عليها.
وإن أجمع حديث في هذا الباب ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ، قُلتُ: وهلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، وفيهِ دَخَنٌ، قُلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهمْ وتُنْكِرُ، قُلتُ: فَهلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقالَ: هُمْ مِن جِلْدَتِنَا، ويَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا، قُلتُ: فَما تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ، قُلتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ: فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ” (صحيح البخاري).
وللأسف دخل المسلمون في شتى بلادهم في مرحلة جديدة سيطرت فيها ثقافة الغرب وأخلاقه وانتشرت التيارات الإلحادية، وغزت مؤسسات الدولة، وبُدلت الثقافة، وغُيِّرت مفاهيم الحياة. وكان دعاة هذا التغيير من أبناء الأمة يتكلمون بلغتها، وينتسبون إليها.
وعن قوله صلى الله عليه وسلم: “هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا”، قال ابن حجر: “أي من قومنا، ومن أهل لساننا وملتنا إشارة إلى أنهم العرب”، وهذا من أعلام النبوة ومعجزاتها، حيث أخبر الحديث عن ظهور هذه الفرق، وفيه إشارة إلى القوميات التي انتشرت في العالم الإسلامي، واتخذت من العرق واللغة أساسيين للتجمع والانتماء.
ووصل الأمر في كثير من الأقطار إلى أن تمتطي هذه الأهواء جماهير الشعوب، مدعية أن الشعوب هي التي تختار طريقها، وظهرت مصطلحات: الجماهير، والطبقة الكادحة، والإرادة الشعبية، ونفذت سياسات ضرب القيم الإسلامية بهذا الطريق.
وعن أصول هذه الفرق الهالِكة، قال ابن تيمية- رحمه الله-: “وَأَمَّا تَعْيِينُ الْفِرَقِ الْهَالِكَةِ، فَأَقْدَمُ مَنْ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي تَضْلِيلِهِمْ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ- وَهُمَا إمَامَانِ جَلِيلانِ مِنْ أَجِلاَّءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ- قَالا: أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ: الْخَوَارِجُ، والرَّوَافِضُ، وَالْقَدَرِيَّةُ، وَالْمُرْجِئَةُ. فَقِيلَ لاِبْنِ الْمُبَارَكِ: وَالْجَهْمِيَّة؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ أُولَئِكَ لَيْسُوا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ يَقُولُ [ابن المبارك]: إنَّا لَنَحْكِي كَلامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلامَ الْجَهْمِيَّة”.
والمتأمِّل في تاريخ تلك الطوائف والفِرقِ الضّالة التي نشأت بين المسلمين يجد أنَّ طائفةً من رؤسائها ينتمون إلى تلك الطوائف والأديان التي كانت قبل الإسلام؛ كاليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ونحوها من الأديان والفلسفات التي قضى الإسلام عليها وحررَّ منها العباد، ممَّا يُؤكِّد المؤامرة التي بَيَّتوها بخبث نيَّةٍ وسوء طوية؛ كي يلبسوا على الناس دينَهم ويُدخِلوا فيه ما ليس منه، فانجذب إليهم مَن انجذب، وانخدع بهم مَن انخدع من المسلمين.
أسباب ظهور الفرق الضالة
وهناك أسباب لظهور الفرق الضالة الهالكة، كما بيَّن الله- سبحانه وتعالى- ذلك في كتابه الكريم، وهي:
- عدم الفهم الصحيح لنصوص القرآن والسنة، للجهل باللغة العربية التي جاءت بها الشريعة، وترك اتباع السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم ومن اتبعهم بإحسان في فهم الدين والعمل به، والابتداع وترك الاتباع، والإعجاب بالآراء، والتأثر بعلوم فلاسفة اليونان؛ قال الله تعالى مخاطبًا الصحابة: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [البقرة: 137]، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
- عدم الاعتصام بكتاب الله، وترك تعلم تفسيره وتدبره واتباعه؛ قال الله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123].
- الإعراض عن تعلم السنة النبوية واتباعها، وقد أمرنا الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله؛ وقال الله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].
- عدم الاعتصام بالله، والإعراض عن عبادته، وترك سؤاله الهداية بصدق وإخلاص؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101].
- ترك تحقيق التوحيد، وعدم الإيمان والإخلاص، والوقوع في الشرك والرياء؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116].
- الظلم والبغي، ومن صور البغي: عدم الإنصاف، والتعصب للآراء، والتقليد الأعمى، والكِبر، واحتقار أهل الحق، والسخرية منهم، والطعن فيهم، وعدم الرجوع إلى أهل العلم الراسخين؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُم﴾ [الشورى: 14].
- طاعة الكفار والمنافقين والظالمين والفاسقين، ومجاملتهم ومصاحبتهم ومحبتهم؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ [هود: 113].
- التكلف والتنطع والغلو، ومن ذلك: التشدد المخالف ليُسْرِ الشريعة السمحة، ومن ذلك: الغلو في العقل، وتقديمه على النصوص الشرعية، مع أن الشرع لا يخالف العقل أبدًا، ومن ذلك: الغلو في الصالحين، ورفعهم فوق منزلتهم، ومن ذلك: كثرة السؤال، والجدال بالباطل لرد الحق؛ قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا﴾ [هود: 112]، وعن الفضل بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”؛ (رواه النسائي بإسناد صحيح).
- الاعتماد على أحاديثَ موضوعة أو ضعيفة، وحكاياتٍ لا أصل لها، وأوهام وأمانيَّ لا حقيقة لها؛ كما قال تعالى: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 24].
- اتباع الظن والهوى؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]، ومن ذلك: التسلط على نصوص القرآن والسنة بالتأويل الفاسد، أو عدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد، أو القول بأن الأدلة الشرعية تفيد الظن لا اليقين.
موقف الداعية من الفرق الضالة
أما موقف الدعاة من هذه الفرق الضالة الهالكة، فذو شقين سلبي وإيجابي، أما السلبي فعليه أن يعتزل هذه الفرق حتى لا يصيبه الداء الذي أصاب أهله؛ ولأن مخالطتهم مخالطة أهل النار ودعاتها، وأما الإيجابي فالبحث عن جماعة المسلمين والاعتصام بها.
وليست العزلة عزلة الخروج من المجتمع إلى البراري والقفار وقمم الجبال؛ لأنّ هذا النوع من العزلة يعطي الفرصة لأصحاب الأهواء كي يعمّموها ويشيّعوها في المجتمع، ويستأثروا بالتوجيه والقيادة، وفي ذلك خذلان للحق وأهله.
ولا بُد من التنبيه على أمر خطير هو ذلك الخطأ الناشئ عن تعميم المصطلحات على الحالات المتناقضة المتباينة، وأن لا يقدر لكل حالة قدرها، وأن لا تؤخذ كل كلمة في إطارها المناسب، كأن نأخذ مفهوم العزلة عند سلف الأمة فنعمة على جميع الظروف والأحوال، فيقال إن ابن عمر- رضي الله عنه- وسعد بن أبي وقاص وأبا بكرة قد اعتزلوا الفتنة، وفِعْلُ هؤلاء الأصحاب دليل يشهد لمن عزم على ترك المجتمع، ونجد الإمام البخاري يترجم لهذا بباب خاص يقول: “التعرب في الفتنة : أي اللحاق بالأعراب والبادية عند فشو الفتن”.
وأخرج عن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه- أنه دخل على الحجاج فقال: يا ابن الأكوع أرتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أذن لي في البدو”. قال ابن حجر: “التعرب أي السكنى مع الأعراب، وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر إليها، فيسكن البدو، فيرجع بعد هجرته أعرابياً، وكان إذ ذاك محرما إلا إن أذن له الشارع في ذلك”.
فالأصل إذن منع المهاجر من العزلة في البراري والقفار أو اللحاق بالبادية، وإننا إذا نظرنا إلى الحكمة في منهج المهاجر من التعرب وجدنا أن الهجرة إنما شرعت لنصرة الإسلام والمسلمين، ولدفع الكفر والنفاق عن المجتمع، فإذا ترك المسلم المجتمع تحت وطأة أصحاب الفتن فإنه يكون قد أسهم في هذا المنكر وساعد على استحكامه. قال ابن حجر: “وقيل يمنع (أي التعرب) في زمن الفتنة لما فيه من خذلان أهل الحق”.
ولا بد من تحديد نوع الفتنة الداعية إلى ترك المجتمع واعتزاله وعدم المشاركة في أحداثه، أو الداعية إلى الثبات في مواقع التأثير لمقاومة الفتن ومجابهتها، فقد أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- عن وقوع الفتن وتكاثرها حتى كأنها القطر لا يترك موضعًا إلا أصابه، فقد أخرج البخاري عن أسامة بن زيد قال: “أَشْرَفَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى أُطُمٍ مِن آطَامِ المَدِينَةِ، فَقالَ: هلْ تَرَوْنَ ما أرَى؟ إنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ القَطْرِ”.
وكان مقتل عثمان- رضي الله عنه- أول فتنة وقعت، وتلاها القتال بين علي وعائشة- رضي الله عنهما-، ثم صفين، وقد اختلفت اجتهادات الصحابة في ترجيح صاحب الحق، وإن كان الأكثرون على أن عليا- رضي الله عنه- هو صاحب الأمر، وأن معاوية مجتهد مخطئ له أجر واحد. ثم وقعت فتن بعد ذلك كان الباعث عليها التنافس على الحكم والسلطان وهذا من قبيل الأثرة التي أخبر عنها النبي- صلى الله عليه وسلم.
وأخرج البخاري عن أسيد بن حضير “أن رجلاً أتى النبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال يا رسول الله استعملت فلانا ولم تستعملني، قال: إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني”. وقد جاء معظم الخلفاء العباسيين وسلاطين المماليك وغيرهم إلى الحكم عن طريق هذه الأثرة. وهذا علم من أعلام النبوة.
الفرقة الناجية
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل هذا التفرق والاختلاف طارئًا على جماعة المسلمين، حادثًا على عقيدتهم، متميزًا باسمه الخاص وشكله المستقل، فلم تلتبس يومًا عقيدة أهل السنة والجماعة، وعقيدة عموم المسلمين، بعقائد ومناهج الفرق الضالة الأخرى، حتى إن تلك الفرق المخالفة لم تجرؤ على تسمية نفسها بأهل السنَّة والجماعة، وإنما كانت تنتسب إلى بدعتها التي أحدثتها، أو إلى الشخص الذي أسس هذه الفرقة.
فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: “أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ”، (أبو داود والحاكم).
فقد وصف النبي- صلى الله عليه وسلم- الفرقة الناجية بأنها الجماعة، يعني إجماع علماء المسلمين، كما وصفها في روايات أخرى للحديث بأنهم “السواد الأعظم” كما في حديث أبي أمامة وغيره عند ابن أبي عاصم في “السنَّة” والطبراني في المعجم الكبير.
وجاء وصفها بقوله- صلى الله عليه وسلم-: “وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي”، (الترمذي).
إذا فهذه أظهر علامة يمكن للمسلم أن يستدل بها على الفرقة الناجية، فيتبع ما عليه عامة علماء الأمة، الذين يشهد لهم جميع الناس بالأمانة والديانة، ويتبع ما كان عليه العلماء السابقون من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، ويحذر من كل فرقة تتميز عن جماعة المسلمين ببدعة محدثة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: “شعار أهل البدع ترك انتحال اتباع السلف”، وقال -أيضًا- “وشعار هذه الفرق- يعني الثنتين وسبعين فرقة المخالفة لأهل السنة والجماعة- مفارقة الكتاب والسنة والإجماع. فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة”.
ويرى العلامة محمد الحسن ولد الددو أن النجاة متعلقة بالفرد لا بالجماعة؛ فإنه يوم القيامة لا يُبعث الناس فرقًا بل أفرادًا، قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}، وأن حديث الفرقة الناجية جاء من عدة روايات لم تصل واحدة منها بالكامل إلى درجة الصحة، إنما يُصحح بعموم الطرق، وعموم الطرق تقتضي صحة أصله، لا صحة أطرافه (كل جملة فيه)، والصحيح الثابت فيه أن اليهود افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة، وأن المسلمين سيفترقون إلى ثلاث وسبعين فرقة؛ أما “كلها في النار إلا واحدة”، أو “كلها في الجنة إلا واحدة”، أو “ما عليه أنا وأصحابي”؛ فهذا لا يصح؛ لأنه ما انفردت رواية منه بالصحة وحدها.
إن الفرق الضالة هي التي خالفت طريقة النبي- عليه الصلاة والسلام- وسنته في الاعتقاد وكان لهم أصول في الاستدلال تخالف أصول الصحابة والتابعين وهي فرق كثيرة، وقد قرر علماء السنة والجماعة في كتبهم أنّ هذه الفرق المبتدعة بعيدة عن النهج القويم، وقد أحدثت في الإسلام والمسلمين جرحًا عظيمًا ومصابًا كبيرًا.
المراجع والمصادر:
- الدكتور همام سعيد: قواعد الدعوة، ص 52-64.
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 3/ 350، 351.
- الدكتور محمد بن مطر الزهراني: موقف أصحاب الأهواء والفِرق من السنة النبوية، ص 13.
- عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفِرق، ص13.
- ابن حجر: فتح الباري، 13/36.
- ابن تيمية: شرح حديث الافتراق، 6/11.
- الخطابي: العزلة، ص 6.