أنا أم مثقفة أعيش في حال ميسورة والحمد لله، وقد رزقني الله زوجًا طيبًا وأبناء بررة اتفقنا أن نعفّهم بالزواج المبكر، وقد نفذنا هذا الأمر في ابنتنا الكبرى، ثمّ شقيقها الأول بعد تخرجه واستلام وظيفته مباشرة.
لعل هذا الولد هو سبب المشكلة التي أتحدث عنها، فقد أعددنا له مسكنًا جميلًا وسَاعدناه في اختيار زوجة صالحة طيبة المنشأ والحمد لله، ثمّ ساعدناه تقريبًا في كل متطلبات الزواج حتى أتم الله – عز وجل- عليه النعمة وتزوج ولله الفضل والمنة.
وقبل أن أُكمل أَوَدّ أن أُخبرك عن برّه بنا قبل الزواج، فقد كان لا ينام حتى ننام، ولا يطعم طعامًا خارج البيت إلا أتى إلينا بمثله، ولا يشعر لحظة أنّ أحدنا يعاني شيئًا من التعب والإرهاق فضلًا عن المرض إلا بات تحت رجليه يخدمه ويطببه حتى يصبح.
ثمّ تزوج فحاول في البداية أن يكون كذلك بعد الزواج، لكن العد التنازلي بدأ سريعًا، فإذا به لا يكون إلا في عمله أو شقته، وعندما يجالسنا سرعان ما يزْهدنا فيَستأذن ليدخُل شقته العلوية ليقضي بقية وقته مع زوجته.
حتى نشاطه لمطالبنا قلّ، فإذا بنا نرى حماسته في السابق التي كان يتعامل بها مع مطالبنا أصبحت فاترة ضعيفة.
زِد على ذلك خروجه معنا، وصبره علينا حتى عند المرض أصبح أقل من سابقه، حتى أنني أحيانًا أختلي بنفسي فأبكي على ولدي الذي وضعني آخر القائمة بعد أن كنت على رأسها.
إنني أخاف أن أفاتحه في هذه الأمور فأفسد عليه حياته لكنني لا أستطيع أن أتحمل هذا التغير الشديد في علاقته بي وبوَالده علمًا بأنّ زوجته على علاقة طيبة بنا، فماذا أفعل؟
الإجابة:
بِر الأبناء وقربهم من أكبر متع الحياة، وبخاصة ذلك الذي ينتظره الآباء بعد جهد كبير في التربية ورحلة عطاء طويلة مع أبنائهم، حين يصبح الآباء أكثر تفرغًا والأبناء أكثر استقلالًا.
لكن في الوقت الذي يزداد فيه استقلال الأبناء تزداد مسؤولياتهم وتُضاف إلى حياتهم أدوارٌ جديدة، ويدخل فيها أناس جُدد على درجة من القرب كتلك التي بيننا وبينهم، مثل الزوجة وأهل الزوجة والأبناء، يبدأون مواجهة تحديات جديدة، بعدما كانوا مسؤولين من أهليهم صاروا مسؤولين عن زوجة ووظيفة والتزامات مالية وأبناء وإدارة بيت، كل هذه تغيرات وتحديات تؤثر على طبيعة شخصياتهم وتغيير عاداتهم.
لذا، نتمنى على كل أم بلغ أبناؤها تلك المرحلة أن تعذرهم وتتفهم ذلك التغير الكبير على شكل حياتهم بل تتوقعه مسبقًا وتسامح أي تقصير بدا منهم، خصوصًا إذا كانوا من ذوي البر والصلة ويعرفون لوالديهم الفضل ويحسنون إليهم كالابن الذي وصفته الرسالة، والذي يحضرنا فيه وصية رسول الله: “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود”، وبخاصة – أيضًا- إذا كانوا حديثي عهد بالزواج.
هذا الابن لا يقلق على بره ولا يخشى من بعده، لأن الوقت كفيل أن تستقر تلك التغييرات العاصفة بحياته فيعود إلى سابق عهده، وبخاصة أنه عرف طريق البر كما أنّ زوجته على خلق وصلاح كما وصفتها الرسالة. فلا تدعِ الشيطان يُوغر صدرك أنها قد تكون السبب وراء تغييره، فسواء هي أو غيرها فهذا التغير في الأبناء بعد الزواج سِمة معروفة لهذه المرحلة. ولعل الابن مهموم أو يعاني من مشكلة ما هي السبب وراء تغييره، يخفيها عن والديه حتى لا يُشعرهما بالهم فاستمرّي في الدعاء له بصلاح الحال وحاولي تفقد أحواله المختلفة.
وننصح الأم الفاضلة أن تصرف كثيرًا من وقتها في أعمال الخير والإقبال على تعلم أمور الدين والانشغال بحفظ القرآن وفهمه وغيرها من الأمور النافعة، لأنّ زواج الأبناء يُخلّف فراغًا كبيرًا لن يكون جيدًا إذا لم يتم ملؤه واستثماره.
ذكّري نفسك دائمًا بإخلاص النية لله في كل ما قدمتيه وزوجك للابن الكريم، حتى لا يُؤلبك الشيطان بعقد مقارنة بين عطائكم ومردوده على حال وسلوك أبنائكم، فتَقديم العطاء للأبناء في الصغر لحصاد البر في الكبر كما تجسده مقولة: “بروا أبناءكم صغارًا كي يبروكم كبارًا” أمر غير مضمونة نتائجه والربط بينهما من شأنه أن يصيب المرء بالإحباط وكثير من مشاعر الخذلان. بل استمري في عطائك وودك له إخلاصًا لله. فلا يأتي وقت للأخذ مقابل سابق العطاء، فالوالدان وإن كانت حاجتهم للبر تزداد عند الكبر كما ذكرت الآية الكريمة: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} إلا أنهما يظلان أهم مصدر للأمان والعطاء في حياة أولادهم ولا غنى عنهما.
عبّري دائمًا لابنك عن سعادتك بأي شكل من أشكال البر منه، ولا تخبريه أنّه تغير فيُثقله الهم لهذا، ودون أي نوع من أنواع الضغط عليه، أشعريه أنك تحبين قربه من زوجته وحرصه عليها، وأعِينيه على أداء مهامه والأمانة التي في عنقه، فلا تجعلي الأمر يبدو وكأننا في صراع على كعكة أيّنا سيكون له منها النصيب الأكبر.
حاولي الاستمتاع بالوقت القليل الذي يجمعك بابنك، بدلًا من التفكير في انصرافه سريعًا أو انشغاله الذهني أو تغيره، حاولي عدم الاسترسال مع الاعتقاد بأنه أصبح زاهدًا في مجالستكم فاترًا عند قضاء حوائجكم، بل اسعدي وأبيه بوجوده وقربه. وعليكِ كثيرًا بالدعاء {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.