لقد جعل الله- سبحانه وتعالى- برحمته باب التوبة مفتوحًا لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وكذلك طوال حياة الإنسان ما لم تبلغ روحه الحلقوم، ويبسط الله يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، بل إنه- جل وعلا- يفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه ويعود نادمًا مستغفرًا.
ولا شك أن الإنسان في حاجة دائمة إلى توبَة نصوح، يُجدد بها إيمانه ويرتقي بها سلّم التقوى والإخلاص لله جل وعلا، سيما أنّ الهوى والنّفس والشّيطان يغالبون الإنسان فيُضعفون قواه، ويزيّنون له المعاصي فيظلم نفسه ويقع فيما حرم الله، لكن الله لطيف بعباده المؤمنين ورحمته وسعت كل شيء فمن تاب بعد ظلمه فإن الله يتوب عليه.
معنى التوبة واستشهادات من القرآن والسنة
ويدور معنى التوبة في اللغة حول الرجوع والعودة والإنابة والندم، وقال ابن فارس: “التاء والواو والباء، كلمة واحدة تدل على الرجوع..، والتوب: التوبة، قال تعالى: (وَقَابِلِ التَّوْبِ) [غافر: 3].
وقال الفيروزآبادي: “تابَ إلى اللهِ توبًا وتوبةً ومتابًا وتابةً وتتوبةً؛ رجعَ عن المعصية، وهو التائب وتواب، تابَ اللهُ عليه: وَفَّقَه للتوبة، أي رجع به من التشديد إلى التخفيف، أو رجع عليه بفضله وقبوله، وهو تواب على عباده”.
وأما عن المعنى الشرعي، فقد عَرَّفَها الجرجاني بقوله: “هي الرجوعُ إلى اللهِ بحل عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكلِّ حقوق الرب”. وقال الراغب: “هي تركُ الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغُ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذرُ: لم أفعل، أو يقول: فعلتُ لأجلِ كذا، أو: فعلتُ وأسأتُ وقد أقلعتُ، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التّوبة”.
وقال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: هي “رجوعٌ عما تاب منه إلى ما تاب إليه، فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وليست التّوبة من فعل السيئات فقط”.
وذكر الله- سبحانه وتعالى- التَّوْبة في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَـٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). [البقرة: 160].
والإقلاع عن المعصية وإصلاح العمل من أهم شروط التوبة إلى الله، يقول- عز وجل-: (اللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّـهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) [النساء: 16].
وهذا العمل القلبي العظيم مقرون بالاستغفار، حيث يقول تعالى: (وَأَنِ استَغفِروا رَبَّكُم ثُمَّ توبوا إِلَيهِ يُمَتِّعكُم مَتاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذي فَضلٍ فَضلَهُ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنّي أَخافُ عَلَيكُم عَذابَ يَومٍ كَبيرٍ) [هود: 3].
والتّوبَة إلى الله تمحي آثار الذنوب، قال سبحانه: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). [آل عمران: 88-98].
والله وحده هو قابل التّوب وغافر الذنب: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). [البقرة: 37].
ولا بد من أن يُعجّل الإنسان بالتوبة، لأنه لا توبة عند الموت: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 18]
أما المُعرِض عن التوبة فهو ظالم، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). [الحجرات: 11].
ولأهمية هذا العمل القلبي، فقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم، يتوب إلى ربه في اليوم أكثر من مائة مرة، فعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يا أيُّها الناسُ تُوبُوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة” (مسلم).
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر قال: “إن كنا لَنَعُدُّ لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة: “ربِّ اغْفِرْ لي، وتُبْ عليَّ؛ إنَّك أنت التوَّابُ الرَّحيم”.
وعن شدَّاد بن أوس- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “سَيِّدُ الاستغفار أن تقول: اللهُمَّ أنت ربِّي، لا إله إلا أنت، خلقْتَني وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما استطعْتُ، أعُوذُ بِكَ من شَرِّ ما صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عليَّ، وأبُوءُ لَكَ بذَنْبي فاغْفِرْ لي؛ فإنَّه لا يغفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنت”، قال: “ومَنْ قالها من النهار مُوقِنًا بها، فمات من يومِه قبل أن يُمْسي، فهو من أهل الجنة، ومَن قالها من الليل وهو موقِنٌ بها، فمات قبل أن يُصبِح، فهو من أهل الجنة” ( البخاري).
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: سمِعْتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله تبارك وتعالى: “يا بنَ آدمَ، إنكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كان فيك ولا أُبالي، يا بن آدم، لو بلَغَتْ ذُنوبُكَ عنانَ السماء، ثمَّ استغفرتَني غفَرْتُ لَكَ ولا أُبالي، يا بن آدَمَ، إنَّكَ لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا، لأتيتُكَ بقُرابها مَغْفِرةً” (صحيح الترمذي).
وروى الترمذي عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ جَلَسَ في مجلِسٍ، فكثُر فيه لَغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ، إلَّا غَفَرَ له ما كان في مجلِسِه ذلك” (صحيح الترمذي).
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ تابَ قبل أن تطلُعَ الشمسُ من مَغْرِبها، تاب اللهُ عليه” (مسلم).
والله سبحانه يفرح كثيرًا بتوبة العبد، فعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “للهُ أشَدُّ فَرَحًا بتوبة عبده حين يتُوبُ إليه مِنْ أحدِكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتَتْ منه، وعليها طعامُه وشرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظِلِّها، قد أيِسَ من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال من شدَّة الفَرَح: اللهُمَّ أنت عَبْدي وأنا ربُّكَ، أخطأ من شدَّة الفَرَح” (مسلم).
وعلى المسلم أن يتوب عقب كل ذنب ليتوب الله عليه، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “كُلُّ ابن آدَمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخطائين التَّوَّابون” (صحيح الترمذي).
ولم تذهب تعاليم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هباءً، فقد حرص الصحابة على التّوبة لله- جل وعلا-، ومن أشهر قصص التّوبة ما جاء عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي. فَقَالَ “وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ” قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: “وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ” قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ؛ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- “فِيمَ أُطَهِّرُكَ” فَقَالَ مِنَ الزِّنَا. فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- “أَبِهِ جُنُونٌ” فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَالَ “أَشَرِبَ خَمْرًا” فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- “أَزَنَيْتَ” فَقَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْني بِالْحِجَارَةِ قَالَ فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ “اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ” قَالَ فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- “لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ” (مسلم).
وعَنْ بُرَيْدَةَ- رضي الله عنه- قَالَ جَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. وَإِنَّهُ رَدَّهَا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى. قَالَ:”إِمَّا لاَ فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي”. فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ. قَالَ: “اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ” فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ. فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: “مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ”. ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ (مسلم).
روى ابن جرير الطبري عن النعمان بن بشير، قال: سُئِل عمر- رضي الله عنه- عن التّوبة النَّصُوح، قال: “التّوبة النّصوح: أن يتوبَ الرجلُ من العمل السيِّئ، ثم لا يعود إليه أبدًا”. وقال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: “التوبة النَّصُوح تُكفِّر كلَّ سيئة”.
وحرص التابعون والمصلحون على مر الزمان على تجديد توبتهم لله تعالى، فعن الفضل بن موسى قال: كان الفُضَيْلُ بنِ عِيَاضٍ شاطرًا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقى الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾[الحديد: 16]. فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سائل، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.
وكان عبد الله بن مسلمة القعنبي شابا كثير المجون كثير الشراب، وله قومٌ من الأحداث المردان، يجلس معهم، فدعاهم يوما وقعد على الباب ينتظرهم فمر به شعبة بن الحجاج رحمه الله أحد أئمة الحديث فاستوقفه على حماره والناس خلفه يهرعون فقال من هذا؟ فقيل شعبة فقال وأيش شعبة؟ قالوا محدث فقام إليه عليه إزار أحمر فقال له حدثني فقال له ما أنت من أصحب الحديث فأحدثك فأشهر سكينه وقال له حدثني أو أجرحك، فقال له شعبة: حدثني مَنْصُورٌ عَنْ رِبْعِيَّ عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ” (البخاري).
فرمي القعنبي سكينه ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فأراقه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا فأخبريهم بما عملت بالشراب حتى ينصرفوا، ومضى من وقته إلى المدينة. ولازم مالك بن أنس ثلاثين سنة يسمع منه ويتعلم فأكثر السماع عنه حتى صار أثبت رواة الموطأ، قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: القعنبي أحب إليك في “الموطأ” أو إسماعيل بن أبي أويس؟ قال: بل القعنبي، لم أر أخشع منه، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة فما سمع من شعبة غير هذا الحديث.
شروط التوبة النصوح
وتتعدد شروط التوبة النصوح، ومن أبرزها ما يلي:
- الإخلاص لله تعالى: فيجب أن تكون النيّة لله- سبحانه تعالى- وحده حُبا فيه وطمعا في نيل رضاه وثوابه، وعدم اتّخاذ مُعين، أو ناصر غير الله- تعالى-، ولا تكون الغاية من التّوبَة إلّا التقرب من منه سبحانه وطاعته.
- الإقلاع عن الذنب: فيترك العبد الذنب الذي ارتكبه ويبتعد عن كل أمر يُقرّبه منه، ليتخلّص من الذنب كُلّياً.
- الندم على ارتكاب الذنب: فيستشعر العبد عظمة الله- تعالى- حال ارتكابه ذنبا، فيندم على ما تقدّم منه من تقصير واعتداءٍ على حقوق الله- تعالى-، راجيا منه رحمته ومغفرته.
- العزم الجازم على هُجران الذنب: وأن يرافق التّوبة من الذنب عدم العودة إليه في المستقبل، وإصلاح ما بدر من تقصير؛ بالإكثار من الطاعات، والمحافظة على ترك المعاصي حتّى الموت.
- إرجاع الحقوق إلى أصحابها: فيجب إعادة كل حقّ إلى صاحبه إذا كان الذنب متعلّقا بحقّ من حقوق العباد.
- إدراك الوقت المخصوص: وهو قبل طلوع الشمس من المغرب؛ أي قبل قيام الساعة؛ وكذلك ما لم تصل روح الإنسان إلى الحلقوم.
ثمار وفوائد
وهناك ثمار وفوائد عديدة تنتج عن التوبة إلى الله- جل شأنه-، منها:
- الفوز برحمات الله ومغفرته، وتكفير السيئات حتى يصير الإنسان كمن لا ذنب له، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “التائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ لهُ” (صحيح ابن ماجه”.
- تبديل السيئات حسنات، قال تعالى: (يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [الفرقان: 70].
- حُبَّ الله سبحانه وتعالى لعبده التائب، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].
- فرح الله تعالى بتوبة عبده، قال النبي- صلى الله عليه وسلم: “لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها… الحديث”.
- طمأنينة النفس: فضرر المعاصي على الأرواح والنفوس أخطر من ضرر الأمراض على الأجساد، بل إن ضرر المعصية يشمل الروح والبدن، فترى العاصي قد اجتمعت عليه أنواع الهموم والغموم، وألوان الوساوس والهواجس، فلا تجده إلا قلقا فزعا خائفا.
- اجتناب سخط الله عز وجل: فالتّوبة وقاية من عذاب الله وعقابه، لأن الذنوب موجبة للسخط والنكال والتوبة ماحية للذنوب ناسخة لها، قال تعالى عن يونس- عليه السلام-: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات: 143-144].
- سبب لزيادة الرزق، والشفاء من الأمراض، وزيادة الأموال والأولاد: قال- تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].
- سبب زيادة الإيمان والفلاح: قال- تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
ومما ذكرناه، يتضح لنا أنّ التوبة من أهم الأعمال القلبية التي يجب أن يتربى عليها المسلم، وأن يعلم أنه ليس هناك ذنب يعظم على عفو الله- عز وجل- مهما كان، فهو الذي يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
المصادر والمراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 1/357.
- أبو منصور الأزهري: تهذيب اللغة 4/ 3-4.
- الفيروز آبادي: القاموس المحيط ص 79.
- الجرجاني: التعريفات، ص 74.
- الراغب الأصفهاني: المفردات، ص 169.
- ابن تيمية: الاستقامة 1/463.
- الطبري: تفسير الطبري 14/167.
- ابن الجوزي: زاد المسير 8/314.
- الحافظ المزِّي: تهذيب الكمال 23/ 286.
- ابن الأبار: معجم أصحاب القاضي أبي علي الصدفي 1/ 62.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء 10/ 259.