إن الابتلاء سنة الله- سبحانه وتعالى- في الحياة الدنيا للناس جميعًا، وهو للمؤمنين إما تطهير للسيئات أو رفعة للدرجات، وبه أيضا يميز الله الخبيث من الطيب، ويُمحّص الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وهذه من حكمة الله.
وقد جمع للنبي كثير من أنواع البلاء فابتلى في أهله، وماله، وولده، ودينه؛ فصبر واحتسب وأحسن الظن بربه ورضي بحكمه وامتثل الشرع ولم يتجاوز حدوده فصار بحق قدوة يحتذى به لكل مبتلى.
مفهوم الابتلاء في الإسلام
ويُطلق الابتلاء على الاختبار والامتحان بالسرّاء والضراء، وبالخير والشرّ، لكن قيل إن لفظ الابتلاء إذا أُطلق دون تقييدٍ دلّ غالباً على الابتلاء بالضرّ والأمور الصعبة الشاقّة، وإذا أُريد به الخير قُيِّد في الاستعمال به، يقول الخازن: “الابتلاء يكون في الخير وفي الشر، وإذا أطلق كان في الشر غالباً، فإذا أريد به الخير قُيِّد به”.
وهو نوع من الاختبار لمعرفة حال المختبر بتكليفه أمورًا يشق عليه فعلها أو تركها؛ ليجازيه عليها، ويكون في الخير والشر معًا، قال الله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]. وهو معاملة تظهر الأمور الباطنة، قال الله- عز وجل-: (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل: 40].
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تُستحصد” (مسلم).
حِكَم الابتلاء
وفوائد الابتلاء للمؤمن كثيرة، منها:
- إعداد للتمكين في الأرض: قيل للإمام الشافعي- رحمه الله-: “أيهما أفضل: الصبر أو المحنة أو التمكين؟”، فقال: “التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتحن صبر، وإذا صبر مُكِّن”.
- كفارة للذنوب: روى الترمذي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ”.
- حصول الأجر ورفعة الدرجات: روى مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلمٍ يُشاك شوكةً فما فوقها إلا كُتِبتْ له بها درجةٌ ، و مُحِيَتْ عنه بها خطيئةٌ”.
- درس في التوحيد والإيمان والتوكل: فالمؤمن يطلع عمليًا على حقيقة نفسه فيعلم أنه عبد ضعيف، لا حول لك ولا قوة إلا بربه، فيتوكل عليه حق التوكل، ويلجأ إليه حق اللجوء قال ابن القيم- رحمه الله-: “فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهَّله لأشرف مراتب الدنيا؛ وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة؛ وهو رؤيته وقربه”.
- يخرج العجب من النفوس: قال ابن حجر: “قوله: {وَيَوْم حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ} روى يونس بن بكير في (زيادات المغازي) عن الربيع بن أنس قال: قال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة”.
- إظهار حقائق الناس: فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن، قال الفضيل بن عياض: “الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه”.
- تربية الرجال: فاختار الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- العيش الشديد، الذي تتخلله الشدائد، منذ صغره؛ ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره، والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها.
- التذكير بالنعم: لأنّ المصيبة تشرح بأبلغ بيان، معنى الصحة التي كان الإنسان يتمتع بهما سنين طويلة، ولم يتذوق حلاوتها، ولم يقدرها حق قدرها.
- الشوق إلى الجنة: فالمؤمن لن يشتاق إلى الجنة إلا إذا ذاق مرارة الدنيا.
- التذكير بالذنوب للتوبة منها: يقول الله- عز وجل-: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، ويقول سبحانه: {وَمَا أَصابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فالبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرجِعُونَ} [السجدة:21]، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ونغصها، وما يصيب الإنسان من سوء وشر.
- كشف حقيقة الدنيا وزيفها: فالحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا، في حياة لا مرض فيها ولا تعب {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعلَمُونَ} [العنكبوت:64]، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهم: {لَقَدْ خَلَقنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] .
صور مختلفة للبلاء
وصور البلاء في حياة المؤمن متنوعة، وقد جمعتها الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]:
- الخوف: ويكون من شيء سيقع، والحزن على شيء وقع، والحياة فيها خوف، وما دام أنّ فيها خوفا فإنّ الإنسان يعيش في ابتلاء، ولا يوجد أحد منّا لا يخاف، إمّا من شخص أو مرض أو مصيبة، ولكن عندما يعيش الإنسان مع الله سبحانه وتعالى، فإنّه لا يخاف، لأنّه لا يوجد ابتلاء يقع إلّا ويأتي معه اللّطف.
- الجوع: وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعد- رضي الله عنه- قال: كنا قومًا يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وشدته، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك وَمَرَنَّا عليه وصبرنا له، ولقد رأيتني مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة خرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين، ثم استففتها وشربت عليها من الماء، فقويت عليها ثلاثًا.
- نقص الأموال: والبلاء في المال بماذا؟ بأن تأتي آفة تأكله، وإن وجد يكون فيه بلاء من لون آخر، وهي اختبارك هل تنفق هذا المال في مصارف الخير أو لا تعطيه لمحتاج، فمرة يكون الابتلاء في المال بالإفناء، ومرة في وجود المال ومراقبة كيفية تصرفك فيه، والحق في هذه الآية قدم المال على النفس؛ لأن البلاء في النفس يكون بالقتل، أو بالجرح أو بالمرض. فإن كان القتل فليس كل واحد سيقتل، إنما كل واحد سيأتيه بلاء في ماله.
- الغنى وكثرة العرض: قال صلى الله عليه وسلم : “فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتَنافِسوها كما تنافسوها وتُلهيكم كما ألهتهم” (البخاري).
- زينة الدنيا وزهرتها: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها” (البخاري).
- حب الرياسة والجاه: فيطلبها ويحرص عليها فيكون فيها هلاكه، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: “إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة” (البخاري).
الرضا أم المدافعة؟
لا بُد للمؤمن بعد الرضا والقبول والتسليم بأمر الله أن يتخذ خطوات لمدافعة هذا البلاء، فيكون حاله هكذا:
- في البداية عليه، الصَبْرُ على قضاء الله، وحُسْن الظَّنِّ به، والرضا بقضائه، وعدم القُنُوط من رحمته، وانتظار فرجه.
- مدافعة قَدَرِ اللهِ بِقَدَرِ الله، والسعى للتغيير، والمبادرة إلى العمل؛ للخروج من الضِّيق والكَرْب، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].
- البحث عن الحلول ووضَعِ الخُططَ والبدائل، والتَحسّس مِن المخْرَج، والبحثْ عن المنفذ، وتلمَّس الفَرَج، وعدم الوقوف مكتُوفَ اليدين، ولا بُد من المغامرة والسفر، وها هو خليل الرحمن لما ضاق به الحال ولم يؤمِنْ معه أحَدٌ إلا زوجُه وابنُ أخيه لوط، قال لأبيه وقومه: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99] سيدلُّني إلى ما فيه الخير لي، من أمر ديني ودُنْياي.
- التخلص من العجز والكسل: فالحياةُ ليست للرتابة والخمول، وما من بلاءٍ يقع إلَّا وله من الله دافعٌ، وما من كَرْبٍ ينزل إلَّا وله من الله نجاةٌ ومَخْرَجٌ: ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾ [الأنعام: 64].
- معرفة حقيقة البلاء: فعلى المؤمن أن يعلم بأن كثيرًا من الخلق مبتلى بنوع من البلاء كل بحسبه ولا يكاد يسلم أحد فالمصيبة عامة، وعليه أن يذكر مصاب الأمة الإسلامية العظيم بموت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى انقطع به الوحي وعمّت به الفتنة وتفرق بها الأصحاب، وعليه أن يعلم ما أعد الله لمَن صبر في البلاء أول وهلة من الثواب العظيم.
- التزام الدعاء: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “الدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإذا كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه، لكن يخففه ويضعفه، ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة”.
- اللجوء إلى الصلاة: “فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة” (رواه أحمد) .
- الإكثار من الصدقة: فهي سلاح فعال يتسلح به في معترك الحياة، وهي تحمي من المصائب، والشدائد، وترفع البلايا والآفات، وتعيد العافية والصحة بعون الله تعالى، ولقد فزع الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لخسوف الشمس، فأرشدهم عليه الصلاة والسلام إلى الدعاء والصدقة فقال: “فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا” (متفق عليه).
- تلاوة القرآن: يقول تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء:82].
- الاقتداء بالرّسول: وعلى الدّاعية أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم- حتى في مواجهته الابتلاء، الذي عبر عنه ورقة بن نوفل في أول يومٍ من أيام النبوة حين قال: “يا ليتني فيها جذعا (ليتني أكون حيا) إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أو مخرجي هم؟!، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي” (البخاري).
ومواقف الأذى التي تعرض لها صحابة النبي- صلى الله عليه وسلم- كثيرة ومتعددة، فقد لاقوا أشد أصناف العذاب، ويصور لنا خباب- رضي الله عنه- مدى الأذى الذي تعرضوا له حين قال: “شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟، ألا تدعو الله لنا؟، قال- صلى الله عليه وسلم-: كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون” (البخاري).
على الرغم من أن الابتلاء في حياة المؤمن عبارة عن مشقة وشدةٍ ومعاناة، فإن فيه منحًا إلهية وجوائز ربانية جعلها الله لعباده المؤمنين، فمن ذلك تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات وتطهير النفوس وتزكيتها، وربطها بخالقها والتمكين والنصر والتمييز والتمحيص بين العباد ومعرفة أهل الصدق والصبر والإيمان، وكشف وفضح أهل الخيانة والكذب. والمسلم يحتاج إلى أن يحسن التعامل مع الابتلاء وكيف يستثمره ويستفيد منه، فيقوي إيمانه بالله عندما يدرك أن قدر الله لا مناص منه فيربي نفسه على التسليم والرضا بما قدر الله.
والابتلاء يعمل على اصطفاء العناصر القوية الصالحة، فلا يدخل في العمل لدين الله من يكون عبئاً على العاملين، وإنما يأتي إلى الدعوة ويثبت عليها من تمكن الإيمان في قلبه، ومن يبتغي وجه الله والدار الآخرة، لأن المرء إذا علم أن المغارم أكثر من المغانم فإنه لا يختار المغارم إلا إذا رضي بالآجلة- أي الجنة- عوضًا عن العاجلة- أي الدنيا.
المصادر والمراجع:
- أبو فيصل البدراني، فقه الابتلاء وأقدار الله المؤلمة، ص 16.
- ابن القيم: زاد المعاد، 4/195.
- ابن هشام: سيرة ابن هشام، ص 194.
- طريق الإسلام: نعمة الابتلاء.
- موقع مع الله: مفهوم الابتلاء في القرآن الكريم.
- موقع الإسلام سؤال وجواب، الحكمة من الابتلاءات، فتوى رقم: 35914.
- عبدالسلام بن محمد الرويحي: حكم البلاء ومدافعة القدر.ب