في ظل الحاجة الملحة إلى اتباع أسس التربية الإبداعية والابتكار، سعيًا إلى إيجاد جيل من المبدعين في شتى مناحي الحياة، وصولا إلى إحداث تغيير شامل في الأمة الإسلامية، فإنه لا مناص من الغوص في تفاصيل طريقة النبي – صلى الله عليه وسلم- التي ربّى بها الصحابة الكرام على الإبداع والتفكير، ما أثمر عن صياغة جيل من الصحابة له قدْرُته ومكانتُه وأثرُه في الحضارة الإسلامية خاصة، والإنسانية على وجه العموم.
ولأن الحديث النبوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه الهدي الأمثل، ومنه تُستنبط الأساليب المبتكرة في التربية، لذا قرر الدكتور موسى السبيط، الأستاذ بجامعة القدس في فلسطين، تناول هذا الموضوع، في دراسة خاصة تحمل هذا العنوان، حيث أفرد فيها جميع التفاصيل التي يُمكن الاستفادة منها في بناء جيل مُبدع.
مفهوم التربية الإبداعية
يأتي مفهوم التربية الإبداعية والابتكارية، في اللغة والاصطلاح، حيث: ربّه يربّه إذا كان له ربّا، ملكه، وربّاه تربية، أحسن القيام عليه ووَلِيَهُ حتى يفارق الطفولة، وربّ الولد ربّا، وليه وتعهده بما يغذيه وينميه ويؤدبه.
وفي القرآن الكريم قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].
والمعنى الاصطلاحي للتربية: هي عملية إعداد للإنسان منذ طفولته للحياة في الجماعة التي ينتمي إليها، وهي عملية إحداث تغيير في الطفل في جسمه، وفي قدراته، وفي تفكيره، وعاداته، وميوله، واتجاهاته، وفي جوانب شخصيته المختلفة، مع افتراض أن تؤدي هذه العملية إلى رفع كفائته الشخصية والاجتماعية.
ولا ينبغي أن نتخيل أن الإبداع منفصل عن الخصوصية الثقافية، أو نعتقد أن دلالة مفهوم الإبداع، الخروج والتمرد عن المألوف الموروث، والانقطاع عن الخصوصية السائدة. كلا، ليس هناك انفصال بين الإبداع والخصوصية الثقافية، فالإبداع تجديد للذات بتجديد الموضوع، فلا إبداع خارج نطاق الذات، والذات هي محصلة الخصوصية وحاملتها.
لذا لا إبداع خارج نطاق الخصوصية الذاتية، ويرى الدارسون أن العلاقة بين الإبداع والثقافة في كون الإبداع محركًا أوليًّا للثقافة، أو قوة دفعٍ أساسية للحركة الفكرية، فإن نَشِط الإبداع نَشِطت الثقافة، وإن انقطعت أنفاسُه تقطّعت أوصالها.
أسس التربية الإبداعية
وتستند التربية الإبداعية والابتكارية، وفق الرؤية النبوية، إلى عدد من الأسس التي يجب الانتباه إليها، ومنها:
- حسن الظن بالله تعالى: فإن ممّا يعزز الثقة ببلوغ الهدف رغم المعوقات، حسن الظن بالله، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، لقول الله تعالى: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خيرٍ منهم، وإن تقرّب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة”.
لذا فإن على العبد الذي ينشد الوصول إلى الإبداع، أن يجتهد بالقيام بما عليه، موقنًا بتحقيق النتيجة وبلوغ الهدف. فالله تعالى يقبله، ويغفر له، ويحقق مطلبه، لأنه وَعَد بذلك، فإنْ اعتقد العبدُ أو ظن خلاف ذلك، فهو اليأس من رحمة الله وذلك من الكبائر.
- الإخلاص لله والصدق مع الله: فإن الإخلاص لله تعالى والصدق معه من أهم أسس الإبداع وبواعثه، وحقيقة الإخلاص أن يتبرأ العبد من كل ما دون الله، ولقد أحسن الإمام الجرجاني حين عرّف الإخلاص بقوله: ألاّ تطلب لعملك شاهدًا غير الله، والمخلَصين، الذين أخلصهم الله، والإخلاص في الدين، أن يوحّد المعبود وحده بالعبادة.
- المسارعة والمسابقة: هاتان الصفتان أصلٌ في تنمية ملكة الإبداع، وهي صفات يتربى عليها المبدع في ضوء الهدي النبوي. إن جيل الصحابة – وهو الجيل المبدع- غُرِست فيه هذه الأصول، فكان فيهم، المبادرُ والسابقُ والمسارعُ.
وكان ذلك استجابة لخطاب الله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ (المؤمنون: 61).
ويربي الرسول هذه الملَكة لدى الصحابة من خلال تشجيع السابق منهم، أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: “سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفًا، تضيء وجوهُهم إضاءة القمر ليلة البدر، قال أبو هريرة: فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نَمِرة عليه فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ادع الله أن يجعلني منهم قال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة”، ونَمِرة: كساء من صوف كالشملة مخططة بسواد وبياض يلبسها الأعراب.
- الرغبة في التفوق: تُعد حافزًا ومنمّيًا للإبداع، فقد حرص رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن يغرس هذا الحافز في قلوب صحابته، فأيقظ فيهم الحسّ المتوثب للإبداع، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال رسول الله: “أنَّ موسى عليه السلام قال: يا رَبِّ، علِّمْني شيئًا أذكُرُك وأدعوك به. قال: يا موسى، قل: لا إلهَ إلَّا الله، قال: يا رَبِّ، كلُّ عبادِك يقولون هذا. قال: قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. قال: لا إلهَ إلَّا أنت يا رَبِّ، إنما أريدُ شيئًا تخُصُّني به. قال: يا موسى، لو أنَّ السَّمواتِ السَّبعَ وعامِرَهن غيري، والأرَضينَ السَّبعَ في كِفَّةٍ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ في كِفَّة، مالت بهنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ”.
مقومات التربية الإبداعية
إن التنْشئة على قيَم الإبداع تجعل من الناشئ ذلك المبدع الحريص على انتظام سلوكه ضمن منظومة التربية الإبداعية والابتكارية، ومن أهم مقوماتها:
- الحرية: ضَمِن الهدْيُ النبوي للإبداع جوًّا ينمو فيه ويترعرع، فتوفرت كل المقومات التي يقوم بها الإبداع، ومن أعظم مقوماته (الحرية)، فهي قرينة الإبداع، و(المعرفةُ) وجهٌ من وجوه الحرية، بل هي الحرية الحقيقية نفسها، وبغير ذلك لا يقوم إبداع، وأول ما يخنق الإبداع إنما هو (الجهل)، وقد كان الإنسان قبل بعثة محمد يجهل مكانه ومكانته، ويجهل تكريم الله تعالى له، فبقي مستعبَدًا لغير الله تعالى، لا ينعتق من العبودية التي ساقه إليها جهلُه، وحين حقق الإسلام المعرفة تحّرر وانعتق وأبدع.
إن الإسلام دين العلم والمعرفة، جاء يخاطب العقول، ويحرّضها على إكمال الفكر ويقيم الحجة، ويطلب البرهان. والتربية الإيمانية الإبداعية للفرد المسلم، هي تربية عقلية سليمة تطلق للعقل العنان، وتعطيه الحرية في التفكير والنظر. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190).
في هذه الأجواء التي أوجدها الإسلام ومارسها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- واقعًا عمليًّا مع صحابته؛ حيث التحرر من قيود الجهل، واستخدام الأساليب العلمية التي أرشد إليها الوحي، للوصول إلى العلم والمعرفة، ومن ثم الإبداع، في هذه الأجواء أوجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجيل المبدع.
- المثابرة على العمل: مقومٌ مهم من مقومات الإبداع يجسّد العلاقة بين المبدع والعالَم المحيط به بكل أشكاله ومظاهره، حتى جاء في تعريف الإبداع: (أنه النشاط أو العمل الذي يؤدي إلى إنتاج جديد ينفع المجتمع)، والمرء لا يبتكر إلا بالعمل الجاد الدؤوب، على حين أن الوقوف عند حد الأماني والرجاء لا يأتي بخير.
وحض الإسلام على العمل والمداومة عليه، وهدى إلى الاستعاذة من العجز والكسل والخلود إلى الأماني، وأثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اليد العاملة المكتسبة المثابرة المتقنة عملها حين قال: “إن خير الكسب كسب يدي عاملٍ إذا نصح” (صحيح الجامع).
- استشراف المستقبل: الأمل والتوجه نحو المستقبل من أهم شروط الإبداع، فالمسلم المهتدي بهدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لا يتوقف عند اللحظة الحاضرة، فضلا عن أن يكون رهينًا للماضي لا يتزحزح عنه قيد أُنملة، إن الكون يسير وفق نواميس أودعها الله تعالى فيه، والمسلم بالمنهج العلمي الذي استخلصه وسار عليه، يجدر به أن يحسب خطواته آخذًا بكل الأسباب التي من شأنها أن تُنْجح العمل وتضمن نتائجه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله! أأعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ فقال: (اعقلها وتوكل).
ويفرق المسلم المهتدي بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين التوكل والتواكل، ويفوض أمره إلى الله، ويعلم أنْ لا تنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب.
قال الحافظ ابن حجر: “والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، اتباعا لسنته وسنة رسوله”، إنه لا ينتظر أن يكون إبداع أو تنمية للإبداع في بيئة يشيع فيها السلوك التواكلي، أو الاعتقاد بالكهانة والعرافة والسحر والشعوذة والخرافات والأساطير.
العناية بقيم الإبداع
ومن أهم ما يجب الانتباه إليه خلال اتباع أسس التربية الإبداعية والابتكارية، هو العناية بقيم الإبداع، وتتخلص في الآتي:
- الوقت: فإن من أهم قيم الإبداع والتفكير الابتكاري التي أولاها الإسلام عنايته ورعايته وهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حفظها واستثمارها في خَلْق الإبداعات (قيمة الوقت). وبلغ من أهمية الوقت، أن أَقْسَم به الله تعالى في مطالع سور عديدة.
وأبرزت لنا السنة في أحاديث عديدة قيمة الوقت، والحرص عليه، وعدم إضاعته، والمؤمن المكلف يُحْسِن إدارة الوقت واستغلال كل دقيقة منه، وجعله الإطار الذي يُنَمّى فيه الإبداع.
وفي بيان أهمية هذه القيمة الثمينة من قيم الإبداع يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :”لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به” (الترمذي).
- الإتقان: ومن هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في أركان الإبداع ومقوماته، أن يُطالِب المرء ببلوغ الغاية في إحسان العمل وإتقانه وفق أحسن المواصفات، قال الله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. (البقرة: 195). إن الله تعالى قد أحسن في خلقه الكون: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة: 7)، لذا فقد طلب من عباده أن يُحسنوا ويبلغوا هذا المقام فيما أقامهم فيه، وفيما كلّفهم به.
وأخرج الإمام مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه قال: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته”. ومَنْ تدبر هذا الحديث وجده يشمل ظاهر الدين وباطنه، ويشمل العقيدة والشريعة، والعبادة والسلوك.
الأسرة محضن الإبداع
إن التربية الإبداعية والابتكارية لا بُد من أن تتم في محضن يحميها ويرعاها، لتأتي بالثمار المرجوة، كما لا بُد من أن يكون هذه المحضن في ضوء الهدي النبوي الشريف.
لذا فإن الأسرة هي أول المحاضن التي ينمو فيها الإبداع ويترعرع، وتربية الإبداع لدى الطفل إنما تبدأ منذ نعومة أظفاره، بل منذ الولادة وتستمر مع مراحل العمر المختلفة. والتجارب التي يحياها الطفل خلال السنوات الخمس أو الست الأولى في حياته تقرر أساس شخصيته.
والأسرة تقوم بدور أساسي في تكوين الشخصية المبدعة، وفي تنمية الاستعدادات والقدرات الإبداعية لدى الأفراد وتطويرها، وفي مدى فاعلية تأثير البيئة المحيطة على تكوين صفات الشخصية المبدعة ما أخبر به الرسول حين قال: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه ويُنصرانه ويُمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء..” (البخاري).
وعلى المربي أن يراعي الميول والمواهب التي يبرع فيها الناشئة، بل من يُتَولى أمره، سواء كان طفلًا أو شابًا أو متعلمًا أو جنديًا أو فردًا في جماعة.
ولقد رعى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إبداعات الصحابة وسعى إلى تنميتها، أخرج الشيخان عن أبي إدريس الخولاني سمع حذيفة بن اليمان يقول: “كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم”.
وقد أكد علماء الحديث ضرورة رعاية الميول الإبداعية في الناشئ استنادًا إلى هذا الحديث، قال ابن حجر: “ومن أدب التعليم أن يُعَلّم التلميذ من أنواع العلوم ما يراه مائلًا إليه من العلوم المباحة، فإنه أجدر أن يسرع إلى تفهّمه والقيام به”.
وأطفال اليوم هم – بلا شك- رجال المستقبل الواعد، ولسوف يكون فيهم العالم والصانع والتاجر والطبيب.. هؤلاء، فيهم نبث روح الإبداع، ومنهم نصنع جيلا من المبدعين.
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يولي الطفولة عنايته، وهذا هديٌ بثّه في نفوس أصحابه الذين كانوا يصطحبون أطفالهم في مجالس الكبار، لتُبْنى شخصيةُ الطفل فتكبر، ولا شك أن احتكاك الصغار بالكبار له فاعلية في تنمية الشخصية، ويشجعها على الإبداع والابتكار.
الكشف المبكر عن الإبداع
إن الكشف عن نبوغ الطفل مبكرًا وتحسّس جوانب الإبداع لديه ورعايتها هو منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التربية الإبداعية لصحابته، فهذا زيد بن ثابت كان ابن إحدى عشرة سنة حين قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وقد كان غلاما ذكيا فطنا تبدو عليه علامات النبوغ، فكيف تعامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قدرات زيد بن ثابت الإبداعية؟
قال زيد بن ثابت: “أُتِي بي النبي مقدمه المدينة فقالوا: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هذا غلام بني النجار وقد قرأ مما أُنزل عليك سبع عشرة سورة، فقرأتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعجبه ذلك وقال: يا زيد تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمنهم على كتابي، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقتُه، وكنت أكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كتب إليهم”.
إذن هذا زيد بن ثابت، كفاءة علمية قُدّمت لرسول الله، برع في مجال القرآن وحفظه ومشروع كتابته وجمعه، وأبدع في علم الفرائض كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وصفه: “أفرض أمتي زيد بن ثابت”.
وفي اعتناء الرسول بالطفولة ما رواه أنس قال: كان النبي أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له: أبو عمير وكان إذا جاء قال: «يا أبا عُمير ما فعل النُغير؟» نغر كان يلعب به. فربما حضرت الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وتنضح، ثم يقوم ونقوم خلفه، فيصلي بنا.
لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يداعب الصغير ويواجهه بالخطاب، وفي ذلك فائدة عظيمة، وإنه لتقدير منه، وهو العظيم المرسَل إلى البشرية، يقدر الصغير فيثق بنفسه، ويشعر بقدره واحترام الناس له فيبدع ويبرع.
وينبغي أن يحترم عقل الصغير فلربما تبدو منه الفكرة الإبداعية التي يمكن وصفها بالكبيرة نسبة إلى صغر سنه وضآلة جسمه، فلا تحقرنّ أحدا لصغره أن يصدر عنه الأمر الخطير والإنجاز البديع.
هذا عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه- يروي من وقائع معركة بدر قال: “إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتُ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السنّ، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحُدهما سرًا مِنْ صاحبه: يا عم أرني أبا جهل. فروى قصة قتلهما أبا جهل” (البخاري).
وكان من هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- تشجيع الأفكار الإبداعية وتبنيها، ومن أمثلة ذلك في التجهيز لمعركة بدر سبق الرسولُ المشركين إلى ماء بدر، ليحول بينهم وبين الماء، وهنا أبدى الحباب بن المنذر بتغيير الموقع، فقال رسول الله: «لقد أشرت بالرأي»، وفعل ما أشار به الحباب بن المنذر رضي الله عنه.
مراعاة الفروق الفردية
في سبيل صناعة جيل مبدع توجهت العناية النبوية إلى مراعاة الفروق الفردية أثناء التربية الإبداعية والابتكارية، فكلٌ مبدعٌ فيما يقيمه الله فيه.
والإبداع لا يتصور أن ينحصر في شريحةِ النجباء فحسب، وإنما في كلٍ حسب طاقته وقدرته ومزاياه، لذا كان لزامًا أن يوضع هذا المعيار فتُراعى الفوارق.
وكان من هدى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن يخاطب كلّ واحد بقدر فهمه، وبما يلائم منزلته، وكان يحافظ على قلوب المبتدئين، فلا يعلمهم ما يعلم المنتبهين، وكان يجيب كل سائل عن سؤاله بما يهمه ويناسب حاله. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال: “جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: “أحيٌّ والداك؟” قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد”.
مع ما عُرف من النبي من الحضّ على الجهاد والهجرة والترغيب فيهما، ونجده يوصي كلا بما يناسبه، أو يُكمل نقصًا فيه، أو تكون له علاجًا فيوصي كلًا من صحابته بما لا يوصى به الآخر لاختلاف الظروف والأحوال. جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أوصني بشيء ولا تكثر عليَّ، لعَلِي أعيه قال: “لا تغضبْ”، فردّ ذلك مرارًا، كل ذلك يقول: “لا تغضب”.
ويأتيه آخر يسأله: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: “تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان، قال: “والذي نفسي بيده لا أزيد على ذلك شيئا ولا أنقص منه”. فلما ولى قال النبي: “مَنْ سَّره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا”.
إن اختلاف أجوبة الرسول رعاية لوجوه الأفضلية وشؤون المزية.. فأصناف الفضل متنوعة، ومراتب الفضل ومدارج الخير مختلفة، واختلاف جواب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيه الرعاية للفروق الفردية بين وجوه الأفضلية وأسباب الخير.
ويعلل الإمام الحافظ ابن حجر اختلاف الجواب لاختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كلَّ قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره.
وعندما نتأمل هدى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عليه وسلم في رعاية الإبداع وصناعة المبدعين، نقف من هدية على قاعدة نفيسة ومهمة “إنها قاعدة المعادن في الإبداع”.
روى أبو هريرة أنّ الرسول قال: “تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا”، والمعادن هي الأصول، فإن كانت الأصول شريفة، كانت الفروع شريفة كذلك غالبًا، والفضيلة في الإسلام بالتقوى، لكنْ إذا انضم إليها شرف النسب وما سوى ذلك من صفات وسمات، ازدادت فضلًا إلى فضل.
أساليب ووسائل تنمية الإبداع
يرشد الهدي النبوي في التربية الإبداعية إلى الأساليب التي تنمّي الإبداع لدى المتعّلم، فالمربي الذي يحرص على تربية إبداعية مميزة، يسعى إلى استخدام كافة وسائل وأساليب تنمية الإبداع، لتكوين العناصر الخلاّقة الفاعلة، ومن ذلك:
- التحفيز: إن عملية الإبداع هي في حقيقتها محصلة اجتماع عوامل عديدة، فالإبداع محصلةٌ لما يشبه (اللقاء السعيد) بين أعلى الوظائف العقلية كفاية، وأكثر الخصال الوجدانية في الشخص المبدع، وأفضل أنواع المناخ ملاءمة للتفكير الإبداعي. وحين ننظر في هدى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في تنمية الإبداع لدى الصحابة رضوان الله عليهم نجده راعى هذه العوامل كلها.
فقد كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن محفزات في أشخاص أكابر الصحابة قائلًا ومحفزًا: “أَرْحَمُ أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرأهم لكتاب الله أُبيّ بن كعب، وأفرضُهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
تنمية الإبداع بأسلوب السؤال والمساءلة: إن من أعظم ما ينمي المهارات الإبداعية ويستنبط كوامنها أسلوب السؤال والمساءلة، ويعد هذا الأسلوب أسلوبًا معتمدًا في التعلم والتعليم وإعمال الفكر، مع ما فيه من إثارة للانتباه وتشويق النفوس للجواب.
وقد اعتمد الوحي أسلوب (السؤال والحوار)، ومن أبرز ما يثبت ذلك ويستشهد به عليه، حديث سؤالات جبريل. وفي ذلك دلالة عظيمة على أن السؤال الحسن يسمى علمًا وتعليمًا، وأن جبريل وإنْ كان هو السائل لكن سُمِي بحسن سؤاله (معلمًا)، فحسن السؤال ممن اشتهر به نِصْف العلم.
وقد تنبه الصحابة لأهمية السؤال والمحاورة، فهذا النواس بن سمعان الكلابي يقيم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة سنة ويقول: “ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يَسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، فسألته عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس”.
- تنمية الإبداع بالألغاز: لقد ذهب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في تنمية مهارات الإبداع لدى صحابته إلى أبعد من ذلك، حيث استخدم أسلوب الألغاز، ليحرّض العقول على الفهم، ويثير الفطنة ويحرك الذكاء.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “بينما نحن عند النبي جلوس إذ أتي بجمّارِ نخلة، فقال وهو يأكله: “إنّ مِن الشجر شجرة خضراء لَما بركتها كبركة المسلم، لا يسقط ورقها ولا يتحاتُّ، وتؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها، وأنها مَثَل المسلم فحدثوني ما هي؟”.
- القصص وسيلة لتنمية التفكير الإبداعي: لقد اتخذ الرسول القصص وسيلة من وسائل تنمية الإبداع وتأكيد الاتجاهات الإبداعية، وتحفيز التفكير الإبداعي لدى صحابته، وهي وسيلة ناجعة خاطب الله تعالى بها المؤمنين فقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ﴾ (يوسف: 3).
ويعلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أصحابه ومن بعدهم بطريق القصص وذكر الوقائع التي يحدثهم بها عن الأقوام الماضين، فتؤثر فيهم ويكون منها العبرة والعظة والقدوة والتأسي، بل وفضلًا عن كونه أسلوبًا لتنمية الإبداع لدى المخاطب، نلحظ في القصص ذاتها جوانب إبداع تثير مكامن الإبداع في المخاطب.
ففي مجال الإبداع في العلاقة مع الحيوان والرفق به، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش..”.
- الأخوة والتآخي بيئة ومناخ للإبداع: يحرص الإسلام على خلق بيئة للإبداع وتوليد الأفكار الإبداعية من خلال تآلف وتعاطف وإخاء قائم على الإيمان، قال تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (الأنفال: 63). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “المسلم أخو المسلم”.
- الشورى والعصف الذهني: إن من أعظم طرق تنمية التفكير الإبداعي عقد مجالس الشورى وإجراء عملية الاستشارة وفق الشروط والمعايير والآداب المعتبرة، لتؤتي الشورى ثمارها في الوصول إلى أفكار وحلول إبداعية.
وللشورى دور عظيم في استنباط الرأي الأقوم والأهدى، وحسبك أنّ الشورى جاءت بأمر رباني للرسول قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ (آل عمران).
ومارس رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الشورى بصورها، وعقد لها مجالسها، وأكثر منها حتى قال أبو هريرة: “ما رأيتُ أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه”.
وقال ابن تيمية: “إن الله أمر بالمشاورة نبيه فغيرُه أولى بالمشورة”، لذا فإن مداولة الرأي من خلال الشورى، وبيان الحجة، يُبرز مستوى الإيمان والعلم، وتتمايز المواهب والقدرات، وتُعرف المعادن والرجال، فالشّورى محك يكاد يكشف أطراف النيّة ومنثور الموهبة وحدود الطاقة.
المصادر:
- الجرجاني: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، ص 124.
- ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 1-15، ج11.
- عبد الكريم زيدان: أصول الدعوة، ص 217.