احتلت البحوث التربوية مكانة رفيعة لدى العديد من الدول، لأن الكثير من المشكلات التربوية لا تحل إلا عن طريق معرفة أسباب حدوثها، ثم معالجة هذه الأسباب، أو تخفيف حدتها وهذا هو الدور الأساسي للبحوث في مجال التربية.
والبحث التربوي من أهم الأساليب التي يُعوّل عليها تحديث التعليم وتطويره، وبخاصّة فيما يتعلق بمقومات العملية التربوية من جميع جوانبها وأطرافها، ومُراجعة غايات التعليم وأهدافه في المراحل المختلفة لضمان استجابته للمتغيرات العصرية، وفي هذا الموضوع نعرض لمفهوم هذه البحوث، وأقسامها، والتحديات التي تواجهها، وأهم مجالاتها.
مفهوم البحوث التربوية وأقسامها
وتُعرَّف البحوث التربوية بأنها طريقة مُنظمة ودقيقة وناقدة وموضوعية لاستخدام الأساليب والوسائل العلمية في تفسير الظواهر التربوية داخل المؤسسات التربويّة وخارجها، ومحاولة حل المشكلات التي تُواجه المربين والمتربين وغيرهم من المشاركين في العملية التربوية.
ويعتمد البحث التربوي على مجموعة خطوات يجب أن يتبعها الباحث عند دراسته لظاهرة ما، أو مشكلة تربوية معينة، وتتمثل في الإحساس بالمشكلة والتعرف عليها، وتحديدها في سؤال أو أكثر، وجمع المعلومات والبيانات عنها، وفرض الفروض لحلها، ثمّ اختبار صحة تلك الفروض، والتوصل إلى الحل الصحيح، وفي النهاية تعميم الحل على المشكلات المشابهة، وعليه فإنّ هذا البحث ينقسم إلى أربعة أهداف رئيسة هي:
- تفسير الظواهر المتعلقة بالتربية (مثل ظاهرة التسرب من التعليم).
- العمل على إيجاد حل للمشكلات التربوية.
- والتنبؤ بحدوث هذه الظواهر إذا توافرت أسبابها.
- القدرة على التحكم في تلك الظواهر وحل المشكلات التربوية.
ويقسَّم البحث التّربوي إلى أنواع مُتعدّدة وفقًا لمعاييرَ مختلفة، فمن حيث معيار الهدف، تنقسم البحوث التربوية إلى:
أ. بحوث نظرية: تهتم بالكشف عن المعرفة التربوية، وبناء القوانين والنظريات التربوية.
ب. بحوث تطبيقية: تهتم بتطبيق هذه القوانين والنظريات في حل المشكلات التي تواجه المعلمين أو الطلاب.
ج. بحوث تجريبية: تهتم بالدراسات العملية ومدى تأثير الأسباب على النتائج.
ومن حيث معيار الطريقة، فإن البحث التربوي ينقسم إلى:
أ. بحوث تاريخية: تهتم بالبحث في تطور الفكر والممارسات التربوية في الماضي.
ب. بحوث وصفية: تهتم بالبحث في الظواهر والمشكلات التربوية الواقعية التي تحدث في المؤسسات التربوية المختلفة.
واقع البحوث التربوية في البيئة العربية
تُشير دراسات بعض التربويين من أمثال: محمد سيف الدين فهمي، وحسن مختار، ومحمد طه، محمد منير مرسي، إلى أن واقع البحوث التربوية في البيئة العربية يتحدد في النقاط التالية:
- ضعف الأداء البحثي للجامعات العربية بصفة عامة، فما يزال البحث التربوي يُمثل نشاطًا ثانويًّا في اهتمام الجامعات، وإتاحة ميزانيات مالية متواضعة لإجراء البحوث التربوية.
- عدم وجود إستراتيجية واضحة ومرسومة لتوجيه البحث التربوي بالجامعات إلى خدمة التنمية وحل المشكلات التي تواجهها.
- الانفصال شبه التام بين ما تريده الدولة، ومؤسساتها والقطاع الخاص وبين ما تقوم به الجامعات من بحوث تربوية.
- انشغال أساتذة الجامعة بالعملية التعليمية وبأعمال الامتحانات التحريرية والشفوية والاجتماعات على مستوى القسم ومستوى الكلية.
- نقص الإمكانات اللازمة لإجراء البحوث المتقدمة من ميزانيات مالية، ومكتبات، ومعامل وأجهزة إلى غير ذلك.
- ارتفاع تكاليف إجراء بعض البحوث التربوية، وعدم توفر البحوث للمجتمعات المحلية.
- عزوف مؤسسات المجتمع عن المشاركة في تمويل المشروعات البحثية للمجتمعات المحلية.
- صعوبة النّشر في بعض المجلات التربوية وارتفاع تكاليف هذا النشر، وبخاصّة تكاليف النشر في المؤتمرات التربوية.
- ويُمكن للجامعات إجراء بحوث عديدة للمؤسسات الإنتاجية في المجتمع، بحيث تأخذ شكل اتفاقية بين الجامعات ومؤسسات الإنتاج، أو تكون أبحاثًا تعاونية يشترك فيها فريق من الباحثين في الجامعة والمؤسسات الإنتاجية.
- وفي الجامعات الأمريكية تجري الجامعات العديد من البحوث والمشروعات لخدمة المجتمع منها على سبيل المثال: مشروعات تسهم في تشكيل المستقبل وتقديم حلول للمشكلات الصناعية والهندسية، وبحوث بناء على طلب قطاعات المجتمع التربوية، الاجتماعية والصناعية، وأيضًا في مجال الإلكترونيات، وهذا ما يتم في كثير من جامعات الدول المتقدمة، التي تحرص على:
- تشجيع أساتذة الجامعة على إجراء البحوث العلمية التي تسهم في حل مشكلات المجتمع وتطويره.
- دخول الجامعات في شراكة مع قطاعات المجتمع العام والخاص من خلال إنشاء مراكز مشتركة، وإجراء بحوث مشتركة بين أساتذة الجامعة والباحثين.
- إجراء البحوث بناء على طلب قطاعات ومؤسسات المجتمع.
- السماح لأساتذة الجامعة بالعمل لدى مؤسسات وقطاعات المجتمع.
- إعفاء بعض الأساتذة من المحاضرات، أو منحهم إجازات للتفرغ للعمل والبحث، سواء داخل الجامعة أو خارجها.
- تقديم مؤسسات وقطاعات المجتمع مكافآت مالية للأساتذة القائمين على دراسة مشكلاتها وتطوير منتجاتها.
- تبني مؤسسات وقطاعات المجتمع مجموعة من الباحثين في الجامعات، والإنفاق على أبحاثهم خاصة إذا كانت متصلة بمجال أنشطتها.
- اهتمام المؤسسات الإنتاجية في المجتمع بخبرة أساتذة الجامعة من ذوي القدرة على الإبداع والابتكار، وإبرام العقود معهم للقيام بالأبحاث التي تعالج مشكلاتها.
- نشر البحوث التي تجرى في المجالات العلمية، وتحويل نتائجها إلى تقنيات عالية.
- إنشاء العديد من المراكز البحثية بالجامعات.
- تخصيص ميزانية مالية عالية تغطي نفقات البحث العلمي.
- تشجيع الملكية الفكرية لأساتذة الجامعة.
- منح أساتذة الجامعات مكافآت سخية مقابل الأبحاث التي يقومون بها.
- عقد المنتديات التي تتناول مشكلات المجتمع، وكيفية حلها بحثيًا.
مجالات البحث التربوي
ومن الممكن تحديد أهم هذه مجالات البحوث التربوية في النقاط الآتية:
أولًا: مجال المقارنة: ويعرف البحث التربوي المقارن بأنه ذلك النوع من البحوث الذي يهتم بالتربية في كل أنحاء العالم، أي أنه ينظر للتربية من منظور عالمي، وهو- أيضًا- يعني بالدراسات التحليلية للقوى الثقافية بهدف التوصل إلى فهم جوانب التشابه والاختلاف بين الأنظمة القومية للتعليم ومشكلاتها المختلفة، وعلاوة على ذلك فإنه يتضمن قيمة نفعية إصلاحية لتطوير نظم التعليم.
وتتميز هذه البحوث المقارنة بأنها تتيح الفرص لتعرف ثقافات الشعوب وحضارتها وأبعادها المختلفة، ومن ثم فهي تساعد على التقارب بين تلك الشعوب وتفاهمها، كما أنها تهدف إلى إيجاد حلول للمشكلات التربوية المشتركة بين هذه الشعوب، وتوفر فرصًا ممتازة لدراسة الكفاءة الداخلية لنظم التعليم.
ثانيًا: مجال إعداد المعلم وتدريبه: لقد فرضت التحولات العالمية الجديدة في ظل النظام العالمي الجديد اتجاهات تربوية خاصة بإعداد المعلم وتدريبه في جوانب متعددة، فالمعلم هو حجر الزاوية في عملية التعليم والتعلم؛ لأن مهماته تتعلق بمختلف جوانب العملية التعليمية من: تدريس، وإدارة وإرشاد تعليمي وفني، ومعالجة مشكلات المتعلم، بالإضافة إلى التعامل مع المنهج الدراسي، والتواصل مع أولياء الأمور، والمجتمع المحيط بالمدرسة
ثالثًا: مجال التعلم واستراتيجياته: وتشمل هذه البحوث استراتيجيات التعلم النشط، وكيفية تغيير حياة المتعلم التقليدية إلى حياة مثيرة من الاكتشافات والاستقصاءات والتجارب التي يقوم بها بنفسه، وكيفية إثراء بيئة تعلمه باستخدام الشبكات الإلكترونية، التي تعني: أن كثيرًا من التعلم الذي يكتسبه التلميذ يمكن أن يحدث خارج حجرات الدراسة التقليدية وذلك في أماكن عديدة داخل المدرسة وخارجها.
رابعًا: مجال المناهج: وتشمل هذه البحوث ما يلي:
- الاتجاه إلى البحوث التربوية في الكشف عن واقع المجتمع والبيئة المحلية والعوامل المؤثرة فيها، وتحليلها إلى عناصر، والكشف عن الإيجابيات والسلبيات.
- الاتجاه إلى المناهج المتكاملة.
- الاتجاه إلى مفهوم (البنية المعرفية) وتكوينها لدى المتعلم من خلال إطار مرجعي يوفره المنهج الدراسي.
- الاتجاهات التربوية في المناهج في ظل النظام العالمي الجديد فيما يتعلق بالدراسات المستقبلية للمناهج.
خامسًا: مجال تكنولوجيا الوسائط المتعددة، وتشمل هذه البحوث ما يلي:
- التعليم عن بعد، والذي لا يتم إلا بوجود تكنولوجيا التعليم فهما مرتبطان تمامًا.
- مفهوم تكنولوجيا التعليم في ضوء نظرية الاتصال.
- تكنولوجيا المؤتمرات عن بعد باستخدام الفيديو.
- المدرسة الإلكترونية.
- أدوار المعلم في التعليم الإلكتروني.
- المكتبة الإلكترونية.
- الكتاب الإلكتروني كبديل للكتاب المدرسي.
- تكنولوجيا الواقع الافتراضي، وتكنولوجيا الفيديوتكس.
- البرمجيات في تكنولوجيا الوسائط المتعددة، ونماذج التدريس بواسطتها.
- متطلبات التحول من التعليم التقليدي إلى التعلم عبر الإنترنت.
- معوقات استخدام الإنترنت في التعليم.
- مشكلات استخدام الإنترنت في مؤسسات التعليم.
تحديات وصعوبات
يُواجه العاملون في مجال البحوث التربوية تحديات داخلية اقتصادية واجتماعية، وتحديات خارجية تتمثل في العولمة، والتكتلات الاقتصادية، وأصبح لزامًا عند القيام بهذه البحوث معرفة التوجهات العالمية المعاصرة في هذا المجال للاستفادة منها في إتمام تلك البحوث.
ولقد كانت التطورات العالمية في ظل النظام العالمي الجديد سببًا مباشرًا في وجود اتجاهات حديثة في سياسة التعليم تحتاج إلى دراسات وبحوث تربوية من بلدان متعددة لتأكيد الاتجاهات الحديثة في ظل التطورات العالمية، ومن أهم هذه الاتجاهات ما يلي:
- النظر إلى التربية على أنها استثمار، ويجب أن يكون العائد منها أكبر من المنصرف عليها.
- النظر إلى التربية على أنها سبب وعامل أساسي للتقدم الاقتصادي.
- الاتجاه إلى أن التربية هي عملية إعداد الأفراد لنوع جديد من النظم والعلاقات تعتمد السرعة في نواحي الحياة في ظل النظام العالمي.
- الاتجاه إلى الارتباط المتزايد بين برامج التعليم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية من ناحية، والتخطيط التربوي من ناحية أخرى.
- الاتجاه إلى أن يشمل التعليم حياة الفرد بأكملها، ويتناول كافة النواحي في المجتمع بما فيها النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية.
- الاتجاه إلى أن الهدف الأساسي من التربية ليس فقط لكسب الفرد المال ليعيش الحياة، ولكن هدفها الأساسي هو مساعدة هذا الفرد على صنع الحياة، وإنتاج المعلومات وتوظيفها في حياته، وليس فقط استيعاب تلك المعلومات.
- الاتجاه إلى تحسين العملية التعليمية من خلال المشاركين فيها.
حلول مشكلات البحث التربوي
ومن واقع البحوث التربوية في البيئة العربية، فإنّ التحديات التي تواجهها هذه البحوث يمكن التغلب عليها من خلال بعض التوصيات أهمها:
- وضع خطة واضحة للبحث التربوي ترتبط بخطط التنمية الشاملة في البلاد.
- توفير الإمكانات اللازمة لإجراء البحوث التربوية والعمل على نشرها.
- تدعيم المكتبات الجامعية بالمراجع العلمية الحديثة والدوريات العربية والأجنبية بالإضافة إلى شبكات الاتصال الإلكترونية.
- توفير بنوك المقاييس والاختبارات اللازمة لقيام الباحثين بتقييم نتائج بحوثهم التربوية، وتدريبهم على التعامل مع البيانات التي يحصلون عليها إحصائيًا.
- نشر بحوث أعضاء هيئة التدريس في المجلات العلمية المحلية والعالمية، وتسويق نتائجها لمُؤسسات وقطاعات المجتمع ذات العلاقة بالبحث التربوي.
- توسيع إيرادات صناديق البحوث التربوية الموجودة في بعض الجامعات وتشجيع المؤسسات التربوية المختلفة على تدعيم هذه الصناديق.
- زيادة ميزانية الدولة المخصصة للجامعات بصفة عامة، والمخصصة للبحوث التربوية لصفة خاصة.
- فرض ضريبة على القطاع الخاص لتمويل البحوث التربوية بالجامعات لدعم صناديق البحوث التربوية.
- إنشاء مراكز بحثية مشتركة بين الجامعة وقطاعات المجتمع التربوية من مدارس ومؤسسات تربوية.
- توجيه أبحاث أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا لتناول مشكلات المجتمع ذات الصلة بالجوانب التربوية لإيجاد الحلول المناسبة لها.
- توعية الباحثين وطلاب الدراسات العليا بأهم الأخطاء الشائعة في البحوث التربوية وكيفية تلافيها.
ومما سبق، فإنه من الضروري وضع خُطة واضحة للنهوض بمجال البحوث التربوية في البيئة العربية، نظرًا لأن هذه البحوث ترتبط بنظم التعليم في المجتمع، في محاولة لتقديم كل ما هو جديد في هذا المجال للنهوض به وتطويره، والانتفاع بما تستخلصه نتائج تلك البحوث في تقدم العملية التعليمية في هذا المجتمع.
المصادر والمراجع:
- الدكتور علي محيي الدين راشد: دراسة بعنوان التوجهات العالمية المعاصرة في مجال البحوث التربوية 2014.
- موقع مبتعث: البحث التربوي أنواعه، ومناهجه، وأخلاقياته.
- موقع النجاح: البحث التربوي.. مفهومه وأنواعه وخصائصه.
- كمال مولوج: معوقات نشر البحوث التربوية في المجالات العلمية.
- سيف بن ناصر المعمري: البحث التربوي في دول الخليج.. الواقع والتحديات.