ابْتُلِيَت الأمة الإسلامية بنَكبات كثيرة على مدار التاريخ، ومن أشدها اليأس الذي يتسرّب إلى نفوس الكثير من الشباب فيهوى به إلى طريق الانتحار والتخلص من النفس؛ نتيجة الاكتئاب، أو الفصام، أو الإدمان، أو أسلوب التربية الخاطئ، وكذلك المشكلات الأُسرية أو العاطفية، إضافة إلى الفشل الدراسي، أو الآلام والأمراض الجسمية والنفسية.
ولأنّ لكل داءٍ دواء، فإنّ علاج هذه المشكلة يعود بالأساس إلى إعلاء الوازع الديني وربط واقع الحياة ومجرياته بالله سبحانه وتعالى، فهو شافي الصدور، وقاضي الأمور، وباعث الأمل في نفوس عباده المؤمنين، وناشر رحمته بين عباده الموحدين، فقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28]، إضافة إلى نصائح تربوية يجب أن تنتبه إليها الأسرة لحفظ أبنائها من هذه الجريمة.
تعريف الانتحار وأعراضه وموقف الإسلام منه
الانتحار هو قتل الإنسان نفسه، بأي شكل من الأشكال؛ مثل: الشّنق، أو الحرق، أو تناوُل السموم، أو تناول جُرعة كبيرة من المخدرات، أو إلقاء نفسه في النهر، أو قتْل نفسه بمأكول أو مشروب؛ لأسباب يعتقد صاحبها معها بأن مماته أصبح أفضل من حياته.
وقد سجّلت هذه الجريمة أرقامًا مُزعجة، حيث نشرت منظمة الصحة العالمية تقريرا عنها في سبتمبر 2019، كشف عن أن شخصًا واحدًا ينتحر كل 40 ثانية في العالم، أي أكثر من الذين قُتلوا في الحروب وعمليات القتل أو سرطان الثدي.
وهناك علامات تظهر على الشخص الذي يُقدِم على هذه الجريمة؛ من أهمها:
1- الاكتئاب: الذي يعني الشعور بالحزن الشديد والتّعاسة، والإحباط، والعجز وعدم القيمة، واليأس من الحياة ومِن تغيُّر الواقع.
2- التغيرات المفاجئة في السلوك؛ مثل: التغير في نمط النوم، أو نمط الطعام، والإهمال في الدراسة أو العمل، وإهمال الشخص لعلاقاته الاجتماعية ولمظهره الخارجي، والتحدث عن الموت بصورة غريبة، وفقْد الاهتمام بالأنشطة المعتادة والانسحاب منها، وفقْد المُتعة في الأمور المحببة إليه، والتحدث عن فقْد الأمل والشعور بالذنب أو اليأس، ونقد الذات، والقلق النفسي.
3- تعاطي المخدرات والمسكرات.
4- القيام بأعمال خطيرة ومبالغ فيها؛ مثل: القفز من مكان مرتفع، أو عبور الطريق وسط سيْرٍ كثيف أو مُسرع.
5- الامتناع عن أخذ دواء ضروري.
6- محاولة فاشلة أو أكثر في تجربة قتل النفس.
وتعد هذه الجريمة من كبائر الذنوب، وهي من المشاكل التي يبثها الشيطان، والوساوس في النفوس، ولو لم يكن بعد الموت بعث ولا حساب، لهانت كثير من النفوس على أصحابها، لكن بعد الموت حساب وعقاب، وقبر وظلمة، وصراط وزلة، ثم إما نار وإما جنة؛ ولهذا جاء تحريم هذه الجريمة، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: 29، 30]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].
وحذر النبي- صلى الله عليه وسلم- من قتل النفس، فقد روى أبو هريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “من قتَل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومَن شَرِب سُمًّا، فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردَّى من جبل، فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا”؛ (رواه مسلم).
أسباب ظاهرة الانتحار
لقد أرجع كثيرون أسباب الانتحار إلى الأمراض العضوية والظروف الاجتماعية وقللوا من دور الإيمان بالله والرضا بما قسمه- سبحانه وتعالى- في التصدي لكل أسباب هذه المشكلة أو الجريمة في حق النفس.
ولا ننكر الأسباب الأخرى، سيما الاجتماعية والاقتصادية، ومشاعر اليأس، والعزلة، والوحدة والتعرّض للتنمر وغيرها، إلا أن السبب الروحي والقلبي يُعد من الأسباب القوية التي تُجنّب الإنسان القدوم على قتل النفس.
ولمّا حاول علماء النفس على مدى سنين طويلة البحث في الأسباب وراء قتل النفس والأفكار التي تدور في خلد وعقل الأفراد الذين يُفكّرون في هذا الأمر بصورةٍ أو بأخرى، ووضعوا أسبابًا كثيرة، فقد تغافلوا السبب الديني.
غير أنّ بعض العلماء المسلمين وضعوا عددًا من الأسباب، مثل:
- ضَعف الوازع الديني عند الإنسان، وعدم إدراك خطورة هذا الفعل الشنيع والجريمة الكُبرى.
- عدم اكتمال المعنى الإيماني في النفس البشرية.
- الجهل والجزع وعدم الصبر، والاستسلام لليأس والقنوط، وما يؤدي إلى ذلك من الهواجس والأفكار والوساوس.
- الانفتاح الإعلامي والثقافي غير المنضبط الذي نعيشه في مجتمعنا المعاصر.
- المشاكل الأُسرية، والفشل، والشعور بالذنب أو الوَحدة.
- لذا وضع الإسلام منهاجًا بين الترغيب والترهيب لكل مَن يقدم على هذا الفعل بعدما أشعل القلب بجذوة الإيمان. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “من قتَل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومَن شَرِب سُمًّا، فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردَّى من جبل، فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا” (رواه مسلم).
- إن قتل النفس فيه تسخُّط على قضاء الله وقدره، وعدم الرضا بذلك، وعدم الصبر على تحمُّل الأذى، وأشد من ذلك وأخطر، وهو التعدي على حق الله تعالى، فالنفس ليست ملكًا لصاحبها، وإنما ملك لله الذي خلقها وهيَّأها لعبادته سبحانه، وحرَّم إزهاقها بغير حق.
علاج مشكلة قتل النفس
وتوصل العلماء إلى عدد من النصائح التي من شأنها إبعاد الإنسان عن التفكير في الانتحار والتخلص من النفس، ومن ثَمّ القضاء على هذه الظاهرة، ومنها:
- الإيمان بالقدر: وهو التصديق الجازم بأن الله سبحانه قد علِمَ مقادير الأشياء قبل حدوثها، فكتب ذلك عنده في اللوح المحفوظ، فكل ما يحدث في الكون من خير أو شر، إنما هو بتقديره سبحانه الذي يقول: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]. وروى مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان”.
- المحافظة على إقامة الصلاة: فذلك من وسائل التغلب على التفكير قتل النفس؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، لذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا نزل به كرب، استعان بالصلاة؛ رجاءَ أن يكشف الله تعالى عنه هذا الكرب؛ روى أبو داود عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ – أصابه أو نزل به – أمرٌ – همٌّ أو غمٌّ – صلَّى”؛ (صحيح أبي داود).
- تلاوة القرآن الكريم: فيقول سبحانه: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا” [الإسراء: 82].
- الإكثار من ذكر الله تعالى، فيقول- جل وعلا-: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا” [الأحزاب: 41 – 43].
- وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أدلُّك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله”.
- حسن الظن بالله تعالى: فقد روى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم، وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً”.
- الصبر على المصائب: قال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
- الاسترجاع: وهو قول المسلم عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، وقد روى مسلم عن أم سلمة- رضي الله عنها- قالت: ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها، قالَتْ: فَلَمَّا ماتَ أبو سَلَمَةَ، قُلتُ: أيُّ المُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِن أبِي سَلَمَةَ؟ أوَّلُ بَيْتٍ هاجَرَ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ إنِّي قُلتُها، فأخْلَفَ اللَّهُ لي رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَتْ: أرْسَلَ إلَيَّ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حاطِبَ بنَ أبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي له، فَقُلتُ: إنَّ لي بنْتًا، وأنا غَيُورٌ، فقالَ: أمَّا ابْنَتُها فَنَدْعُو اللَّهَ أنْ يُغْنِيَها عَنْها، وأَدْعُو اللَّهَ أنْ يَذْهَبَ بالغَيْرَةِ.
- الرضا برزق الله تعالى: ومن وسائل الابتعاد عن التفكير في قتل النفس الرضا برزق الله تعالى؛ قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قد أفلح من أسلم، ورُزق كَفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه”.
- الدعاء: وهو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، يقول تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
- روى الترمذي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ”؛ (صحيح الترمذي).
- حضور مجالس العلم: وهي من الوسائل المهمة التي تساعد المسلم على تصحيح عقيدته، وتساعده في التغلب على الشعور بالوحدة والاكتئاب، وتصرفه عن التفكير في التخلص من روحه، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفَّتهم- تظلهم- الملائكة بأجنحتها وغشِيَتْهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذَكَرَهم الله فيمن عنده” (مسلم).
هكذا، فإن الانتحار جريمة في حق النفس، ورغم تعدد أسبابها يظل ضعف الوازع الديني هو السبب الرئيس في انتشار هذه الظاهرة في كثير من البلدان، لذلك فإن أولياء الأمور والمربين عليهم دور كبير في حماية النشء الصغير من المضي في طريق التهلكة وقتل النفس، بتغذية الإيمان في قلوبهم وغرس الأخلاق الكريمة ومراقبة الله في كل شيء.
المصادر والمراجع:
- ظاهرة الانتحار وموقف الإسلام منها .
- الانتحار.. السؤال عن المصير .
- منظمة الصحة العالمية: حالة انتحار كل 40 ثانية حول العالم ومصر الأولى عربيا
- ظاهرة الانتحار.. كيف عالجها القرآن.
- الانتحار