إنّ التربية بالحب في القرآن من أفضل الأساليب التي ساقها هذا الكتاب الحكيم، فهو المصدر الأول في تربية المسلم، وإعداده في أحسن وأروع صورة؛ وهو المنهاج التربوي الشامل المتكامل الغني بالخبرات التربوية التي تعود بالفائدة الكبيرة على الفرد المؤمن، فلا استقامة للشخصية، ولا للتربية ما لم تكن منبثقة عن كتاب الله؛ إذ ليس هناك منهاجٌ واحدٌ غير المنهج الإلهي يستطيع أن ينهض بحاجات النفوس البشرية، ويغذي عواطفها ومشاعرها، ويتابع نموها وتطورها، ويحقق لها الهداية الكاملة.
ويرى الدكتور محمود خليل أبودف، أستاذ أصول التربية بالجامعة الإسلامية في غزة، أنّ الجفاء في العلاقة بين المعلم والمتعلم، وانحسار لغة الحب في التربية، وتغليب لغة الشدة والقسوة؛ أدى إلى عدم الاكتراث بالدروس والتحصيل، وتدني مستوى الطموح الدراسي، وكراهية بعض الدروس، واتخاذ مواقف سلبية تجاه بعض المدرسين، والإحجام عن التفاعل، والمشاركة في الأنشطة التعليمية داخل الصف وخارجه.
مفهوم أسلوب التربية بالحب في القرآن الكريم
الحب في اللغة نقيض البغض، والحب: الوداد والمحبة، وكذا الحِبُّ بالكسر، وعرّف البيهقي الحُبَّ بأنه يعني: “ميلك إلى الشيء بكليتك محبة له، ثم إيثارك له على نفسك ومالك، ثم موافقتكم له سرًا، وجهرًا ثم علمك بتقصيرك في حقه”، فالحب حاجة تتكون من عنصرين من الصعب الفصل بينهما: الرغبة في الود من الآخرين، والرغبة في الحصول على الحنو، والحنان منهم.
وأما محبة الله للعبد فهي محبة بلا كَيْفٍ، وهي تعني: رحمة العبد واللطف به، كما تعني: إرادة إكرامه، واستعماله في الطاعة، وصونه عن المعاصي، وتوفيقه في فعل الخيرات.
وفي ضوء ما سبق، يعرف الباحث أسلوب التربية بالحب في القرآن الكريم بأنه عبارة عن إخبار الله- عز وجل- عباده المؤمنين (عبر قرآنه الحكيم) عن حبه لهم، أو تذكيرهم بحبهم له، أو الإشارة إلى ما يحبون من الأشياء، أو تذكيرهم بإنعامه عليهم بحب الناس لهم؛ وذلك بقصد استمالة قلوبهم، وتثبيتهم على ممارسة الأفعال الحسنة الموجبة لمودته لهم، والعفو عنهم، والمغفرة لهم، وتحقيق الاستقامة في حياتهم الدنيا، والسعادة في الدنيا والآخرة.
أنماط أسلوب التربية بالحب في القرآن الكريم
من خلال استقراء الآيات القرآنية المتعلقة بأسلوب التربية بالحب في القرآن الكريم، والقيام بتحليلها أمكن تصنيفها إلى الأنماط التالية:
1- إخبار الله- عز وجل- حُبَّه لأصناف من الناس ذَكَرَهُم بأفعالهم وسماتهم، بقصد تعزيز السلوك الإيجابي الصادر عنهم: وقد جاءت في أربعة عشر موضعًا من كتاب الله الحكيم، ومثال ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134).
2- تذكير المؤمنين بحبهم لله- عز وجل-؛ لحثهم على الوفاء بما يترتب عليه من سلوك حسن: وقد جاءت في موضع واحد من كتاب الله في قوله تعالى- مخاطبًا فيه رسله-: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31).
3- تنويه الله- جلت حكمته- إلى ما يحبه المؤمنون من مفاوز، ومنح في الحياة الدنيا؛ لتثبيتهم على السلوك الإيجابي: وقد جاء هذا النمط في موضعين من كتاب الله كما في قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين في ميدان الحث على الجهاد في سبيله عز وجل: {وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (الصف: 13).
4- إخباره- سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين بأنه سيحدث لهم في قلوب الناس مودة؛ لإيمانهم والتزامهم العمل الصالح: وقد جاء هذا النمط في موضع واحد من كتاب الله في قوله- سبحانه وتعالى-: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًا} (مريم: 96).
ومن الطبيعي أن شعور الإنسان بحب الناس من حوله وتقديرهم له، ورضاهم عنه، يساعده على التكيف الاجتماعي ويعينه على ممارسة حياته الاجتماعية بفعالية تامة، ويكسبه ثقة عالية بالنفس، فتكون لديه صورة إيجابية عن ذاته؛ مما يحفزه على التفوق والنجاح.
الأغراض التربوية للتّربية بالحب في القرآن
من خلال استقراء الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع التربية بالحب في القرآن الكريم، ثم القيام بتحليلها وتصنيفها؛ أمكن الوقوف على الأغراض التربوية التالية:
1- التأكيد على تحقيق مدلول الإيمان في سلوك الفرد المسلم: فالإيمان ليس مجرد كلمات ينطق بها الفرد، بل يتعدى ذلك إلى الأفعال، والممارسات السلوكية المعبرة عن الإيمان الصادق، وقد تحددت تلك الممارسات في التالي:
- الإنابة إلى الله- عز وجل- والاستعانة به: عبر عن ذلك ما جاء في قوله تعالى يصف الحال المؤمنين: {ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 148).
- المداومة على العمل الصالح: لقد وعد المولى- سبحانه وتعالى- عباده الذين يعملون الصالحات بأن يجعل لهم مودة في قلوب العباد كما جاء في قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًا} (مريم: 96).
- ومن البديهي أن الفرد المسلم في المجتمع- حينما يستشعر حب الآخرين وقبولهم له- فإن ذلك يزيد من ثقته بنفسه، ويرسخ لديه صورة إيجابية عن الذات، مما يحفزه على المبادرة إلى فعل الخيرات، والمسارعة إلى التفاعل الاجتماعي؛ وبالتالي تزيد إنتاجيته في واقع الحياة.
- اتباع الرسول- صلى الله عليه وسلم: ونلمس ذلك من خلال قوله- عز وجل- مخاطبًا نبيه الكريم- صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31).
- اتقاء المحرمات والتقرب إلى الله بنوافل الأعمال: دل على ذلك قوله- سبحانه وتعالى- في حق المؤمنين المحسنين: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وأَحْسَنُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (المائدة: 93).
2- تعزيز فضائل الأخلاق: فهو من الأغراض التربوية الأساسية لأسلوب التربية بالحب كما نلمسها من خلال القرآن الكريم، والتي تتحقق من خلال تعزيز الفضائل الخلقية التالية:
- الحرص على الطهارة الحسية والمعنوية: فالله- سبحانه وتعالى- يحب عباده الأطهار الذين يحبون أن يتطهروا من الأنجاس والأخباث بدنيةً كانت أم عمليةً: كالمعاصي، والخصال الذميمة، وقد عبر عن هذا المضمون قوله- عز وجل- في محكم التنزيل مخاطبًا نبيه- صلى الله عليه وسلم-: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (آل عمران: 108).
- ملازمة البذل والإنفاق في سبيل الله: فمن أصناف الناس الذين يحبهم الله الذين يداومون على الإنفاق في سبيل الله في كل الأحوال، حيث وصفهم رب العزة بقوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134).
- كظم الغيظ والعفو عن الناس: من الممارسات الأخلاقية التي يحبها الله تعالى كظم الغيظ والعفو عن الناس، كما جاء في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134).
3- تشجيع المسلم على التزام الإحسان في معاملاته مع الناس وعلاقاته بهم: فالحياة الاجتماعية تقوم على التفاعل بين الناس، وإقامة علاقات متشعبة، تحتاج إلى ضبط وتوجيه وترقية، وقد شجع القرآن الكريم الفرد المسلم- عبر آيات التودد واستمالة القلوب- على الالتزام بنهج الإحسان في معاملاتهم مع الناس، وعلاقاته بهم وفق رؤية واضحة ومحددة؛ تتحقق من خلالها مصلحة الفرد والمجتمع، وقد تبين ذلك من خلال التالي:
- الحث على الوفاء بالعهد: ويتضح ذلك من خلال قوله تعالى: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: 4).
- الحث على توخي العدل في الحكم بين الناس: أمر المولى- جلت حكمته- نبيه محمدًا- صلى الله عليه وسلم- بأن يحكم بالعدل حتى وإن كان يتعامل مع المفسدين آكلي الربا السماعين للكذب كما تبين في قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42).
- الأمر بالإصلاح بين المسلمين مع التزام العدل: أمر المولى- سبحانه وتعالى- المسلمين بأن يبادروا للإصلاح بين المتخاصمين المقاتلين، من خلال قوله عز وجل: {وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).
- الثناء على المؤمنين الذين يراعون مقتضى الحال في تعاملهم مع الآخرين: ويتضح ذلك من خلال وصف الله عز وجل لفئة من المؤمنين الذين يحبهم بقوله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54).
- امتداح المؤمنين الذين يقولون كلمة الحق دون خوف من الناس: وقد جاء وصفهم في قوله تعالى: {ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54).
4- تعزيز نهج الجهاد والتضحية في سبيل الله: ويتضح ذلك من خلال قوله تعالى في محكم التنزيل: {وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 146).
أخيرًا
فإن المقاصد التربوية لأسلوب التربية بالحب كما جاءت من خلال القرآن الكريم، تؤدي في نهاية المطاف إلى بناء شخصية نوعية متميزة في: عقيدتها، وأخلاقها، وسلوكها تتصف بالهمة العالية، وتتسم بالمبادرة التي تجعلها تمارس أعلى درجات الفاعلية في المجتمع، وتشارك بدور كبير في: إصلاحه، وتحقيق تنميته، وتغيير واقعه نحو الأفضل في جميع مجالات الحياة.
ومن الضروري أن يجتهد المعلمون- في كل مراحل التعليم- وكذلك الباحثون في مجال التربية، في قراءة القرآن الكريم بتدبر، وحيازة المهارات الأساسية لفهمه، والبحث فيه كي يقفوا على أساليبه الفاعلة والمؤثرة في التربية.
المصادر والمراجع:
- فهد محمد الشعابي الحارثي: معالم التربية بالحب في القرآن .
- التّربية بالحب في الإسلام.
- التّربية بالحب .
- التّربية بالحب .