بعد الأحداث الكثيرة الأخيرة في بلادنا العربية انتابتني حالة من الارتباك بسبب معرفتي بأشخاص مُحبّين للخير ويحفظون القرآن ولكن يؤيدون الحكام الظلمة، وصرت لا أحب التعامل مع هؤلاء الأشخاص، فهل عمل الخير والوقوف في صف الظالم، يجتمعان في قلب رجل واحد؟!
السائل الكريمة..
نقدر حالة الارتباك هذه وهي طبيعية، خصوصًا في بداية تعرّض بلادنا لتلك الأحداث، فتمايز الصفوف يكون على أشدّه في البداية، وبقدر سخونة الأحداث يكون هذا التمايز واضحًا، فلا مجال للمناطق الرمادية، فالناس إما مع أو إما ضد.
لذلك كُشِفَ الغِطاء عن كثيرٍ ممن ظن الناس بهم خيرًا في السابق، كما تنكر آباء من أبنائهم، لأنهم وقفوا في جانب غير جانبهم، وزلزلت البيوت زلزالًا شديدًا.
وبمرور الوقت وتكشف الحقائق ووضوح الرؤية قلّت حدة التمايز، واستمر تمسك كل جانب باختياراته، لكن عاد صوت العقل يحكم، وجُنّبت العواطف بعض الشيء، وحاول الناس فَهم طبيعة الدنيا من اختلاط الخير بالشر أحيانًا، وضبابية الرؤية التي تجعل أناسًا كنّا نظنهم على خير، يحيون في كنف الظالمين، وأصبح الناس يتعاملون مع اختلافاتهم لكن بحذر واجب.
نعم، رأينا أرباب المساجد وشيوخًا على المنابر ومحبي الخير من أقاربنا وأهلينا يؤيدون الظلمة، واجتمع في قلبهم هذا وذاك، ليس لأن فعلهم صحيح، ولكن منهم من طمس الله على قلبه، خصوصًا مَن كان مِن أهل العلم، لأن لديهم المعرفة بأنهم على ضلال ومع ذلك كانوا أبواقًا للظالمين، وفي حقهم رُوِيَت أحاديث مُرعبة، مثل حديث أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة، ومنهم العالم، الذي يلوي عُنق النّص ليُجاري الحُكّام ويحافظ على لُقمة عيشه وحريته، بئس العيش وبئسة الحرية هذه!
وغيرهم مَن اختار الصمت، ولعلّ هؤلاء أفضل ممّن كذبوا على الله، وأولوا آيات القرآن لتجاري آراء الحكام وتوجهاتهم.
يعذرهم البعض بأنهم ترخصوا خوفا، فنقول إنه لا يجوز للعلماء اتخاذ الرخص، فآية: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) تجوز في حق العامة، أما العلماء فكلامهم مؤثر ولهم أتباع، يتسببون في غيهم وإضلالهم!
وحتى لا نقع في هذا الفخ، علينا أن نعرف أسباب الختم أو الطبعِ على القلب التي تجعله لا يفرق بين الحق والباطل، وهؤلاء أصناف من الناس:
- الصنف الأول النفس المعتدية، قال تعالى: (كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) [يونس:74]، فالنفس المعتدية يطبع الله على قلب صاحبها، تلك النفس المتبعة للهوى، والمعاندة، والمستهزئة بالحق يطبع الله على قلب صاحبها جزاء تمسكهم بالضلال مع علمهم بطريق الحق.
- الصنف الثاني ممّن يطبع الله على قلوبهم هم الجاهلون الذين لا يريدون معرفة الحق، حتى لا يتكلفون تبعة الطريق فيختارون الجهل، يصمّون الآذان، فيطبع الله على قلوبهم (كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم:59]، هذا الصنف تحديدًا عايشناه في أهلينا وجيراننا، لا يريدون المعرفة حينما نصحح لهم الرؤية ونوضح المفاهيم المغلوطة، يغيّرون دفة الحديث، لأنهم اختاروا طريق الجهل، ظنًّا أن ذلك سيعفيهم!
- الصنف الثالث هم المستكبرون (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر:35]، جزاء المستكبر، أن طبع الله على كل قلبه، فلا يقتصر الطبع على بعض قلبه، وهذا مما يُفسر لنا بالرغم من وضوح الحق وجلائه نجدهم يختارون صفوف الظالمين وكأن لديهم فصامًا، فأفعالهم لا تتناسب مع ما رأوه وعايشوه كأنهم صم بكم عمي عن الحق، لأنهم يستكبرون!
وبرغم هذا التناقض (اجتماع عمل الخير وحب ومناصرة الظالمين) نوصي السائلة بعدة أمور تخص النّفس والغير:
- الانشغال بالنفس، فمن خِدَع النّفس التفتيش عن الآخر وذمه، وإذا ما انشغلنا بحالنا سنجد من أحوالنا ما يسوء، يقول الشاعر:
متى تلتمس للناس عيبًا تجد لهم عيوبا ولكن الذي فيك أكثر
فسالمهم بالكف عنهم فإنهم بعيبك من عينيك أهدى وأبصر
- كما أن الانشغال بعيوب الناس يُوقعنا في الغيبة والنميمة وسيئ الأخلاق، وهو ما نُهينا عنه صراحة: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، وفي الحديث: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”،
نعم، انكشاف الخلل في القدوات مُربك، واختيارهم لتأييد الظالمين مُحبط، ولعل انكشافهم فيه وجه من وجوه الخير، حتى نحذر من اتباعهم، ونراجع أقوالهم، وهم على ما هُم فيه من سيئ الأحوال فهم أفضل حالا من المنافقين، مَن يبدون شيئا ويبطنون غيره.
- ونوصي السائلة بتزكية النفس دوما “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)” (الشمس).
فاتباع الحق ليس صكًا مضمونًا، والاشتغال على حال القلب وتزكيته وتطهيره من الآفات والآثام هو ما يُورّث في النفس حب اتباع الحق وكراهية الظلم ونصرة الظالمين، والنّفس إن لم نشغلها بالحق شغلتنا بالباطل، وما نشير إليه من العيوب لدى الآخر قد نقع فيه في غمضة عين، لولا أن من الله علينا وشملنا برحمته.
- وكما أن لنا دورًا واجبًا مع النفس، فلنا كذلك دور مع هؤلاء، فلا نمل من دعوتهم، خصوصًا إذا كانوا ذوي قُربى ومن أرحامنا، فعلينا بتذكيرهم (بأن المرء يُحشر مع مَن أحب)، فعلى الكيّس الفطن أن يختر مَن يؤيده، فقد يسعد بوجاهة دنيوية زائلة مؤقتة لتأييده للظالم، ثم تكون عاقبة أمره خسران في الآخرة!
ونبين لهم كيف وهم لا يشعرون قد يقعون في تأييد الظالمين، كما وضّح الإمام أحمد بن حنبل في الحديث الذي دار بينه وبين سجّانه: وجّه حارس السجن سؤالا إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي كان مسجونًا زمن الخليفة المأمون: “يا إمام، قرأت علينا بعد الصلاة الحديث الشريف “من أعان ظالما على ظلمه سلطه الله عليه”، وها أنت تراني، مُجرّد حارس يفتح باب السجن ويغلقه، هل أنا ممن يعين الظالم على ظلمه؟”.
قال الإمام أحمد: “لا، الذي يعين الظالم هو الذي يقص له الشعر ويخصف له النعل، أما أنت فأنت الظالم نفسه، ماذا يفعل الظالم بغير السجان والجلاد؟”.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية في سجنه بسجن القلعة بدمشق، وجاءه جلاده فقال: اغفر لي يا شيخنا فأنا مأمور. فقال له ابن تيمية: والله لولاك ما ظلموا. فلكثير من أهلينا نقول: “أسفًا لولاكم ما ظلموا!”
- وبعد أن نُؤدّي دورنا في نصحهم، لا نبتئس إذا ظلوا على مواقفهم فنذكرك بأنه: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
- ويبقى لنا أن نشملهم في دعائنا، لعل الله يردّهم إلى الحق مردًّا جميلًا، فلأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم، وخير لك من الدنيا وما فيها.
كما ندعو لأنفسنا بالثبات على طريق الحق، وألا نكون ممن يتبع هواه، بل ندعوه بأن يكون هوانا تبعًا لِمَا جاء به سيّد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
- ونَلزم صحبة الخير، التي تقربنا إلى الله، وتذكرنا إذا ما أخذتنا الدنيا وغرتنا الأماني، فالصحبة دائما معينة، ما داموا من أهل الصلاح، والمنشغلين بتزكية النفس وتطهيرها، فالصاحب كما يقولون ساحب، والإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يُؤثّر ويتأثر بمَن حوله، فدقق وأحسن الاختيار.
هدانا الله وإياكم وإياهم لما يحب ربنا ويرضى.